بدأ إهتمامي بقضية الطائرات بدون طيار “الدرونز” في اليمن منذ وقت مبكر، بوصفها جزء من ملف الحرب على الإرهاب، وهو الملف الذي كلفت بالعمل عليه كمحرر صحافي متخصص بشؤون الجماعات المسلحة في أسبوعية”الغد” اليمنية.
في العام 2007، حصلت الصحيفة على صور حصرية لحطام طائرة استطلاع أمريكية بدون طيار سقطت في جزيرة سقطرى، عثر عليها الأهالي، فكتبت على إثره سلسلة تقارير حول سباق الاستخبارات الدولية في اليمن، التدخل الامريكي في البلاد تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، خصوصا أنها تزامنت مع العثور على حطام طائرات استطلاعية أخرى في مناطق أخرى جنوب البلاد، ما يعني زيادة نشاط الاستخبارات الدولية في هذا البلد المثقل بالأزمات.
بعد عدة أشهر وقع هجوم المعجلة في محافظة أبين، أسفر عن مجزرة مروعة، راح ضحيتها العشرات، بينهم أطفال ونساء. وفي مايو ٢٠١٠ اغتالت طائرة بدون طيار بالخطأ نائب محافظ محافظة مأرب جابر الشبواني فزاد إهتمامي بمتابعة الموضوع، بعدها قمت بكتابة قصة صحافية لجريدة النيويورك تايمز، بمعية الزميل الصحافي روبرت وورث الذي عمل مديراً لمكتب نيويورك تايمز في لبنان وغطى أحداث الحرب على العراق.
في العام ٢٠١١ كانت العمليات العسكرية الأمريكية السرية في اليمن حاضرة بشكل أو بآخر في أجندة الإعلام والسياسة إبان أحداث الاحتجاجات التي أطاحت بالرئيس السابق علي صالح، وخاصة بعد زيادة وتيرة هذه الهجمات منذ تولى الرئيس عبد ربه منصور هادي زمام الحكم وكان تعبيره عن إعجابه الكبير بالدرونز خلال زيارته إلى واشنطن محل تندر في الصحافة الامريكية.
خلال الأعوام الثلاثة الماضية كتبت عشرات القصص الصحافية ذات الصلة بهجمات الدرونز، سواء كان الضحايا مدنيون أو مقاتلون في صفوف القاعدة، وساهمت في كتابة تقارير في الموضوع ذاته قدمت الى خبراء في حقوق الانسان بالأمم المتحدة.
عندما شرعت في كتابة التحقيق الاستقصائي حول فرضية شبكة أريج “هجمات الدرونز توسع دائرة الالتحاق بصفوف القاعدة” مع زميلي الصحافي علي الشعباني، كنتُ أستحضر في ذهني العديد من القصص والوقائع التي تؤكد صحة الفرضية، غير أني في الوقت نفسه كنت بأمس الحاجة الى مزيد من الزيارات الميدانية لمقابلة ضحايا و/ أو ذويهم وفحص المعلومات والروايات بمنهجية استقصائية من واقع التدريب والأدلة الإرشادية التي تلقيتها في ورشة شبكة أريج التدريبية.
أعرف أنه ربما يدور في خلد كثير منكم أسئلة عديدة، أهمها: هل ثمة مواقف صعبة أو طريفة واجهتها خلال عمل التحقيق الاستقصائي، الجواب نعم: أختار لكم هذا الموقف مع العريس مبخوت العامري، الذي استهدف موكب زفافه في رداع، في تاريخ 12 ديسمبر 2013 بصواريخ طائرات “الدرونز” الأمريكية، في منطقة يكلأ رداع بمحافظة البيضاء، وأسفر الهجوم عن مقتل 12 شخصاً وإصابة قرابة 15 آخرين، بينهم العريس والعروس. بعد الهجوم بيومين قررتُ السفر إلى المنطقة لإجراء المقابلات. بقيت في المنطقة لمدة يومين، التقيت خلالها أقارب الضحايا وبعض الناجين من الهجوم، في اليوم الثاني ذهبت إلى منزل العريس مبخوت العامري بمعية شخصين من أبناء المنطقة برفقة زميل صحافي آخر ومصور صحافي، العريس مبخوت رجل في الستين من العمر، كانت تلك هي زيجته الثانية، وقد قتل أبنه الوحيد من زوجته الأولى في ذلك الهجوم، علماً أنه (أي الإبن) هو الذي تكفل بنفقات عرس أبيه، طلبنا مقابلة العريس مبخوت، وبعد قليل يخرج علينا العريس غاضباً، بل في أوجّ غضبه، وبدون مقدمات بدأ ينهال علينا بالسب والشتم، ويلتقط احجاراً من الأرض ويقترب منا، نحاول تهدئته ولكنه يشتعل أكثر، كان تحت ضغط نفسي شديد، إقترب من المصور الصحافي وهو يقسم الأيمان المغلظة أنه سيكسر الكاميرا. الكاميرا كاميرتي (سوني) قيمتها ألف وخمسمائة دولار.. كنت أحسبها وأقول في نفسي نواجه هذا الشخص مهما كلفنا الثمن أو نحافظ على حياتنا ولو كان الثمن الكاميرا.. موقف صعب للغاية.. كان العريس المنكوب، تحت الضغط النفسي من هول الفاجعة، يتوهم أننا من طرف الحكومة اليمنية، وانها هي التي أرسلتنا، وكنا نحاول إقناعه أننا صحافيون، كنا في مأزق حقيقي، نفكر كيف ننجو بجلدنا، كيف نتخلص من الموضوع، تمنيت أنني لم أذهب إلى تلك المنطقة. ومع ذلك لم ينفذ صبرنا، حاولنا مراضاة الرجل وتهدئته بكل ما أوتينا من قوة، حتى بدأ يهدأ وبدأنا نشرح له أننا مجرد صحافيين مستقلين ولسنا مدفوعين من الحكومة، واننا جئنا هنا بمبادرة ذاتية وأننا نسعى لإيصال صوته إلى العالم، حاولنا جاهدين إقناعه أننا جئنا إلى هنا بدافع إنساني، لنكشف للناس كذب الحكومتين اليمنية والأمريكية اللتين إدعتا أنهما قتلت إرهابيين في هذا الهجوم. المهم بعد جهد كبير هدأت الأمور، وبدأ يتحدث إلينا عن الفاجعة، ويشير بيديه إلى بقايا حطام حقائب العروسة، جمعت من مكان الهجوم إلى جوار منزله. في نهاية اليوم كان العريس يعتذر لنا بشدة عن الموقف، وكان لزاماً علينا قبول اعتذاره وتقدير الموقف. بدا أن زيارتنا له كانت مهمة جداً، كانت بمثابة علاج نفسي له، ربما تطورت حالته النفسية إلى الأسوأ فيما لو بقي مدة أطول منعزلاً في البيت تحت هول الصدمة. من المؤكد أنه بات ليلته تلك في وضع نفسي أفضل.. من المؤكد أنه كان بحاجة ماسة لإعادته إلى أجواء الفرح ليتذكر أنه عريس وليس قاتلاً (كما يتوهم) لأنه تسبب في قتل كل هؤلاء الضحايا الذين كان ذنبهم الوحيد أنهم شاركوه موكب زفافه.
Leave a Reply