“اعلي ما في خيلك إركبة.. لا نقابة تهمني ولا وزارة تعرف عني حاجة.. عندك النيابة مليانة قضايا”.. عبارات ثائرة عابرة صادفتها أثناء مروري بطرقات إحدي المستشفيات الحكومية، ألقاها الطبيب علي مسامع شاب فقد زوجتة داخل غرفة الجراحة اثناء الولادة نتيجة خطأ طبي.
ولغرابة الموقف ولثقة الطبيب في نجاته من العقاب عزمت علي متابعة قضية ذلك الشاب، الذي لم يأل جهدا بحثا عن حق زوجتة، فذهب إلي خمس جهات يشكو الطبيب، من قسم الشرطة إلي نقابة الأطباء إلي وزارة الصحة إلي النائب العام وحتي إلي الرقابة الإدارية، وفي النهاية لا حياة لمن تنادي، وبالفعل أغلقت القضية أو تاهت في أدراج المحاكم.
من هنا جاءت فكرة التحقيق “الخطأ القاتل.. تائه بين الصحة والنقابة والنيابة”، والذي بدأ بفرضية مفادها أن “أخطاء الأطباء بغرفة العمليات تتم تحت رعاية غياب المسئولية.. وأن الطبيب يعلم جيدا انه لن يُعاقب في ظل حالة “التوهان” التي أصابت تلك الجهات الثلاث.
أثناء البحث الميداني وسط ضحايا الأخطاء الطبية لم يكن همي علي الإطلاق الإستماع إلي طبيعة الخطأ الطبي رغم أهميتة، بقدر ما أنني كنت اريد الاستماع الي إجراءات ما بعد الخطأ، وطيلة لقاءاتي مع ما يقرب من 25 من أهالي الضحايا إكتشفت عدم خروج تقرير واحد يدين الطبيب، ورغم ان النيابة كثيرا ما تستعجل “الطب الشرعي” بسرعة اصدار التقرير ان جميع من جالستهم من ضحايا لم يصل تقرير ذويهم اي تقرير.
“الطب الشرعي في مصر خط أحمر”.. كانت تلك هي العقبة الوحيدة التي وقفت في طريقنا، فبصفته أحد المؤسسات القضائية كان هناك صعوبة في الوصول الي اسباب تاخر صدور تقارير ضحايا الأخطاء الطبية، فلا أحد يتحدث، ولا يمكن ان تخرج وثيقة.
“دار التشريح المصرية”.. المصادفة البحثة قادتني الي واحدة من أهم وأخطر الدراسات الغير مطروحة للنقاش الإجتماعي أو الإعلامي خرج في اغسطس 2014، أعده فريق من قسمي الطب الشرعي وعلم السموم السريري في جامعتي القاهرة وبني سويف علي 2595 شكوي، ومن خلال فريق البحث توصلنا الي باحثة أخري بجامعة عين شمس قامت باجراء دراسة موسعة علي الأطباء ومسئوليتهم الجنائية عن الأخطاء الطبية.
مثل بحثي القاهرة وعين شمس رقم قلة ما به من معلومات وكثرة ما به من أرقام علامة فارقة في طريق بحثنا عن حقيقة عدم ادانة اي طبيب بالخطأ الطبي، فقد وضع جهة ثالثة لها دور محوري في سير القضية، كما أنه وجه إتهاما مباشرا للطب الشرعي حينما توصل الي ان نسبة لا تكاد تصل الي 6% فقط من الجثث يتم تشريحها.
“فض الأختام”.. خلال تقصينا عن حقيقة الأخطاء القاتلة وجدنا ان أغلبها يقع داخل المؤسسات الخاصة، وأن الأطباء الحكوميين يقومون بنقل الضحايا من مستشفيات الحكومة الي مؤسساتهم العلاجية الخاصة، وان وزارة الصحة ليست لها اي مسئولية رقابية او اشرافية عليها، الا في حالة وجود شكوي، وبعد التحقق منها تقوم باستصدار قرار بالغلق، وعقب التنفيذ بساعات قليلة يتم “فك الشمع الأحمر” وغرامتة لا تتخطي 200 جنية فقط لا غير.
“الجميع داخل وزارة الصحة يكذب”.. حقيقة تأكدنا منها بمجرد أن قررنا تتبع واحدة من قرارات الغلق، كانت لطبيب اثار ضجة داخل اوساط العمل الصحي في مصر، وتسبب في 79 خطأ طبي في اقل من 90 يوما، ولأنة طبيب مشهور ورئيس قسم الجراحة باحد المستشفيات العامة، تم ايقاف التحقيقات فجأة وتم الاعلان عن اغلاق مؤسستة العلاجية.
زيارة واحدة الي مستشفي الطبيب في حي الدقي بمحافظة الجيزة، اكتشفنا من خلالها ان الطبيب لا يزال يعمل ويقوم باجراء جراحات يوميا لأكثر من 10 حالات، وحينما ذهبنا الي مديرية العلاج الحر بالجيزة اكتشفنا عدم اصدار اي قرار بغلق مؤسستة، بل ان الكارثة الكبري كانت في عدد المؤسسات العلاجية الذي يصل الي 20 الف مؤسسة ورغم ذلك لا يوجد سوي 4 اطباء فقط للتفتيش عليهم، لا يملكون سيارة واحدة ويغطون مساحة تصل الي 1580 كيلو متر مربع.