متى ينحاز الإعلاميون إلى الحقيقة؟

2012/11/28
التاريخ : 28/11/2012

رنا الصباغ

الغد – القاهرة –  لن يساهم الإعلاميون العرب في تعميق أجواء الحرية التي تحملها رياح التغيير العاصفة بدول المنطقة إن لم ينزعوا للانتماء الى مهنتهم بدلا من الأنظمة المسيطرة وسائر مراكز النفوذ الرأسمالي والأيديولوجي.

وسيخفقون في استعادة ثقة الشعوب بدور السلطة الرابعة في المساءلة والمراقبة لمصلحة المنفعة العامة والوطن إن أصروا على إبقاء غرف التحرير خارج رياح التغيير ورفضوا الانحياز لمهنيتهم. ولن يساهموا في مأسسة ثقافة المساءلة، المراقبة، مفاهيم دولة المواطنة والمساواة، التعددية، التسامح وتقبل الرأي والرأي الاخر.

من يطالع عناوين عشرات الصحف الرسمية (القومية)، شبه الرسمية او تلك التي تتدعي بأنها “خاصة أو مستقلة”، من يتابع الإذاعات و الفضائيات ضمن تصنيفات الملكية والإشهار السابقة، سيدرك حجم الاستقطاب المسيطر على المشهد السياسي في دول التحول. كما يلمس عمق التهويل والتضليل، وثقافة الحشد والخندقة والتخوين.

عناوين أحادية الجانب تعكس أجندات وروايات رجال الحكم الجديد/ القديم، حكوماتهم والعقل العميق الذي ما يزال يتحكم بتفاصيل إدارة الحكم. أو أنها تعكس مواقف رجال المال والسياسة ممن يريدون عودة الوضع إلى سابق عهده، أو فرض الواقع الجديد بالطول أو بالعرض.

وبين الفسطاطين قلة تسعى لكشف الحقيقة، وعرض الخبر بحد أدنى من التلوين.

من يتابع عناوين الصحف الاردنية منذ بدء الاحتجاجات وارتفاع سقوف الشعارات عقب قرار رفع الدعم عن الغاز والمحروقات وما تلاها من تداعيات، سيضيع بين تعدد الروايات. ولربما عكس سؤال صحافي إلى مدير الأمن العام خلال مؤتمره صحفي قبل أسبوعين حجم الضياع في المرجعية الذهنية والمهنية لعدد كبير ممن اختاروا مهنة المتاعب. سأله ذلك الشاب: “كيف تنصحنا بتثقيف المواطن” حول ما يدور في الأردن. فرد عليه الفريق حسين المجالي: “لا توجه هذا السؤال لي… وجهه إلى زملائك في المهنة”.

في حفل انطلاق مؤتمر صحافة التقصي في العالم العربي في القاهرة يوم الجمعة، احتدم النقاش بين متحاورين رئيسيين، أحدهما يمثّل الإعلام الموالي للإخوان المسلمين الذين صعدوا للحكم عبر صناديق الاقتراع وكاتب يساري يعارض ما يصفه بالواقع “الكئيب؛ محاولة إقامة نظام فاشي في مصر والخوف على الحريات الإعلامية ومكاسب الثورة”.

التهبت الاجواء والمشاعر بين رجال المرحلتين.

في تونس، حال مصر، يشكو الإعلاميون من محاولة حزب النهضة الإسلامي التحكم بوسائل الإعلام العامة للسيطرة على عقول الناس وأفئدتهم باستخدام ذات الوسائل القانونية والأدوات السياسية عبر وضع رؤساء ومدراء تحرير موالين للحكومة. وكذلك تهديد وضرب وسجن صحافيين. بالطبع، تنفي الحكومة هذه الاتهامات وتحمّل وسائل الإعلام مسؤولية العنف السياسي المتنامي وتتهمها بتلقي تمويلا من “رجال أعمال وساسة انتهازيين جمعوا ثروات بعضها حلال وحرام خلال العهد البائد”.

في مصر وتونس محاولات لتقييد الحريات الإعلامية في الدساتير قيد الإعداد. في الأردن تعايشنا مع جدل فرض الرقابة على المواقع الإخبارية بينما يستمر التدخل المباشر وغير المباشر في سقوف التغطيات اليومية. التلفزيون الأردني الذي يموله دافعو الضرائب يتجاهل ما يدور في الشارع من احتجاجات، ولا يعكس الا الموقف الرسمي ومن يتبنّوه.

في دول التحول صوب الديمقراطية، انتزع صحافيون الحريات، حالهم حال المواطنين. انكسرت عقدة الخوف إلى غير رجعة.. لكن اعتداءات الحكومات المتكررة وبطشها بالصحافيين أضاع هذه البدايات، وتنامت الانتهاكات ضد الإعلاميين من ضرب وشتم وتهديد بالقتل، فيما أفلت المعتدون من المساءلة.

تقارير منظمات دولية تحذّر من هشاشة الوضع السياسي والإعلامي في هذه الدول لأن جهاز الرقابة الذي فرضته الأنظمة السابقة قادر على النهوض من تحت الرماد.

لن يستفيد الإعلام والعاملون في هذا القطاع الحيوي الذي يشكل رافعة للديمقراطية إن أصرّ على البقاء في خانة من يحركون مسرح الدمى في الخفاء، وأصر على قمع الرأي الاخر، ولم يستغل الظروف الموضوعية والمهنية والقانونية للحصول على المعلومات ونشرها دون حسابات سياسية. لن ينهض الإعلام المؤثر في تشكيل الرأي العام وفي حماية الحريات إن لم يشكل على أسس مهنية ولم يطابق الصحافي أقوال المسؤولين مع أفعالهم، يحاسب المنتخبين على شعاراتهم الانتخابية، ولم يصر على انتزاع الاجابات من كل من يأخذ معاشه من دافعي الضرائب.

فالديمقراطية لن تنمو وتترعرع إلا بوجود حريات. والخطر الداهم الآن هو غياب التسامح، التعددية والإصرار على حماية حقوق الفئة المتنفذة من سطوة الغالبية. لا بد للصحافيين من العمل على تحويل ولائهم للحقيقة مهما واجهوا من انتقادات.

ويا ليت يتوقف الإعلاميون أمام ما قاله الإعلامي المخضرم تيم سباستيان في كلمته أمام هذا المؤتمر: “في شتى أنحاء العالم، حيث بلغت فيه القدرة على التواصل والوصول الى المعلومات درجة غير مسبوقة، يموت التسامح… التسامح تجاه أفكار وآراء لا نوافق عليها… والنتيجة أننا جميعا نصبح أشد فقرا”.

ويضيف سباستيان: “في الحقيقة، هناك دائما شيئ ما في مكان ما سيضايق شخصا ما. فإن كان هذا يشكل سببا لمنعه، فإننا جميعا سنواجه أعمال المنع. وستموت تدريجيا الثقافة، حرية التعبير كما نعرفها، وتقرر الجماعات الغوغائية المتصارعة ما الذي يسمح لنا جميعا بمشاهدته، أو سماعه او قراءته. ما من عمل فني، أو تمثال، او صورة، او فيلم او كتاب، او مسرحية اومقالة ستكون في منأى عن هؤلاء الذين يسعون لتدميرها”. ويعرب عن الخشية من تعمق “هذا المنحى الذي نتحرك نحوه، ما لم نقف جميعا دعما لحرية التعبير، ليس فقط من أجل أنفسنا، بل للجميع، من أعجبتنا آراؤهم أم لم تعجبنا. في النهاية، فإن هذه الحريات هي الحماية الوحيدة التي نمتلكها”.

لن ينجح الاعلام إن أصر على حقه في مساءلة الآخرين، دون أن يقر بحقهم في مساءلته.

من مهام الصحافيين المقدسة، خصوصا الذين يسعون لشق طريقا ثالثة- كشف عمق الغضب من شرعنة الفساد والإفساد، تداخل السلطات، هدر الموارد، ومضار حكم الفرد المدعوم بجهاز أمني ضارب أصبحت مسؤوليته الأولى حماية الحاكم وبطانته المتواطئة المكونة من: “حاضر سيدي” عبر تكميم الافواه، التهديد بقطع أرزاق أو رقاب العباد، دون أدنى مساءلة.

ولا بد من الاستفادة من ارتفاع سقوف حرية التعبير في عالم الفضاء الافتراضي وداخل غرف التحرير. لكن التغييرات العميقة والمفاجئة ستفشل في استعادة ثقة الشعوب بالإعلام ما لم يصاحبها ثقافة مجتمعية تحترم حق التعددية واختلاف الرأي، وكوادر إعلامية تؤمن بانحيازها لمهنة المتاعب وتعمل على صقل مهاراتها.

أخبار ذات صله