رنا الصباغ تكتب لـCNN عن تجربة العرب مع “أوراق بنما”: الصحافيين والصحافة العربية

2016/04/17
التاريخ : 17/04/2016

مقال لرنا صباغ، المديرة التنفيذية لشبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (اريج) منذ تأسيسها عام 2005 www.arij.net وكاتبة مستقلة في صحف محلية وعربية ودولية ومدربة اعلامية.

(CNN)-– بينما تتسابق حكومات عربية متحالفة مع رأسمال الإعلام الخاص للجم حرية الرأي والتعبير في عصر الردّة على الإصلاحات السياسية، يتحدّى سبعة صحافيين استقصائيين من الدول العربية الوضع القائم عبر المشاركة في أكبر مشروع استقصائي عابر للحدود حتى الآن.

أوراق بنما لم تكشف فقط المختبئين خلف أسرار الأوف الأوف شور وعورة الصحافة العربية لكنها كشفت أيضاً عن صحفيين عرب شجعان.

نشر هؤلاء الصحافيون السبعة تحقيقاتهم ضمن الموجة الأولى من إعصار “وثائق بنما”، الذي يعصف بسياسيين ورجال أعمال من حول العالم. يعملون اليوم بالتعاون مع “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” على نشر وجبة تحقيقات جديدة بالتزامن مع إعلان اللائحة الكاملة بأسماء شخصيات وشركات وردت أسماؤها في “قنبلة العصر“.

فما نشر حتى الآن، يشكّل نقطة في بحر قياساً بتسريبات أرشيف يضم أكثر من 11 مليون وثيقة تغطي 40 سنة من التعاملات بين شركة الخدمات القانونية “موساك فونسيكا” في بنما، دولة المقر، وأفرعها حول العالم. وزبائنها؛ خليط من ساسة ورجال أعمال ووجوه عالم الإجرام ونجوم الفن والرياضة. لكنّها شملت خصوصاً أسماء أهم شخصيات عامة وسياسية حول العالم.

المنخرطون في هذه الجهد العابر للحدود ينتمون للأردن، سوريا، مصر، لبنان، اليمن، العراق والجزائر. وسبق لهم أن عملوا مع الاتحاد الدولي العام الماضي على ملفات تخص شخصيات في بلدانهم ذكرت ضمن ملفات “سويس ليكس”، التي اعتمدت على تسريبات وثائق عملاء بنك (HSBC) في سوريا ولبنان وغيرها.

لكنّها لم تحدث أصداء عالمية مقارنة مع سلسلة “أوراق بنما”، لأن عملية النشر لم تكن بالتزامن وبهذا الزخم، مقارنة مع 40 سنة من المراسلات المتبادلة في الفضيحة الأخيرة.

الصحافيون السبعة تدربوا على أدوات تعقب المال والفساد والجريمة المنظمة العابرة للحدود من خلال شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج). أريج تنشط في تسع دول عربية منذ 2005 بهدف ترسيخ ثقافة نبش الحقائق في قضايا تهم الرأي العام بهدف كشف المستور وتفعيل مبدأ المساءلة والمراقبة.

استفاد الصحافيون السبعة من اتفاق شراكه بين أريج والاتحاد الدولي سمح لهم من خلال الشبكة بولوج البيانات المتعلقة بأوراق بنما الخاصة بدولهم، بشرط الحفاظ على السرية والالتزام بموعد النشر الموحد.

شاركت أريج في الاجتماع التنسيقي الأول في مدينة ميونخ الألمانية قبل ثمانية أشهر بدعوة من الاتحاد وصحيفة زود دويتشه تسايتونغ الألمانية – التي سربت لها الوثائق قبل أن تطلب من الاتحاد على التعامل مع هذا السبق الذي يخص العالم كله.

ممثلو 100 مؤسسة إعلامية وأعضاء مستقلون تباحثوا حول اختيار اسم المشروع، آلية العمل وطرق تبادل المعلومات وفرزها وتثبيتها، وصولاً إلى توحيد توقيت النشر العالمي لخلق الصدمة المطلوبة، وإحداث تغيير صوب الأفضل. وتوسع المشاركون تدريجيا وصولا إلى 400 صحافي/ة من 107 مؤسسة إعلامية في 78 دولة.

كان ضمن الفريق صحافيون استقصائيون متخصصون في قضايا التهرب الضريبي فضلاً عن خبراء في حماية نظم المعلومات وتشفيرها ما راكم خرات الفريق العربي. ركز الجميع على تقصي شخصيات عملت في الحقل العام أو السياسي، بالاستناد إلى أكوام من السجلات ثم إجراء مقابلات لمطابقة الحقائق مع التسريبات. حق الرد والمواجهة كانا مصانان لجميع من وردت أسماؤهم، وإن رفضت الغالبية الإجابة على عشرات الإيميلات التي وردت اليهم.

كيف كانت نتيجة النشر/ البث في زمن يطغى فيه التضليل والتعتيم على محتوى وسائل الإعلام العربية العامة والخاصة، رغم تورط شخصيات عامة ورئيسية في عدد من الدول العربية؟

أصداء قليلة.

قرّاء ومتابعون ومتخصصون شكروا الزملاء على جهودهم الرائعة.

على أن غالبية وسائل الإعلام العربية أخفت أسماء مشاهير الوجبة الأولى. بعضها طعن في صدقية هؤلاء الصحافيين وأهمية تعاونهم مع أريج، بالاستناد إلى نظرية المؤامرة إياها، فقط لأن أريج لا تخفي اعتمادها على تمويل حكومات النرويج والسويد والدنمارك – البلدان الثلاثة الأنظف في مجال الحريات السياسية والشخصية ومكافحة الفساد والمساواة الجندرية.

بعض الاستقصائيين العرب يعانون الأمرين من مؤسساتهم وحكوماتهم.

زميلنا في الجزائر اضطر لنشر تحقيقه في “ميديابار”، أهم موقع الكتروني استقصائي في فرنسا بعد أن ضغط الوزير المعني على صاحب الصحيفة المحلية لمنع النشر.

في اليمن وسوريا، حيث الإعلام منقسم بين “الشرعية والمليشيات”، نشر زملاء تحقيقاتهم بأسماء مستعارة في صحيفة عربية مقرّها لندن.

في مصر، طلب من زميلنا عدم التعرض لزعامات الخليج باستثناء قطر.

موقع “إنكفادا” التونسي- الذي شارك صحافيوه في المشروع الدولي خارج إطار أريج – تعرض للقرصنة وواجه رئيس تحريره سيلاً من الشتائم. وتلقى رسالة تهديد عبر حسابه على فيسبوك.

في عمان، اجتهد مسؤول استباقياً وطلب من ناشر مؤسسة محلية عدم بث التحقيق المتعلق برجال أعمال. لكن الناشر أوضح له أن الحجب لن يفيد طالما أن الاتحاد الدولي سينشر التحقيقات على موقعه.

في العراق، يستعد زميل لنشر تحقيق مماثل باسمه علما أن المؤسسة الاعلامية الحكومية التي يعمل بها فصلته بعد أيام من ورود اسمه ضمن قائمة الصحافيين العرب الذين عملوا على “وثائق بنما“.

هل سيستسلمون بعد أن كوفئت جهدهم بأكوام من التشكيك والتحامل.

لا، أبدا!

فهم أصبحوا جزءاً مما يسمّى بعولمة الصحافة الاستقصائية التي تنمو وتتمدد يوماً بعد يوم. إسنادهم يأتي من المردود الأخلاقي والشعور بأنهم قاموا بواجبهم كحراس للمجتمع ضد تغول السلط والمستفيدين من تطويع القانون لخدمة مصالحهم على حساب مصلحة دافعي الضرائب. كما يشعرون اليوم بأن ظهرهم غير مكشوف. فهم جزء من جهد استثنائي لمئات المؤمنين بدور السلطة الرابعة المستقلة.

لكن ليس هناك ضمانة تامة. وهم مستعدون للأسواء في زمن لجم الحريات باسم “الحرب على الارهاب“.

وسيواصلون مهمتهم رغم جبال التحديات وطالما ظلّت جزر الملاذات الضريبية مسارا موازيا للاقتصاد العالمي.

على أنهم يدركون أن تحالف السلطة ورأس المال سيستمر  في محاصرتهم.

تعامل الإعلام العربي مع أوراق بنما خذل حق المجتمع في المعرفة والاطلاع.

الإعلام العربي الخاضع لسيطرة الدول الغنية دافع عن مريديه وكشف أعداءه.

غالبية وسائل الإعلام العربية الخاصة لم تذكر أسماء الشخصيات العربية، التي تخص بلادها وكأن “العرس عند الجيران“.

لكن مع تدحرج الكرة، اضطرت للتعاطي مع خبر استقالة رئيس وزراء آيسلندا والعاصفة التي هزّت رئيس وزراء بريطانيا، الذي قرر أخيرا الإفصاح عن سجله الضريبي.

بالطبع، لا يتصرف القائمون على وسائل الإعلام من فراغ.

فسياسات التحرير تعكس طبيعة النظام السياسي وحيوية المجتمع المدني.

هل نتوقع مظاهرات عربية أو تحرك السلطات الضريبية على الأقل للتحقيق مع من وردت أسماؤهم مثلما حصل في الغرب.

غالبا لا؟

لأن من ينظّم مظاهرة قد يواجه اعتراض الناس قبل الحكومة، خشية أن يفضي أي حراك إلى عدم الاستقرار.

هل ستأخذ الدول العربية زمام المبادرة وتصوب قوانينها لضمان وقف التهرب الضريبي والأنشطة المخفية، التي يقترفها مسؤولون وهم على رأس عملهم.

ربما؟

مرة أخرى تنفرد تونس عربياً في تعاملها مع تداعيات “أوراق بنما” إذ توّعدت الحكومة بفتح تحقيق قضائي.

وقد يأتي اليوم الذي يفرض فيه الغرب قرارات تمنع سرية عملاء شركات (الأوف شور). فهذه دول ملتزمة بملاحقة المتهربين ضريبياً بحكم ديمقراطياتها الراسخة وسلطاتها التشريعية. وطالب خبير أممي بإنهاء عهد السرية المالية والتمويلية.

فلا أمان بعد اليوم للمال المخفي مع تمدد تأثير حركة الصحافة الاستقصائية العالمية.  فمن سيثبت خلو عقوده من الأخطاء وشفافية الطرق التي جنى من خلالها ثروته، لن يخشى من الفضيحة المجلجلة والعقاب. أما من يتصرف خلاف ذلك، ويستغل منصبه العام للتكسب ونهب ثروات بلاده فليدفع الثمن ولو مرة.

فأكثر الثروات غير المشروعة تتراكم في أكثر البلدان استبداداً وفقراً وتخلفاً وقمعاً.


تليقاتكم

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *