
السبيل – شاهناز أبو حجلة – تعلمنا التجارب التي نمر بها أن هناك فرقا شاسعا بين ان نتحدث عن الفعل والمفعول بهم، وبين ان نكون نحن ضحايا للفعل نفسه. فالحديث عن الألم الناتج عن الاحتراق بالنار هو مجرد كلمات لا وزن لها، لأنه ينقصها ثقل التجربة. لكن الاحتراق بالنار تجربة حية تحفر الألم الناتج عنها في الذاكرة حتى الممات.
في يناير الماضي من هذا العام كنت قد قرأت تحقيقا صحفيا بعنوان(أسرة سوداء) أعده الزميل مصعب الشوابكة يكشف عن مشكلة استغلال المرضى من قبل أطباء ومستشفيات في القطاع الخاص، من خلال زيادة قيمة الفواتير الطبية حتى وصلت الزيادة في بعض فواتير المستشفيات الخاصة الى 60% عن القيمة الحقيقية للفاتورة، علاوة على إجراء فحوصات طبية ومخبرية وإشعاعية وتداخلات جراحية، وصرف أدوية لا يحتاجها المرضى.
تضمن التحقيق الذي استعان فيه الشوابكة بكاميرا مخفية بالإضافة الى مراجعة عشرات التقارير الصادرة عن وزارة الصحة ولقاءات مع مسؤولين في القطاع الطبي، استمرت نحو عام، تضمن قصصا وحقائق
هي أغرب من الخيال خصوصا ان مسرحها هو قطاع نفترض فيه تغليب الوازع الأخلاقي والإنساني على شهوة الربح.
أما المصيبة الأعظم، كما بين التحقيق، أن أكثر من 60% من شكاوى المرضى لدى نقابة الأطباء لآخر خمس سنوات كانت تحفظ، مما يظهر مدى القصور في رقابة وزارة الصحة ونقابة الأطباء الأردنيين ونقابة أطباء الأسنان عبر السنوات الماضية، في حماية المرضى الأردنيين والعرب من مظاهر استغلال، وجشع، وسمسرة، بعض أطباء ومستشفيات خاصة، حيث أن أكثر شكوى المرضى لدى هذه الجهات تؤول إلى الحفظ عبر التضامن السلبي، وغياب عقوبات رادعة بحق المخالفين.
لكنني ما كنت أظن أن اقع أنا وأسرتي ضحية لهذا الاستغلال البشع الذي كنت قد قرأت عنه قبل أشهر فقط ومن قبل أطباء من أصحاب الأسماء اللامعة وفي إحدى المستشفيات الخاصة ذائعة الصيت.
والواقع في هذا الفخ أنه لم يكن ناتجا عن غفلة منا، ولكنه ناتج عن الخوف على الأحبة والبحث عن أفضل خدمة صحية لهم.
قهر شديد وغضب أشد يتملكني من تجربة عشناها منذ ما يقارب من ستة أشهر، وما زلنا مع الأطباء والمستشفيات الخاصة. تجربة مريرة اكتشفت خلالها كيف تحولت مهنة انسانية كمهنة الطب الى تجارة تتغلب فيها شهوة الربح على أبسط القواعد الأخلاقية للتعامل الإنساني.
اسماء لامعة يتهافت الناس على أبوابها طمعا في الأفضل ليكتشفوا انهم ليسوا الأفضل حتى في مهنتهم، فضلا عن أنهم ليسوا الأفضل في أخلاقياتهم ولا في إنسانيتهم.
وبدون الدخول في التفاصيل، فقد كانت حصيلة التجوال بين عيادات الأطباء وإحدى المستشفيات الخاصة، رغم ما تكبدناه من تكلفة مادية عالية، كانت الحصيلة تساوي الصفر، لا نتيجة. والذي يدمي القلب ويحزنه أن أيا منهم لم يحاول الاجتهاد والبحث في سر حالة لم يستطع احدهم ان يعطي لها تفسيرا او تشخيصا إذ أنني كنت سأقول في حينها (أن علينا السعي وليس علينا ادراك النجاح) لأن الشفاء من الله تعالى وليس غيره لكن الله أمرنا ان نتقن اعمالنا ونجتهد. وانما اكتفى كل واحد منهم بتحويلنا الى آخر دون جدوى. وأظن، وإن كان بعض الظن إثم، ان أيا منهم لا يريد ان يضيع وقته في القراءة والبحث والتفكير في حل مشكلة معقدة لأن الوقت بالنسية لهم يعني مال Time is Money لا يجوز ان يهدر.
ما دفعني الى الخوض في موضوع صار اللسان مرا من كثرة الحديث عنه هو التقرير الذي عرضته قناة الجزيرة في التاسع عشر من أيار الجاري عن معرض للوثائق والمخطوطات الطبية الإسلامية والعربية الذي اقيم في لندن. حيث بدأ المعهد الملكي للأطباء في لندن بعرض مجموعة من الوثائق والمخطوطات الطبية الإسلامية والعربية النادرة للجمهور البريطاني.
إن الملفت في هذا التقرير أنه ذكر بأن بعض المخطوطات تسجل كيف ان قادة الحملات الصليبية على العالم الاسلامي كانوا يثقون في الأطباء العرب اكثر من نظرائهم الغربيين، وأكد ذلك في التقرير البروفوسور شارلز بيرنت Charles Bernett (استاذ الحضارة الاسلامية في معهد ويربوغ Warburg في جامعة لندن، الذي قال: (نحن نعلم من السجلات المسيحية للدول التي خاضت الحروب الصليبية، ان الأطباء العرب او الذين تدربوا في معاهد عربية اسلامية كانوا اكثر كفاءة من نظرائهم الأوروبيين.). كما تكشف بعض المخطوطات الأخرى، كما جاء في التقرير أيضا، عمق المعرفة الطبية لدى العرب والمسلمين ومستوى التخصص العالي الذي وصلوا اليه في تشخيص وعلاج الأمراض وحتى في مجال تدريب الكوادر الطبية.
ترى ما الفرق بين اطباء العرب والمسلمين في تلك العصور وبين اطباء العرب والمسلمين في عصرنا هذا؟ وهل حجم الاسهام الذي يقدمه الأطباء العرب والمسلمون اليوم يضاهي او يقترب حتى من حجم الإسهام الذي قدمه نظراؤهم في نهضة الطب الحديث في الغرب في تلك العصور، كما تبين تلك الوثائق والمخطوطات ؟؟
الفرق بين هؤلاء وبين اطباء اليوم هو خشية الله اولا، ثم الإخلاص في عملهم في تعاملهم مع مرضاهم ثانيا، وفهمهم العميق لأخلاقيات وإنسانية المهنة التي يعملون بها ثالثا، وهو أمر غاب عن كثير من الأطباء اليوم الى حد البشاعة والفزع، ولن اقول اكثر من ذلك. لقد وهب اطباء الأمس انفسهم لعلمهم لا لجمع المال. وانا لا اتحدث بمثالية ولكن الإنسان، بأقل تقدير، مع حرصه على جمع المال عليه ان يكون مستحقا بكفاءته وعلمه وانجازاته لهذا المال.
مقالي هذا لا ينفي وجود أسماء مضيئة جدا بين الأطباء وهي كثيرة جدا، وندعو الله لنا ولكم ان نتعثر بهم دوما.
للإطلاع على التحقيق كاملا