راودتني فكرة التحقيق في عمليات التحايل على منح الري بالقطرة في مدينة سيدي بوزيد الواقعة وسط البلاد التونسية، إثر سماعي لشكاوى مزارعين من تردي أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية بالرغم من كثرة المنح المفترض تمتعهم بها من وزارة الفلاحة.
وخلال تنقلاتي المستمرة إلى أرياف سيدي بوزيد، بحكم تغطياتي الصحفية للحراك الاجتماعي والسياسي بالمدينة، وقفت على روايات أكثر من فلاح عن عدم استفادته من الدعم المقدم من قبل الوزارة.
وقبل الشروع في تحديد فرضية التحقيق انطلقت في جمع أكثر ما يمكن من المعلومات عن منح الري بالتنقيط، فتقدمت بمطالب متكررة للمندوبية الجهوية للفلاحة بسيدي بوزيد للحصول عن معلومات عامة على غرار شروط الحصول على الدعم وعدد الفلاحين المتمتعين بالمنح في أكثر من سنة والمراحل التي يمر بها الفلاح قبل الموافقة النهائية على الدعم. كما اتصلت ببعض المنظمات النقابية بحثاً عن شكاوى محتملة للمزارعين، فلم أظفر بأية أجابة.
أمام شح المعلومات التي قد تؤكد روايات المزارعين، وجهت بحثي نحو عدد من المحامين فوُفّقت في لقاء أحد المحامين بصدد جمع بعض الوثائق القانونية للتصدي لعمليات التحايل.
بعد أن استقر الرأي، بالاتفاق مع شبكة أريج، على السعي لتأكيد أو دحض فرضية تورط “مزارعين، تجار وموظفين في التلاعب بمنح الاقتصاد في مياه الري بمحافظة سيدي بوزيد”، قسمت منهجة التحقيق على ثلاث محطات:
أولاً: تعقّب مدى تلاعب المزارعين بالدعم الحكومي، وذلك عبر اعترافات، شهادات ووثائق قانونية، وهو ما تمكنت من تأكيده عبر تصريحات لعدد من المزارعين مع الحصول على محظر معاينة قانونية يثبت حصول أحد الفلاحين على الدعم رغم إرتكابه عدد من الخروقات.
وثانياً، تأكيد استفادة بعض التجار من هذه المنح بشكل غير قانوني، هنا اتصلت بعدد منهم مقنعا إياهم أني إبن مزارع حاصل على الموافقة المبدئية على الدعم، وعارضاً عليهم تمكيني من معدات ري مقتصدة على وجه الكراء. في الحقيقة لم أجد صعوبة كبيرة في الخروج بتسجيلات صوتية متضمنة لموافقة أكثر من تاجر على تأجير المعدات مقابل مبالغ مالية متفاوتة.
أما ثالث المحطّات فقد تركزت على إثبات تورط موظفين بمندوبية الفلاحة، وهي أصعب مرحلة في التحقيق. حاولت في البداية التقدم إلى هياكل الوزارة بصفتي مزارعاً للحصول على الداعم حتى أكون شاهداً على أية تجاوزات قد يرتكبها بعض الموظفين, فلم اوفّق، بما أن شرط امتلاك ارض زراعية أو استئجار احدى الضيعات لمدة لا تقل عن العشرة سنوات لا تتوفّر في مطلبي.
مع تقدّمي في التحقيق، تبين لي أن اعترافات الفلاحين والتّجار ومحضر المعاينة القانونية الذي سلمني اياه أحد المحامين تجتمع جلها على إدانة بعض الموظفين. رغم ذلك حاولت تدعيم أو نفي هذه الإدانة، فاتصلت بأحد الموظفين بمندوبية الفلاحة فلم بنكر التهم الموجهة لزملائه بل أسهب في ذكر بعض الخروقات التي يأتونها.
تشابك الأطراف المتلاعبة (فلاحون، تجار وموظفون) بمنح الدعم كان الحافز -عند كتابة التحقيق- للمراوحة بينها في كشف عمليات التحايل. لا مفر في كل جزء من نص التحقيق من الاشارة إلى تورط التاجر أو الموظف أو المزارع في التحايل على المنح، عند استعراض خروقات هذه الجهة أو تلك.
من اهم الصعوبات التي واجهتها خلال التحقيق، صعوبة الحصول على المعلومة من المندوبية الجهوية للفلاحة، مما اضطرني للسفر مراراً إلى تونس العاصمة التي تبعد 270 كلم عن مدينة سيدي بوزيد للتزود ببعض المعطيات.
ومع مرور الوقت وبعد ثلاثة اشهر صار النفاذ للمعلومة أكثر يسراً بمندوبية الفلاحة، وذلك بعد تغيّر المسؤول المشرف عليها دون أن يتم الاستجابة كلياً لطلبات الحصول على المعلومة.
أما ميدانياً فقد كانت التنقلات الى الضيعات من أكثر المهام جسامة، خاصة وأن فترة الاتصال ببعض المزارعين بضيعاتهم قد تزامن مع حصول عمليات إرهابية بمحافظة سيدي بوزيد.
في مناسبتين أجد نفسي محاصراً من قبل بعض المزارعين، مما يجعلني أبذل مجهوداً مضاعفاً في تبرير أو تفسير سبب وجودي في ذلك الوقت بالذات بالقرب من ضيعاتهم، بل بلغ الأمر إلى محاولة تعنيفي من قبل بعض الشبان. كل ذلك يبقى من مخاطر مهنة الصحافة التي سرعان ما تتلاشى كلما وجد التحقيق الصدى الطيب لدى المتقبل.
ردود الفعل التي صاحبت نشر التحقيق استهلها وزير الفلاحة في الحكومة التونسية لسعد لشعل الذي أمر بفتح تحقيق في التجاوزات التي كشفها التحقيق وفي بلاغ صادر عن وزارته. ومع اعترافه بوعي الوزارة بعمليات التحايل، برر هذه الخروقات بنقص الموارد البشرية والمالية لدى وزارة الفلاحة.
محلياً، شهدت مندوبية الزراعة بمحافظة سيدي بوزيد قدوم لجنة مراقبة من وزارة الفلاحة للوقوف على التجاوزات. وقد أسرّ أحد الموظفين لكاتب التحقيق أن هذه الزيارة التفقدية قد وقفت على إختلالات أخرى في ملف المنازل الوظيفية التي يتم توفيرها لبعض المسؤولين الجهويين بمندوبية الفلاحة.
Leave a Reply