داود كتّاب
عندما خرج للعالم بـ”ويكيليكس”، قال مؤسس المشروع إن “الشجاعة معدية”، في أمل منه أن يقوم أفرادٌ في مواقعَ مهمةٍ بالاستمرار بعملية كشف المستور، وتسريب معلومات مهمة للصالح العام.
هذا المبدأ ربما شجّع أحد العاملين في مكتب “موساك فونسيكا” للمحاماة، في دولة بنما، وهو يعمل في مجال الخدمات بأن يسرب كمّاً كبيراً من المعلومات حول شركات “الأوفشور” منذ أكثر من سنة.
“الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين”، ومقرّه واشنطن، أوضح على موقعه الإلكتروني أن الوثائق المسربة تحتوي على بياناتٍ تتعلق بعمليات مالية لأكثر من 214 ألف شركة أوفشور في أكثر من 200 دولة ومنطقة حول العالم.
لم يتوقف الأمر عند عملية التسريب. فمن بين ملايين الوثائق المسربة هناك مجموعة من القصص والتحقيقات بحاجة إلى متابعة وتمحيص، لذلك تشكلت مجموعة ضخمة من الصحفيين (حوالي 330 صحفياً من أكثر من مئة مؤسسة إعلامية) حول العالم، وتم توزيع المعلومات لكل منهم حسب المناطق الجغرافية التي يعملون فيها مع الحصول على التعهد بعدم النشر قبل اليوم المتفق عليه عالمياً.
بالإضافة لشجاعة المسرّب ومهنية الإعلاميين هناك الحاجة، طبعاً، إلى الشجاعة في النشر خاصة إن كان محلياً، وليس في الخارج حيث تتوفر الحماية القانونية. والشجاعة في النشر تتطلب بيئةً حاضنةً تتوفر فيها المعطيات القانونية والتشريعية، وحاضنة مجتمعية تدعم الإعلام الحر والمستقل، وتقلل من قدرة الجهات الرسمية والأمنية على التدخل في العمل الصحفي.
لقد نجح راديو البلد/ عمّان نت في العمل الاستقصائي الأخير بتمثيل مهم للأردن في الحصول حصرياً على وثائق أردنيين متورطين في شركات الأوفشور، وتم تحديد القصص التي سيركز عليها بناء على فرضياتٍ علميةٍ شملت عملية تحقيق استقصائي عالية المهنية.
المؤسف أن بعض الجهات الأكثر علاقة في مشروع هذا التحقيق، ممثلة برئاسة الوزراء، ومسجّل الشركات لم يتعاونا بتاتاً مع فريق التحقيق رغم التواصل الخطي معهم، وطلب معلومات أساسية مثل عدد الشركات الدولية العاملة. ورغم أن الأردن كان أول من سنّ قانوناً يوفر الحق للوصول للمعلومات إلا أن هذا القانون لم يشمل آلية قوية وفعالة في الحصول عليها. وقد أدى غياب وزيرة الثقافة، التي أعطاها القانون صفة رئيسة لجنة تدرس شكاوى المواطنين ضد عدم التعاون مع القانون، إلى انحياز اللجنة بصورة أكبر لصالح الجهات الأمنية الممثلة في مجلس المعلومات، إذ تغيبت الوزيرة عن جميع جلساته، وبررت ذلك بكونها غير ملمّةٍ بالأمور الصحفية.
إضافة إلى ما سبق، هناك ما يدعو إلى الغرابة في مجال التعامل مع قضايا ذات طابع عام، إذ امتنعت مثلاً الصحف الرسمية جميعها عن متابعة أي أمر متعلق بـ”أوراق بنما”، فيما قامت صحيفة مستقلة بمعالجته من دون أي ذكر للموضوع المحلي، كأن الأردن لم يكن ضمن العملية الاستقصائية. أما المواقع الإلكترونية والإذاعات والتلفزيونات فلم تتابع ما تم نشره من مواضيع متعلقة بإشكالية وجود شركات الأوفشور.
قد يقول البعض إن الخيط رفيع جداً بين الشجاعة والغباء. فليس من الشجاعة مثلاً القيام بفعلٍ قد يؤدي إلى توقيف الإعلامي أو توقف الوسيلة الإعلامية، إلا إذا كان الهدف الاستعراض، وليس عملاً مهنياً ذا فائدة مجتمعية.
بات ضرورياً خلْق الأجواء المناسبة والحاضنة الشعبية، التي تضمن دعماً وتشجيعاً للعمل الاستقصائي، ليتحول فعلاً إلى عدوى تفيد المجتمع وتقويه.
داود كتّاب: مدير عام شبكة الإعلام المجتمعي. أسس العديد من المحطات التلفزيونية والإذاعية في فلسطين والأردن والعالم العربي.
Leave a Reply