https://arij.net/investigations/unauthorized-constructions

أبنية مخالفة بعيداً عن الرقابة

2024/02/25
التاريخ : 25/02/2024

إسراء الأعرج وفاطمة عفيشات

يكشف التحقيق عن كيفية تمكن مالكي بعض الإسكانات من بناء شقق بمخالفات فنية وتنظيمية في ظل عدم ممارسة الجهات المانحة للتراخيص دورها الرقابي وعدم تفعيل دور لجان التفتيش.

بعد أشهر من البحث عن منزل تشتريه ختام وزوجها (المُتوفى حالياً)، تمكنا أخيراً من الحصول على “بيت العمر”؛ شقة بمساحة 140-150 متراً، في شارع الثلاثين الواقع بمنطقة الروضة في إربد بالأردن.

وعلى الرغم من أن الخبير الذي عاين الشقة نصحهما بعدم الشراء آنذاك؛ إلا أن ختام وزوجها أقدما على شراء الشقة الواقعة في طابق التسوية، بعقد إيجار ينتهي بالتمليك.

عن طريق البنك، تمكّن الزوجان من شراء الشقة، التي ظنا أنها ستكون “نجاة” وخلاصاً من شقق الإيجار، وما يعنيه ذلك من أعباء مالية لا تنتهي؛ ولن تفضي في النهاية إلى “تمليك”.

لم يمضِ وقت طويل حتى اكتشفت ختام عيوب الشقة؛ بدءاً من عيوب الإنشاءات التي ظهرت على هيئة تشققات متفرقة على الجدران، إلى هبوط في الأرضية وترشيح المياه، وانتهاءً بتمديدات الصرف الصحي والعزل؛ حتى إنها استيقظت وأبناؤها ذات صباح على وقع صوت الأمطار، وقد غرقت الشقة بالمياه.

بحسب ما تروي ختام، أخبرها مالك الإسكان حينها أن الحل يتطلب الحفر من الخارج والعزل على كلفتها الخاصة؛ ما أثناها وزوجها عن القيام بذلك.

قبل أربعة أعوام ازداد الوضع سوءاً، فتقدّمت ختام بشكوى للمحافظ؛ على إثرها فحصت لجنة فنيّة الشقة، فتبيّن وجود كسر في المزراب داخل الجدار. طلبتْ من مالك الإسكان حينها إجراء الصيانة، إلا أنه لم يستجب. لجأت ختام إلى صندوق الخدمات الذي يشترك فيه قاطنو العمارة، وحلت الأمر مؤقتاً. لكنّ المشكلات ظهرت مجدداً، الواحدة تلو الأخرى، ومن جديد -وبحسب ختام- تقوم لجنة فنيّة بفحص المنزل؛ ليكتشفوا في نهاية الأمر، أن المشكلة في “الأساسات”.

 

تحولت صيانة الشقة إلى “كابوس” رافقها على مدار عقد كامل، تقول ختام: “كل سنة فيه ورشة، صرت دافعة أكثر من عشرة آلاف دينار أردني”.

حالة ختام ليست الوحيدة من بين مالكي الشقق في إربد، بل يوجد غيرها كثيرون يعانون المشكلات نفسها في منازلهم، بعد أن دفع بعضهم كل ما يملك في “شقة العمر” واستدان البعض الآخر في سبيل ذلك.

فايزة حسن كانت واحدة ممن قابلناهم، وشقتها واحدة من عدة شقق رصدناها خلال العمل على التحقيق. “مساحة بيتي مبنية غلط”، تقول”حسن” وتتذكر حضور موظف البلدية طالباً الدخول لشقتها لفحص المكان؛ أملاً في إيجاد مساحة يشقّ فيها باباً كمدخل للعمارة من جهة المصفات الستة الموجودة. تطلعنا فايزة على مخطط منزلها والمنزل المجاور، وتقول إن شقتها والشقة المجاورة من المفترض أن تكونا مصفات للسيارات.

في الشهر الأخير من عام 2009، اشترت فايزة حسن شقة في طابق التسوية، في عمارة مكونة من عشر شقق بإربد. ورغم أن مساحة الشقة لم تتجاوز الـ 118 متراً، إلا أن هذه الشقة جاءت بالكاد على قدر ما ادّخرته خلال سنوات عملها معلمة، بل إن مواصفات البيت تطابقت مع ما كانت تبحث عنه؛ منزل لا يحتاج إلى مصعد أو درج لدخوله، نظراً لحالة والدتها الصحيّة.

تشتكي فايزة رداءة التمديدات الكهربائيّة، والرطوبة في الجدران والتشققات التي تملأ أركان المنزل، وتقوم بإصلاحها بين الفينة والأخرى. لكنّ أكثر ما تضيق به نفسها أنها مضطرة إلى إغلاق ستائر الشقة طيلة الوقت؛ لأن نوافذها مطلة على مواقف السيارات من الجهات كلها.

 

مخالفات بالجملة… أطرافها مكاتب هندسية ومقاولون وبلديات

يقول المهندس أحمد ملكاوي إن الأصل في أيّ معاملة بناء، أن تمر بعدة مراحل؛ تبدأ بفحص التربة، ثمّ وضع تصميم هندسي للإسكان تتمّ مصادقته من نقابة المهندسين، “وهو ما لا يحدث عادة” وفق ملكاوي. بل إن التجاوز عن فحص التربة وصل في بعض البلديات لنسبة مئة بالمئة.

ملكاوي -الذي شغل منصب نقيب المهندسين في إربد منذ عام 2018 وحتى 2021- يقول إن ما لفت انتباهه حينها “وجود فروقات واضحة بين المساحات المُرخصة، وفقاً لدائرة الإحصاءات العامة، والمساحات المرخّصة في نقابة المهندسين”، ما يعني أن هناك معاملات لم تمر بالنقابة مطلقاً، بحسب ملكاوي.

يضيف ملكاوي أن لجنة شُكّلت للكشف عن المباني قيد الإنشاء، بالتعاون مع البلديات، ليتبين وجود 26 حالة تزوير في المعاملات الإنشائيّة، تتعلق بتزوير أختام رسمية، ما بين أختام النقابة أو أختام الدوائر المعنية في البلديات.

أجرى ملكاوي حينها دراسة تحليليّة -نفذتها نقابة المهندسين- عن واقع البلديات الموجودة في ثماني عشرة بلدية في محافظة إربد، شملت جزءاً يسيراً تجاوز الأربعة آلاف معاملة، وليست كل المعاملات المُقدّمة للبلديات.

تبيّن من الدراسة أن 67 بالمئة من الأبنية لم تخضع لنظام البناء الوطنيّ، ولم تُدقق حسب المعايير الفنيّة لنقابة المهندسين، في تجاهل لدورها كحلقة في سلسلة منظومة تراخيص البناء والإنشاءات.

عام 2019، أجرت هيئة النزاهة ومكافحة الفساد تحقيقات أولية في قيام “مكتب هندسي” يملكه مسؤول في بلدية إربد الكبرى، بتزوير ستة عشر مخططاً هندسيّاً، إلى جانب تزوير ختم نقابة المهندسين. وعلى الرغم من “ثبوت جريمة التزوير”، لم تثبت التهمة على صاحب المكتب الهندسي وأعلنت المحكمة براءته.

لا تقف المشكلة عند تجاوز نقابة المهندسين في الحصول على التراخيص أو تزوير المصادقات، بل وصل الأمر إلى التلاعب في تنفيذ مخططات التصميم والبناء.

قبل ثلاثة أعوام، قامت “لجنة متابعة تطبيق قانون البناء الوطنيّ”، مكونة من موظفين من البلديات والشرطة والدفاع المدنيّ ونقابة المهندسين ووزارة الأشغال، بالكشف عن منشآت قائمة أو يجري تنفيذها في محافظات الشمال الأربع؛ إربد وعجلون وجرش والمفرق، فتبيّن وجود مخالفات في نحو 50 بالمئة من هذه المنشآت، تتعلق بعدم مطابقة البناء لمُخطط التصميم أو عقد المقاولة.

يقول عثمان الوشاحي، الرئيس السابق للجنة المتابعة، إن هناك مشكلة حقيقية في عمل المقاولين الذين يصادقون غالباً على عقود شكليّة.

عقود صوريّة: حبر على ورق

كلام الوشاحي وتعليقات رافقت منشوراً ما زال يظهر على صفحة نقابة المقاولين، دفعنا للبحث أكثر في انتشار “الختّيمة”. تقرير نقابة المقاولين لعام 2022، أشار إلى ضرورة القضاء على هذه “الظاهرة” (الختّيمة)، التي وضعتها النقابة على قائمة أولويات عملها في أكثر من موضع.

تنتشر على صفحات الفيسبوك إعلانات كثيرة، يُروّج فيها مقاولون لعقود صوريّة، تأتي كلها على نسق متشابه، “عقود مقاولة… دينار للمتر الواحد للمساحات الكبيرة”.

التقينا المقاول حسني جربوع، الذي عمل نائباً لرئيس اللجنة المُكلّفة بمتابعة تنفيذ قانون البناء الوطنيّ آنذاك، فأكد أن المستثمرين يلجؤون إلى مقاولين صوريّين من أجل حصد أرباح أكثر.

يشرح الجربوع أن المقاول غير المصنف يتقاضى اثني عشر ديناراً أردنيّاً على المتر المربع الواحد، في حين يتقاضى المقاول المُصنّف نحو خمسة عشر ديناراً أردنيّاً للمتر المربع الواحد؛ ما يعني أن اللجوء لهذا الالتفاف يوفّر على صاحب الإسكان أو المستثمر مبالغ مالية كبيرة.

رحلة البحث عن الحقوق

في رحلة قد تمتد لسنوات، يلجأ العديد من مالكي الشقق إلى القانون؛ للحصول على تعويض مادي، مقابل ما وقع عليهم من ضرر. إلا أن بائعي هذه الشقق يلجؤون إلى وضع “شروط مجحفة” في عقد البيع، تحرم المشتري من المطالبة بحقوقه في حال تبيّن وجود عيوب في البناء.

واستناداً للمادة 491 من القانون المدنيّ، فإنه في حال استلم “المشتري” الشقة السكنية بصورة صحيحة، فإن مالك البناء غير مسؤول عن ما يلحق الشقة المُباعة بعد ذلك من أضرار، وبالتالي لا يحق للمشتري المطالبة ببدل عطل أو ضرر.

المادة 788

  • إذا كان عقد المقاولة قائماً على تقبل بناء يضع المهندس تصميمه على أن ينفذه المقاول تحت إشرافه كانا متضامنين في التعويض لصاحب العمل عما يحدث في خلال عشر سنوات من تهدم كلي أو جزئي فيما شيداه من مبان أو إقامة من منشآت. وعن كل عيب يهدد متانة البناء وسلامته إذا لم يتضمن العقد مدة أطول.
  • يبقى الالتزام في التعويض المذكور ولو كان الخلل أو التهدم ناشئاً عن عيب في الأرض ذاتها أو رضي صاحب العمل بإقامة المنشآت المعيبة.
  • وتبدأ مدة السنوات العشر من وقت تسلم العمل.

المادة 789

إذا اقتصر عمل المهندس على وضع التصميم دون الإشراف على التنفيذ كان مسؤولاً فقط عن عيوب التصميم وإذا عمل المقاول بإشراف مهندس أو بإشراف صاحب العمل الذي أقام نفسه مقام المهندس فلا يكون مسؤولاً إلا عن العيوب التي تقع في التنفيذ دون عيوب التصميم.

القانون المدني الأردني قانون رقم (43) لعام 1976

يرى المحامي ثامر عبيدات بأن مسؤولية أيّ أخطاء أو خلل في البناء، قد تقع على المقاول إلى جانب المهندس وصاحب البناء؛ فالخطأ مشترك ولا يتحمّله شخص واحد فقط.

وأوضح عبيدات ضرورة الانتباه “للمدد القانونيّة” في تقديم الشكوى؛ لأنه بعد مرور ستة أشهر من ظهور الخلل في البناء، وعدم الإبلاغ عن هذا الخلل، قد يحرم مالك الشقة من حقه في الحصول على تعويض، فتفوت عليه الاستفادة من الكفالة العشرية.

 

مَن المسؤول

يقول عثمان الوشاحي، رئيس لجنة المتابعة، إن الأصل هو وجود لجان تفتيش على المواقع أثناء تنفيذ عملية الإنشاء؛ إلا أن اللجان عادة ما تتحرك بعد تقديم شكوى من مواطنين أو من جهة حكوميّة، علماً بأن هذه اللجان منوط بها إجراء تفتيش دوريّ، وفقاً لنظام الرقابة والتفتيش. وشدّد الوشاحي على ضرورة أن تُطبّق القوانين على المخالفين بشكل صارم، لافتاً إلى وجود لجنة واحدة فقط تغطي محافظات الشمال.

أما المقاول حسني جربوع، فأشار إلى ضرورة أن يؤدي “مجلس البناء الوطنيّ” دوراً أكثر فاعلية وأن تقوم لجان التفتيش بدورها، وألا يتمّ ترخيص أيّ بناء من البلديات من دون وجود مقاول. وأضاف جربوع أن بعض البلديات في إربد تسمح بمرور المعاملات من دون وجود عقد مقاولة للمباني، التي تقل مساحتها عن 300 متر مربع؛ محذراً من وضع المباني في إربد بالقول: “المباني هاي لو بيجي زلزال بتقع”.

وشدّد المقاول حسني جربوع على ضرورة وجود عضو من البلدية، ونقابة المقاولين ونقابة المهندسين، والدفاع المدنيّ والشرطة في لجنة المتابعة والتفتيش.

المادة 6- للجان التفتيش الرقابية إجراء أي من الكشوفات التالية أثناء تنفيذ مشاريع الإعمار:

  • أ- التفتيش مستعجل ويتم نتيجة حدوث انهيار أو أضرار أو إشكالات تتعلق بالتنفيذ.
  • ب- التفتيش الدوري ويتم بشكل منتظم ومخطط لأهداف وقائية.
  • ج- تفتيش المتابعة ويتم للتأكد من تصويب المخالفات التي سجلت بالتفتيش السابق.
  • د- التفتيش الخاص ويتم بناء على طلب إحدى الجهات الرسيمة أو النقابات ذات العلاقة حول وجود مخالفات في أعمال الإعمار.
  • ه- تفتيش التحقق ويتم بناء على ورود شكوى من أحد المواطنين أو من خلال وسائل الإعلام.
  • و- أي كشوفات أخرى يطلبها المجلس.

من جهته، حمّل المهندس أحمد ملكاوي البلديات المسؤوليّة الأكبر عن المخالفات، مبيناً أن مخالفات البناء لا تقتصر فقط على الشقق السكنية، بل تمتد لتطال محلات تجارية. لافتاً لوجود أبنية أقيمت على رخصة إنشاء لمبنى بمساحة 149 متراً مربعاً فقط.

وبحسب ملكاوي، فإن حجم المشكلة أكبر بكثير ممّا يتخيل البعض، مؤكداً أن الموضوع الأخطر هو سلامة المواطنين، علاوة على تفويت فرص عمل وضياع استحقاقات ماليّة لخزينة الدولة.

مجلس البناء الوطني أجرى العام الماضي زيارات تفتيشية على ألف و420 مشروعاً، عقب حادثة عمارة اللويبدة في عمّان، وعلى إثرها أوقف المجلس العمل في 765 مشروعاً.

 

لذا توجهنا إلى مجلس البناء الوطني، لمعرفة الدور الذي تقوم به لجنة التفتيش في إربد. توضح أمين سر مجلس البناء الوطني، المهندسة منى البلاونة، أن لجان التفتيش الرقابيّة لا تحل محل الجهات المانحة للترخيص، ولا تعفي بلدية إربد أو نقابة المقاولين أو نقابة المهندسين من القيام بدورهم؛ مؤكدة أن المجلس الوطنيّ للبناء لا يتحمل مسؤولية انهيار مشروع على سبيل المثال.

ووفق البلاونة، يختص المجلس بالرقابة على الأبنية قيد الإنشاء، وفي حال كان هناك تغيير على المخطط يتمّ إيقاف المشروع لحين تصويب الخطأ، أما في حالة عدم وجود المهندس المشرف أو كادر العمل، فيُمنحون مهلة لا تتجاوز الخمسة أيام لتصويب الأوضاع. وفي حال تلقي شكوى بوجود أيّ عيب كلي أو جزئي، تقوم اللجنة بالتفتيش وعمل تقرير فنيّ، وتحديد الجهة المسؤولة عن العيوب وإلزامها بالتصويب على نفقتها.

وتلفت البلاونة إلى أن المشكلة الأساسيّة بين المجلس والبلديات تكمن في الرخص الأولية، مشيرة إلى أن بعض البلديات تمنح المالك إذناً للإنشاء بناء على مخططات مقترحة؛ ما يعني احتمالية تغييرها عند التنفيذ، إضافة إلى المصادقة على مشروعات بمخططات “كروكي”، لا تمر على نقابة المهندسين.

من جهته، لا ينفي المهندس منذر العطار، مساعد رئيس بلدية إربد لشؤون التنظيم والترخيص، منح البلدية رخص البناء على مخططات مقترحة، مضيفاً أنه على سبيل المثال، يُقدّم طالب الحصول على الرخصة مخططاً مقترحاً لبناء مئة وتسعة وأربعين متراً، لكن عند التنفيذ يتجاوز المساحة المحددة، وتجيز البلدية الزيادة على المخطط، بما لا يتجاوز خمسين متراً.

ويوضح العطار أن الأبنية التي لا تتجاوز مساحتها مئة وتسعة وأربعين متراً، لا تحتاج إلى فحص تربة، فيلجؤون إلى هذه الحيلة تهرباً من عملية الفحص. التجاوز عن فحص التربة، ثغرة أخرى أشارت إليها البلاونة، مؤكدة أن فحص التربة ضرورة لأيّ مخطط هندسيّ.

حقوق ضائعة

تقوم ختام بين الحين والآخر بأعمال صيانة دوريّة لمنزلها على نفقتها الخاصة، بعد أن وعدها ابن صاحب الإسكان (المُتوفى والده)، وهو أيضاً المشرف على أعمال المقاولة، بإجراء كل أعمال الصيانة؛ إلا أنه غادر خارج البلاد بمجرد انتهاء شركة الإسكان من أعمالها، وفق ختام. ومنذ ذلك الحين، تدّخر ختام “قرشها الأبيض” لأوقات الصيانة، التي باتت أمراً اعتيادياً في حياتها، تقول ختام: “الناس بتحكي بيت يسترهم، إحنا البيت كان لنا ابتلاء”.