فرضت الفكرة نفسها على تفكري، حينما كنت أنتظر إذاعة لقاء مع أحد أصدقائي الصحفيين على إحدى القنوات الفضائية، والذي تبين فيما بعد أن اللقاء سيذاع مسجًلا.
ما دفعني أشاهد على مدار ساعتين، برنامج يستضيف حالات إنسانية، ذات مشاكل أسرية. استوقفني حينها حالة شاب يدعى نادر، يستجدي أهله الذين تبرؤوا منه أن يسامحوه على الهواء مباشرة، ويحاول استعطافهم ليعيش في رحابهم مرة أخرى، بعد أن استطاع أن يقف على قدميه.
بين القصة الإنسانية، روى نادر قصاصات أنه طرد من دار الأيتام الذي أودعه فيه أهله منذ الصغر، وذهب ليعيش بأحد الأديرة بوادي النطرون، وأنه يخاف على زملائه وأخوته بالدار من نفس المصير.
حاولت التأكد من أنه هناك وقائع طرد من دور الرعاية، وأن الظاهرة ليست حالة فردية، فأجريت اتصلا هاتفيا بالمحامي هاني هلال، رئيس ائتلاف حقوق الطفل بمصر، وكان رده أنه لديه العديد من الشكاوى بهذا الشأن، ضد عدد من دور الأيتام.
وفي اليوم نفسه، هاتفت رئيس خط نجدة الطفل التابع، للمركز القومي للأمومة والطفولة، وكشف لي أن لديه بلاغات بمثل هذه الحالات، ولكن لا يستطيع الكشف عنها دون حصولي على موافقة من المركز الإعلامي والأمين العام بالمركز.
من هنا استطعت كتابة الفرضية وتقديمها، لأستطيع التقدم لورشة التحقيقاتالاستقصائية المكتوبة، وإجراء التحقيق بدعم من أريج، وهو ما كنت أخطط له على مدار عام، منذ بداية 2015.
حاولت الوصول إلى نادر بكافة السبل إلا إن الأمر كان متعثرا في البداية، فقررت أن أغير واجهة بحثي، وأتوصل لموظفين بدور الرعاية نفسها شهود على وقائع طرد الأطفال، وطلبت منهم أن يساعدوني في الوصول إلى حالات من هذا النوع. ووعدوني بالمساعدة، بل والشهادة.
قبل إجرائي المقابلة الهاتفية الأخيرة من الأستاذ حمد عثمان، لتحديد ما كنت سأتمكن من الحصول على منحة أريج أم لا بساعتين فاجئني، فاجئني صديقي الصحفي محمود عباس، بتمكنه من الحصول على رقم “نادر” من رئيسة تحرير البرنامج، وبالفعل حادثته، وأعرب عن استعداده لمساعدتي، بالرغم من أنه يأس من حل المشكلة. وبعدها بلحظات، أكد الأستاذ حمد عثمان، أنني ضمن الأسماء الذي اختاروها لتلقي الورشة.
في اليوم نفسه تواصلت مع أحد الموظفين بالدار نفسها، يدعى نبيل أنيس، والذي سيساعدني أيضًا، وقبل سفري للأردن بيومين، زارني الأستاذ نبيل أنيس بمقر عملي، برفقة أحد أصدقائه، كي يطمئنوا للعمل معي، وبالفعل تم تسجيل اللقاء الأول المتحفظ، مع الأستاذ نبيل أنيس، وتحمس لمشاركتي له القضية.
استأنفت العمل بالتحقيق بعد عودتي من الأردن بأسبوع، تواصلت مع الأستاذ محمد عبد الحميد، المشرف بمؤسسة دور الرعاية بالجيزة، والذي استطاع أن يجمع لي بعض الحالات من مطرودي المؤسسة.
في طريقنا نحو المؤسسة، استدعى محمد عبد الحميد الحالة الأولى، أحمد علي، 15 سنة، والذي يعمل سائقًا في أحد التكاتك أمام المؤسسة، وأقنعته في التحدث وحكي قصة طرده من المؤسسة، في الوقت الذي تركني فيه الأستاذ محمد معه وحدي على مقهى بلدي صغير، ليحضر باقي الأبناء.
وبعد دقائق كان يستجدي فيها الأستاذ محمد الحالات للحضور، امتلت القهوة الصغيرة بنحو 20 ولدًا، تتفاوت أعمارهم بين الـ 12 عامًا، والـ 25 عامًا، جميعهم وقع عليهم قضاء الطرد من دور الرعاية، وانتظرهم مصيرًا مظلمًا بشوارع بولاق الدكرور، بين التسول، والعمل بالمقاهي، ومحال الحدادة، والتكاتك، والنوم أسفل الكباري، والخضوع للإهانات نتيجة جريمة طردهم، وبل وتقطع الأصابع نتيجة إجباره على الخروج للعمل للإيتاء بمصروفاته، مقابل نومته داخل دور الرعاية، وطرده فيما بعد للتنصل من تقطع أصابعه أثناء وجوده بالمؤسسة.
في كل مرة كنت أنزل لملاقاة الحالات، كنت أعود وأنا على يقين أني سأكون في حاجة لتأهيل نفسي بعد الانتهاء من إجراء التحقيق.
ومن ضمن الحالات الذين تم طردهم من دور الرعاية شاب يدعى حسن جمعة، كان متعاونًا جدًا، على الفور أبدى موافقته في اصطحابي لمقابلة عدد من الحالات التي تم طردها من دور الرعاية بمدينة السادس من أكتوبر.
وفي الصباح الباكر، اصطحبت معدات التصوير، وذهبت لتلبية الموعد، لأجد نفسي أمام شاب طويل القامة شديد البنية يصطحبني لمكان في المدينة الصحراوية الكبيرة، واصطحبني وهو وأحد رفاقه إلى داخل دار ليلة القدر الشهير، باستيلاء أبنائه عليه وطرد موظفيه وأمنه.
دخلت الدار بدون أي توقيفات أمنية، لأجد رجالًا ونساءًا وأطفالًا في رحابة، ولم ألبث أن تجمع أمامي الرواه، وأخرجت الكاميرا، حتى بدأ صوت نسائي يصيح، وتقترب نحوي الفناة العشرينية تحاول ضربي وأخذ الكاميرا، فاستوقفها الشباب الذين اصطحبوني، ووقفوا أمامي، وتصدوا لها، وأكملنا التصوير.
أبلغني الأستاذ محمد عبد الحميد، بعد أيام أنه تم فصله من عمله بدار الرعاية، وخصني بمذكرة الأسباب الذي كان من ضمنها أنه يتعاون مع الصحافة، وأبلغني أيضًا بالتهديدات التي تلقاها الأبناء بالطرد من قبل وفاء المستكاوي مديرة المؤسسة، فور علمها بشهادتهم على طرد زملائهم. ومن ناحية أخرى أبلغني الأستاذ نبيل أنيس أن أحد الأبناء ذهب يتقدم بشكوى إلى الدار لكونه طرد منها قبل بلوغه سن الـ 18 عامًا، لكنهم حفظوا الشكوى، وبمعنى أصح تقطعت وقذفت في صندوق القمامة.
على مدار شهور من العمل على التحقيق، وأنا أحاول وأحاول الحصول على تصريح للحصول على إحصائية خط نجدة الطفل، من المركز القومي للأمومة والطفولة، عبر الهاتف، وعبر البريد الإلكتروني، وعبر الذهاب إلى مقر المركز، ولكن لم أحصل عليها سوى في 1 إبريل 2016، وهو الحال نفسه للحصول على الرد الرسمي من وزارة التضامن.
وهنا وجدت نفسي في مأزق كبير، فكل مقابلة يتم صياغتها في 200 كلمة على الأقل، ووجدت نفسي أجريت 20 مقابلة أثناء التحقيق، ومازال متبقيًا المزيد، أي 30 مقابلة، “يا إلهي، التحقيق سيزيد عن 6000 كلمة”، بدأت في استشارة الأستاذ حمد عثمان، والأستاذة أمل حسين، مشرفة التحقيق، ومحرري الديسك، في كيفية كتابة التحقيق.
بدأت مواجهات مسؤولي الدور، وكانت أول مواجهة مع نبيل يوسف، رئيس مجلس إدارة الجمعية التابع إليها دور الرعاية بالجيزة، لم يكن صعبًا أبدًا استفزاز هذا الرجل، وانزاع اعتراف من فمه بطرد الأطفال قبل السن القانوني، ولكن الصعب حقًا هو امتلاك أعصابي أمام مواجهة إهانتي الشخصية، وإهانة مهنتي، وهو يستكر حقي في استجوابه حيال هذه الجريمة، ولكنني اخترت التماسك، حتى إخراج التسجيل الصوتي للمكالمة من جعبة التحقيق.
كان من أصعب الخطوات في التحقيق، إقناع مجال إدارات الدور الإطلاع على سجلاتها ودفاتر الأولاد، وهو الأمر الذي استطعت تحقيقه في دار رعاية الضاهر، حيث مكنني رئيس مجلس الدار بنفسه الإطلاع على دفاترها، كي أتحقق من أنهم يضعون مبالغ صغيرة في دفاتر توفير للأبناء كي تؤمن مستقبلهم، وحينما أوضحت له أن هذا مخالف للقانون، وأنه يجب وضع 5% من التبرعات قال لي: “مافيش حاجة اسمها قانون، والقانون بيتغير كل سنة”.
كانت أصعب مراحل التحقيق، هي التدقيق والتعديلات والتوثيق، لكثرة عدد المقابلات، وتوثيق كل كلمة بها، ومن ثم محاولة تقليل عدد كلمات التحقيق، فيما لا يخل بذلك التوثيق، وهو ما جعلنا نختصر القصص الإنسانية بشكل كبير، والاستعانة بجدول، وإنفوجرافيك لحصرها جميعها.
في النهاية، قد تكون تجربة الاستقصاء صعبة وشاقة، لكن ما كان عظيما حقا، هو وجود قضية أحيا من أجلها، حتى أصبحت أحضر وقائع تقديم الشكاوى، وجلسات المحاكم لمحاولة وقف المصير الأسود الذي يلقاه مطرودي الملاجئ.