محمد الربيعي - ختان النساء في كردستان.. حكايا مؤلمة تبحث عن نهايات

2010/11/5
التاريخ : 05/11/2010

بدأت القصة عندما عملت بتقرير كشف حالة عن وجود الختان في إقليم كردستان بعد أن وردت إلي بعض المعلومات عن هذه الممارسة، وفعلا انجرت تقرير عن وجود الحالة، وقررت أن اعمل في تحقيق شامل عن الختان يبين كافة الجوانب وليس فقط كشف وجود الحالة، وبقيت اجمع المعلومات واخزنها وأتابع كل ما يخص الموضوع حتى يتسنى لي العمل بالتحقيق. وعندما اشتركت في ورشة عمل لشبكة أريج بالتعاون مع وكالة أصوات العراق في اربيل طرح الزميل سعد حتر موضوع الختان فكنت أول من تقدم للعمل بالموضوع مبينا إني املك معلومات وفيرة ولي تجربة بهذا الموضوع، فتقرر عملي بالتحقيق باشراف الاستاذ زهير الجزائري رئيس تحرير وكالة أصوات العراق ومحمد الربيعي مسؤول قسم العربي، وساعدني المدرب سعد حتر بشكل كبير برسم صورة الفرضيات التي يمكن ان ننطلق منها. بدات أولا بجمع معلومات من خلال مجموعة اللقاءات مع نساء ممن تعرضن للختان كونهن يعتبرن الأساس الذي ينطلق منه التحقيق. عملت جاهدا لجمع اكبر عدد من الحالات وبأعمار مختلفة حتى أتمكن من تغطية الموضوع من كل الجوانب والتوصل إلى كافة التأثيرات والمشاكل الناتجة عن الختان. وعلى هذا الأساس وضعنا الفرضية: ختان الإناث في كردستان مستمر ويؤدي إلى مشاكل نفسية وصحية واجتماعية وحالات وفاة، والسبب في الاستمرار غياب الموقف الديني الموحد وقصور عمل السلطات وضعف أداء منظمات المجتمع المدني. بعد ان التقيت عددا كافيا من نساء تعرضن للختان، كان لابد أن أبدأ بالبحث عن التأثيرات الناتجة عن الختان ومطابقتها مع الواقع من خلال لقاء بعض المختصين بالجانب الصحي والاجتماعي والنفسي، وكذلك محاولات إحصاء حالات الطلاق والوفاة الناتجة بسبب الختان إن كانت موجودة. بدأت أولا من الجانب الصحي حيث التقيت مديرة مستشفى النسائية والتوليد في مدينة السليمانية وقامت بتوضيح عملية الختان بشكل مفصل ومن ثم شرح المضاعفات الصحية الناتجة، وبعد ذلك توجه إلى الجانب الثاني وهو النفسي وحاورت اختصاصية في علم النفس بجامعة السليمانية وناشطة في معاهد اعادة التاهيل النفسي في المعهد، وهي بدورها قامت بتوضيح المضاعفات النفسية الناتجة عن الختان مستلهمة المعلومات من خلال بعض الحالات التي تقوم بمعالجتهن نفسيا، ومن ثم توجهت إلى قاضية (مدعي عام) والتي بينت لي الجانب القانوني والعقوبات المفروضة على الختان بموجب القانون العراقي وكذلك حصرت لي حالات الطلاق الناتجة بسبب عدم الانسجام في فراش الزوجية، كنسبة افتراضية لعدم وجود إحصائيات مفصلة. بعد أن قمت بحصر كافة الجوانب بقي أن أتحقق من أسباب استمرار الختان. التقيت مجموعة من الناشطات في منظمات المجتمع المدني في مجال مناهضة الختان واللواتي أكدن بأن العنصر الديني هو أهم عنصر مسبب لاستمرار الختان حيث أن الناس يعتقدون بأن الختان واجب ديني، وكذلك عدم وجود قانون صريح يجرم عملية الختان ويعاقب القائمين عليها. وطابقت ذلك مع لقاء بعض الحالات. ومن هنا توجهت أولاً إلى لجنة حقوق المرأة في برلمان كردستان لان المعلومات التي حصلت عليها بينت أن اللجنة قدمت مشروع قانون لمناهضة الختان للبرلمان منذ عام 2007، لكنه ما يزال في أروقة البرلمان دون ان يقر. مسؤولة لجنة حقوق المراة في البرلمان أكدت أن هناك معارضة شديدة من بعض أعضاء البرلمان من ذوي الطابع العشائري والديني ويصرون على أن الختان حالة بسيطة وليست ظاهرة ولا تحتاج إلى قانون. وآخرون يخجلون من مناقشة موضوع الختان في جلسات البرلمان، وبعد ذلك التقيت مسؤولة لجنة حقوق المرأة السابقة في البرلمان والتي بدورها بينت كافة المعوقات التي واجهة إقرار القانون والمراحل التي مر بها. ومن هنا توجهت إلى الجانب الديني حيث التقيت بلجنة الإفتاء في إقليم كردستان ووزارة الأوقاف. وحاولت التوصل من خلالهم إلى رأي موحد ولكن دون جدوى. فمن ناحية يؤكدون أن الموضوع له رابط ديني ومن جانب آخر يعلنون أن الختان المطبق الآن ليس مطابقا للشريعة ويطالبون الناس بالابتعاد عن الختان. وبعض رجال الدين يصرون على أن الختان واجب شرعي ويجب تطبيقه على الرغم من الفتوى التي صدرت من هيئة الإفتاء. وبعد ذلك حاولت أن أتوصل إلى رأي المجتمع من خلال لقاء شخصيات من طبقات اجتماعية مختلفة. توصلت من خلال لقائهم إلى أن هناك جانب يؤكد على انه واجب ويجب التطبيق وآخرون يرون أن الموضوع تقليد بال ويجب مناهضته بخاصة من عانى بسبب الختان من رجال يشعرون ببرود نسائهم أو نساء هجرهن رجالهن بسبب البرود الناتج عن الختان. كما حاولت ان أستقرئ الأسباب التي تمنع السلطة من الوقوف في وجه هذه الظاهرة؛ فالتقيت بباحث اجتماعي وضح كيف هناك ترابط بين الدين والعشيرة والسلطة ما يدفع الأخيرة إلى خلق توازن لكسب ودهم. وهنا تحققت كافة عناصر الفرضية باستثناء حالات الوفاة، حيث لم أتوصل إلى أي حالة وفاة. وبقي أن اجمع إحصائيات تبين حجم انتشار الختان في المجتمع، ولكن دون جدوى. لم أجد أي إحصائية رسمية تبين حجم الحالة الحقيقي بسبب عدم وجود أي إحصائية معتمدة من قبل الدولة. وتبين أن هناك إحصائية واحدة قامت بها منظمة (وادي) والتي تظهر أن الختان منتشر بنسبة أكثر من 70%، وأن إعلان هذه النسبة ولد صراع بين السلطات والمنظمة حيث تصر السلطات ان النسبة لا تصل الى هذا الحد وان الموضوع حالة وليس ظاهرة، فيما تصر المنظمة على أن النسبة حقيقية وان الختان ظاهرة في كردستان تحتاج الى علاج سريع. أكثر المصاعب التي واجهتني هي أن أقوم بتحقيق يهتم بموضوع يخص المرأة وتحديدا الجهاز التناسلي وأنا رجل. وكان ذلك يسبب الكثير من المتاعب مثل خجل النساء من التحدث. كما ان المجتمع الكردي وكما هو معلوم بأنه مجتمع عشائري وديني كانت المخاطر كثيرة لو اكتشف أحدهم أنني أتحدث مع ابنته أو زوجته بهذا الموضوع. والمصاعب الأخرى عدم وجود أي إحصائيات رسمية ولا حتى بيانات أولية لدى السلطات. حتى أنني لم استخدم حرية حق الحصول على المعلومات، كما أن الصعوبة الأخرى تمثلت بكيف أبقى في جانب محايد بين رأي السلطات والمنظمات المدنية توصلت ومن خلال عملي في هذا التحقيق إلى أن أفضل طريقة للعمل في مثل هذا الموضوع هو البدء من النساء المتعرضات للختان لأنهن يمكن أن يساعدوك في الوصول إلى كل ما له علاقة بالموضوع. نعم هناك صعوبة في إيجاد الحالات ولكنها الطريقة الأفضل لبدء هذا التحقيق. كما أن المنظمات المهتمة بحقوق المرأة تساعد كثيرا في جمع المعلومات عن الموضوع. وبهذا تم التحقيق وبقي أن أركز المعلومات وأسد أي فراغات أو ثغرات، بحسب توصيات المشرفين على التحقيق والذين قدموا لي الكثير من العون. وبعدها قمنا بمراجعة التحقيق مرة ثانية مع الزميل سعد حتر الذي أضاف الكثير على التحقيق لإعطائه صورة أفضل وخرج التحقيق بهذا الشكل، وتم نشر التحقيق بتاريخ 29/10/2010. أولى التفاصيل التي أثارت انتباهي وأنا ابدأ بالإشراف على تحقيق ختان الإناث، أن هذه الظاهرة التي كانت منتشرة بشكل واسع في النواحي والقرى المتناثرة على سفوح كردستان، تشبه الى حد بعيد “الملف السري” الذي لا يريد أحد أن يكشف أوراقه للغرباء. لم يكن من السهل أن تتلمس آثار هذه الظاهرة على حياة شريحة واسعة من المجتمع الكردستاني، خصوصا إذا كانت تتعلق بشريحة النساء في بيئة محافظة مثل التي تسود في مدن كردستان الثلاث (السليمانية، أربيل، دهوك). ولأنني كنت من بين “الغرباء” الذين عاشوا في كردستان خلال السنوات الأربع الماضية، هالني في بداية الأمر ما أطلعت عليه من الأرقام والتفاصيل التي اطلعت عليها وأنا أتابع العمل مع كاتب التحقيق دلوفان برواري خطوة بخطوة في “ظاهرة ختان الإناث في كردستان”. بدءا من مطلع آب أغسطس 2010 وحتى نهاية تشرين الأول أكتوبر، كانت المعلومات التي حصلنا عليها حول ظاهرة الختان تفوق ما كنا نتخيله عن حجم هذه الظاهرة، فالتناقض في تحديد النسب والأرقام كان يوحي بأن الوصول الى حجم الظاهرة ومقدار ما تتركه من آثار على نساء كردستان سيكون صعبا للغاية، الأكثر صعوبة كان محاولة فهم سبب الصمت الذي يلف الظاهرة على الصعيد الرسمي، فلا قوانين تناقش هذه الممارسة أو تحاول الحد منها، ولا دراسات او إحصائيات متوفرة في سجلات المؤسسات الحكومية، ولا أرقام يمكن ان نحصل عليها من بين سجلات المستشفيات او المحاكم. حين بدأ الزميل دلوفان بإجراء المقابلات الأولية، بدا لي أن الغاز هذه الظاهرة لن تتكشف بسهولة، فمع استحالة الحصول على إحصائية رسمية، كانت الأرقام الوحيدة المتوفرة لحجم الظاهرة هو ما طرحته منظمة وادي التي سبق ان اتهمها الجهات الرسمية بـ”الكذب ومحاولة تشويه الحقائق”. المنظمة قدمت احصائية تقول ان نسبة 71% من نساء كردستان تعرضن للختان، لكن الجكومة الكردستانية تقول أن ختان الإناث مجرد “حالة” بدأت بالتناقص حتى باتت شبه معدومة في بعض المناطق. وما بين التوصيفين “الظاهرة” و “الحالة”، تراكمت الكثير من القصص والمعلومات التي برع في جمعها دلوفان برواري على مدى أكثر من شهرين. كان الشك في كل ما يقال وسيلتنا المتاحة لمعرفة المزيد من التفاصيل، والافتراضات التي وضعناها في بداية التحقيق لم تسلم من التعديل مرارا، وكلما كان ذلك ضروريا للوصول الى اقرب نقطة من حقيقة الظاهرة. نساء تعرضن للختان، خاتنات مارسن عملية الختان، باحثون اجتماعيون وسياسيون، قانونيون وبرلمانيون وأطباء، رجال دين مع الظاهرة وآخرون ضدها، لجان برلمانية ومؤسسات حكومية، منظمات مجتمع مدني، كل هؤلاء وضعوا بين أيدينا ركاما من الكلمات تجاوز عددها الـ12 الف كلمة، هي حصيلة ما سلمني إياه دلوفان. استغرق العمل على التحقيق وقتا أطول مما كنت أتخيله، وكان العمل تحت ضغط الوقت للإسراع في انجاز التحقيق تمهيدا للمشاركة في مسابقة سيمور هيرش، يصيبني أحيانا بالشتات والرغبة في التأجيل يوما بعد يوم. لكن التشجيع والمساندة التي حظيت بها من الأستاذ زهير الجزائري وخبرته في التعامل مع تحقيقات من هذا النوع، يضاف اليها ملاحظات الأستاذ سعد حتر ومداخلاته أثناء انجاز التحقيق، وما قدمه الزملاء شيماء محمد وسفين حميد وسامان نوح من معلومات وصور وحكايا، ساعدنا أخيرا في الوصول الى قصة كاملة لـ”ظاهرة الختان في كردستان”. تحقيقا “ختان الإناث في كردستان” و”قصة تجنيد الأطفال في تنظيم القاعدة” اللذان دخلنا بهما مسابقة سيمور هيرش في “الوقت بدل الضائع” وخرجنا منها بالجائزتين الاولى والثانية على التوالي، مثلا بالنسبة لي تجربة مميزة تعلمت منها أن التحقيقات الاستقصائية عالم فريد يمكن ان يحتل الصدارة في الصحافة العراقية لوقت ليس بالقصير، خصوصا أن العراق ما زال حتى الان، “الارض البكر” للتحقيقات الاستقصائية التي تنتظر من يتجرأ على فتح ملفاتها في المستقبل.