20 شهرا كان للعمل الصحفي خلالها متعة أخرى تركت الاتهامات جانبا وعمدت نحو الدليل، تركت الظنون جانبا وعمدت إلى التحليل. في يناير 2103 رن هاتفي وحين أجبت على الإتصال كان على الطرف اﻷخر المدير العام السابق لمختبرات الصحة المركزية في محافظة تعز د. راجح المليكي ليحدثني عن نتيجة تحليل عينة من مياه الشرب الجوفية في شرعب السلام “بئر جديد ” وأن نتيجة التحليل التي جرت مصادفة من خلال أحد المتدربين في المختبر أظهرت تلوث هذه المياه التي يشربها المواطنين وأنها غير صالحه للشرب.
يسبب هذا التلوث بحسب الدكتور المليكي التهابات القولون والتهابات الكلى وغيرها من اﻷمراض، فكان أن سألته عن علاقة المياه بالفشل الكلوي فكان الرد أن ذلك يأتي نتيجة حتمية للالتهابات الكلى في حال استمر المواطنين بالشرب منها وتفاقم الالتهابات الكلوية. وبينما كنت في الدورة التدريبية الخاصة بالصحافة الاستقصائية التي نظمتها شبكة أريج في القاهرة كان مطلوبا مني تقديم فرضية تحقيق استقصائي وحينها لم أجد سوى هذه الفكرة التي قمت ببلورتها بمساعدة الزميلة رنا الصباغ إلى فرضية على جزأين.
طال الأمر كثيرا بين مراجعة التحقيق وتنقيحه وإعادة صياغته من جزأين إلى جزء واحد، ثم كان على أن أتخلص من الكثير من الزوائد داخل التحقيق وضغطه في حدود 2000 كلمة فقط دون الإخلال بمضمون التحقيق.
وربما لكوني من أبناء مديرية شرعب سلام فقد ترعرعت وكبرت وأنا أشاهد العديد من الشباب والمواطنين يصابون بهذا المرض ويموتون ومنهم من يلجأ إلى زراعة الكلى بالتبرع.
منذ باشرت العمل على التحقيق فعليا في منتصف العام 2013 كانت الطريق من العاصمة صنعاء إلى محافظة تعز 260 كيلوا متر، تأخذ مني تسع ساعات على غير العادة على متن سيارة أجرة “بيجو” تابعة لمكتب النقل الخاص عادة تستغرق الرحلة بين 5-6 ساعات لكن الظروف اﻷمنية والطبيعية فرضت نفسها بقوة على مسار الرحلة، اﻷمطار الغزيرة تسببت بانهيارات كبيرة للطرقات والاحتياطات اﻷمنية تفرض على النقاط اﻷمنية المنتشرة تفتيش جميع المسافرين على الطريق الذي يربط نحو 7 محافظات يمنية بالعاصمة صنعاء.
وقبل أن أصل لمدينة تعز وجدت نفسي على موعد لم يحدد مسبقا وجها لوجه مع مواجهة مسلحة بين طرفين اتضح لاحقا أنها كانت عملية إجرامية هدف منفذوها إلى اغتيال أحد وكلاء محافظة تعز، المشاكل اﻷمنية في الطرقات تسببت بتأجيل نزولي من العاصمة إلى تعز في رحلة تنفيذ أول تحقيق استقصائي تموله شبكة أريج للتحقيقات الاستقصائية لثلاثة أيام حيث فرض مسلحون حصارا مطبقا على كافة وسائل النقل بين صنعاء العاصمة وبقية المحافظات.
بدأت باكرا بالتوجه إلى مختبرات الصحة المركزية بمدينة تعز طلبت مقابلة الشخص المسؤول وقدّمت له شرحا مختصرا عن طبيعة مهمتي وأنني بحاجة إلى إجراء تحليلات مخبرية لعينات من المياه الجوفية لعدد من الآبار في مديرية شرعب السلام وأنني سأدفع تكاليف الفحوصات للحصول على تقارير رسمية يعتد بها في التحقيق الذي أنفذه، كان المدير متجاوبا جدا وأحالني إلى المسؤول المباشر للفحوصات المخبرية ليرشدني إلى كيفية جمع العينات وتوصيلها إلى المختبر.
وفي العاشرة صباحا كنت أستقل سيارة أجرة أخرى في الطريق إلى شرعب السلام لبداية الخطوات العملية في التحقيق الاستقصائي وما أن وصلت إلى المديرية حتى بدأت الحديث مع السكان المديرية عن أبار المياه التي يشربون منها وعددها لكن أخذ العينات كان بحاجة إلى الانتظار حتى اليوم التالي لضمان وصول العينات إلى المختبر سريعا ولا يتجاوز وقت جمع العينات ووصلها إلى المختبر ساعة واحدة كان عليّ أيضا أن أقوم بشراء ” قربة ” جالون خاص برفع المياه من البئر والحبل الذي أربط به القربة أثناء إنزالها إلى البئر ورفعها للأعلى لضمان نتيجة فحص سليمة ومؤكدة.
لكن مهمتي في جلب عينات الماء التي كنت أقوم بها للمرة اﻷولى فشلت وهذا ما أخبرني به المختبر لقد تأخرت في إيصال تلك العينات وعلى أن أحاول مرة أخرى ولظروف عملي الصحفي اليوم فقد أجلت موعد جمع وفحص العينات إلى الزيارة التالية مطلع شهر يونيو ونجحت مهمتي في جلب 3 عينات وإيصالها للتحليل وانتظار النتيجة.
لقد كان لزيارتي الخمس إلى “شرعب السلام” ومحافظة تعز نتائج إيجابية على سير التحقيق في الموضوع وتمكنت من الاطلاع على حقيقة المشاريع الخاصة بالمياه الارتوازية التي نفذتها الدولة هنا على مدى سنوات دون أن يشرب السكان منها قطرة ماء واحدة، كما كان مناسبا لمعرفة مدى انتشار اﻷمراض المرتبطة بتلوث المياه ومنها الفشل الكلوي.
خلال مراحل التحقيق اعتمدت كثيرا على مقابلات وتحقيقات واستطلاعات صحفية عادية تتحدث عن مشاريع المياه في شرعب وأخرى عن مرضى الفشل الكلوي ومراكز الغسيل وبدأت عملية تسطير تلك التحقيقات والمواد الصحفية لاستخلص اسئلة كثيرة لم تجيب عنها شكلت فيما بعد الأسئلة التي يجب أن أطرحها على الجهات واﻷشخاص المختصين في هذا الجانب.
ساعدني ذلك بالحصول على تأكيدات وأجوبة مركزة لما ابحث عنه وامتلك معلوماته مسبقا ووجدت نفسي أسير في إجراءات التحقيق دون تشتت أو خروج عن الموضع فكانت النتيجة تأكيد الفرضية التي وضعتها بمساعدة مدير شبكة أريج الزميلة رنا الصباغ وكثيرا ما اعتمدت على منهجية الاستماع والمشاهدة والاستنباط من موقع الحدث فعادة ما تخبرنا مواقع اﻷحداث بمعلومات لا يمكن استخلاصها من المصادر المسؤولة ببساطة لقد ذهبت نحو 5 مرات إلى مركز الغسيل الكلوي في مستشفى الثورة العام بتعز ومركز الغسيل الكلوي في مستشفى الثورة العام بصنعاء كنت أجلس على كرسي الانتظار بين المرضى لنحو أربع ساعات على التوالي وكأني مرافقا ﻷحد المرضى اسمع أنينهم وأطالع في أجسادهم وتعابير أوجههم ثم أعود إلى مكتبي في الصحيفة وابدأ في كتابة الملاحظات أولا بأول.
كما ساعدني الاطلاع والمتابعة على التخلص من كل المصادر الثانوية والاعتماد بشكل أكبر على المصادر اﻷولى في كل مراحل التحقيق بدلا من الخوض في مصادر ثانوية عدا تلك التي تتعلق بشهادات المواطنين التي فضلت روايتها بطريقة سردية قصصية في متن التحقيق ما ساعدني على التخلص من الحشو في الكلام كثيرا.
الصعوبة الوحيدة التي واجهتني هو في الإشراف على هذا التحقيق فلم يكن المشرف الذي اختارته شبكة أريج للصحافة الاستقصائية متفرغا لمراجعة التحقيق في كل مراحله إضافة إلى جانب انعدام البيانات واﻷرقام رسميا عن عدد المرضى بالفشل الكلوي الخاضعين للغسيل الكلوي أو المتوفين لا في وزارة الصحة ولا في مراكز الغسيل عد مركز الغسيل الكلوي في مستشفى الثورة العام بمحافظة تعز لكنها أيضا لا يمكن أن تزيد عن ثلاث سنوات وهذه المشكلة ليست مقتصرة على مرضى الفشل الكلوي بل إنها مشكلة عامة تعانيها كل القطاعات الحكومية في اليمن حيث يسير كل شيء بعشوائية متماهية.
غياب البيانات المكتملة لدى الجهات المسؤولة كان سببا وراء اقتراح مسؤول التحقيقات في أريج بأن أعيد صياغة التحقيق في جزء واحد وترك موضوع معاناة مرضة الفشل الكلوي والأمراض التي تصيبهم وهي أمراض “فيروسية ” جراء غياب الرقابة والإشراف الصارم على جلسات الغسيل الكلوي إلى تحقيق أخر.
وكلما كنت اعتقد أني أنهيت العمل على التحقيق كنت أجد أمامي شروط صارمة من شبكة أريج فيما يتعلق بإنجاز التحقيق حتى أنني فعلا بت أشعر أن إنجاز تحقيق استقصائي مع أريج يشبه تمام ” الانضمام إلى تدريبات القوات الخاصة، حيث يمكن لخطأ بسيط أن يتسبب بإعدام كتيبة من الجنود”.