رنا الصباغ تكتب: فساد.."مشروع رقم 1"؟

2017/11/22
التاريخ : 22/11/2017

الغد– الصحفي الاستقصائي العراقي أسعد الزلزلي رفع هامات زملائه العرب المؤمنين بقدسية مهنة المتاعب “قولا وفعلا”، بنيله جائزة “النجم الساطع”؛ أرفع وسام دولي عن تحقيقه بعنوان: “المشروع رقم 1“. 
هذا الشاب البغدادي ذو الـ 35 ربيعا صعد إلى منبر المؤتمر العالمي للصحافة الاستقصائية ليتقاسم هذه الجائزة النوعية مع معد تحقيق “القتل اللاقانوني في جنوب شرق نيجيريا”. 
نفّذ هذا التكريم على وقع تصفيق 1100 صحافي/ة تجمهروا من أصقاع المعمورة لتبادل الخبرات، التشبيك وإدراك مهارات جديدة، في المؤتمر الدولي الذي عقد هذا الأسبوع في جوهانسبرغ/ جنوب أفريقيا.
من بين المشاركين 25 صحفيا عربيا ممن امتطوا مخاطر الاستقصاء في مصر، الأردن، العراق، تونس، اليمن، سورية، المغرب، الجزائر، ليبيا ودول خليجية. هذا الحضور العربي شكّل سابقة في عمر هذا المحفل الدولي الذي يلتئم كل عامين تقريبا.
الحشد ذاته صفّق بحرارة للزميل المصري مصطفى المرصفاوي، الذي وصل تحقيقه الاستقصائي المتلفز “موت في الخدمة” إلى قائمة  الترشيحات النهائية؛ بين 11 من أصل 211 تحقيقا استقصائيا من 67 دولة. 
تكرّس هذه الجائزة لتكريم روّاد صحافة الاستقصاء في الدول النامية أو تلك التي تمر بمراحل انتقالية. هناك يعمل الصحفيون المهنيون الجادون تحت شبح الموت دون عقاب أو بمواجهة تهديدات بالسجن، الإيذاء الشخصي أو العائلي. ويطلب منهم الوقوف صراحة إلى جانب السلطة أو دفع الثمن. لائحة طالبي الانتقام تطول: حكومات، مؤسسات سيادية/ أمنية، شخوص عالم الإجرام والفساد المالي والإداري وميليشيات تنافس السلطات الرسمية في عديد دول.
في تحقيقه المتلفز، الذي تطلب إعداده ستة أشهر متنقلا بين العراق والأردن، كشف الزلزلي فسادا حكوميا في بلاده أدى الى هدر 200 مليون دولار من ميزانية وزارة التربية والتعليم. خّصصت تلك المبالغ قبل سبع سنوات لبناء 1700 مدرسة، لكنّ معاول الفساد حرمت الأطفال من أبسط حقوقهم وسط لعبة عنوانها تراجع العدل أمام الفساد. 
بعد بث التحقيق بشهور، أصدرت محكمة الجنايات المختصة بقضايا النزاهة في العراق حكما غيابيا بسجن مقاول ذلك المشروع سبع سنوات ومصادرة أمواله عقب إدانته في قضية فساد “المشروع رقم 1”. 
فساد التعليم في العراق ليس إلا رأس جبل جليد في بلد يتصدر مؤشر الفساد الدولي للعام 2016. 
أما المرصفاوي، فكشف من خلال تقريره البصري الذي بثته فضائية الـ “بي بي سي” العربية العام 2016، عن أدلّة قوية تؤشر إلى تعرض مجندين في قوى الأمن المركزي المصرية لسوء معاملة تلامس حدود القتل على يد ضباط. بعد بث التحقيق بشهور، حكمت محكمة مصرية بالسجن على ضابط ورد اسمه في التحقيق المتصل بموت المجند أحمد حسني.  
بالطبع لم يكن حسني المجند الوحيد الذي تحيط به علامات استفهام بين وفيات تقع داخل قوى الأمن المركزي. فطوال عامين، حقّق المرصفاوي في سلسلة حالات موت وانتحار مفترض سجّلت منذ العام 2008 داخل هذا الجهاز الحيوي. كما كشف التحقيق انتشار ثقافة العنف بين فئة الضباط على أساس إساءة معاملة المجندين. وعثر المرصفاوي على أدلّة على وجود ممارسات منظمة للتغطية على المخالفات، سوء المعاملة أو حتى القتل.
دفع الزلزلي والمرصفاوي ثمن تحقيقيهما، حال كل صحفي يقترب من عش دبابير الفساد والإفساد. 
الزلزلي تعرض لحملة تشويه سمعة بيد المتهم الرئيس في قضية الفساد وكذلك لإطلاق رصاص على مركبته أمام منزله.  
أما المرصفاوي ففصل من صحيفته بعد تسع سنوات من العمل فيها، وتعرض لحملة تشويه سمعة منظمة على يد أربعة مذيعين/ مقدمي برامج سياسية في فضائيات مصرية مقربة من السلطة اتهمته بالتآمر على بلده وتشويه سمعة جهازه الأمني.
وانتشر وسم “ال بي بي سي تتآمر ضد مصر” كالنار في الهشيم. 
لم يفقد الزلزلي والمرصفاوي حماسهما بعد حوادث الانتقام والتشهير. بل، يستمر انتاجهما بذات الكثافة دون خوف من ردود أفعال المتنفذين في القطاع العام أو الخاص على قاعدة التحالف بين السلطة والمال. تحركهما – على غرار أقرانهما في هذا المضمار- رغبة ذاتية غير موضوعية صوب تقصّي قضية ما بسبب الشعور بالغبن، الخوف أو الغضب حيال تأثيرها على المجتمع. وبذلك يحقّق هذا الصحفي رغبة ذاتية بهدف فتح باب النقاش المجتمعي (الرسمي والشعبي) لتصويب المشكلة القائمة. لكن أساس العمل المتبع للوصول إلى الحقيقة يقوم على نهج بحث موضوعي يتوخّى أقصى درجات الموضوعية ويمنح المتسبب (عن قصد أو دون قصد) حق الإدلاء بوجهة نظره في الموضوع.
يحرك الزلزلي والمرصفاوي هدف مشترك؛ فهما لا يسعيان إلى النجومية أو الثأر الشخصي بل لخدمة المجتمع من خلال توثيق المعلومات والحقائق بأسلوب موضوعي يستهدف كشف المستور وإحداث تغيير من أجل المنفعة العامة عبر تعزيز مبادئ الشفافية والعدالة الاجتماعية والحاكمية الراشدة. 
هذا النوع النادر من العمل الصحفي يكشف شيئا ما يسعى أحد ما لإبقائه سرا أو يؤشر لإخفاقات منهجية وسياسات غير صائبة نتيجة لجهد شخصي يبذله صحفي/ة للمنفعة العامة. على أن غالبية غرف التحرير العربية لا تحبّذ مثل هذه المغامرات لأن كلفتها المهنية والمالية مرتفعة.
يكشف هؤلاء الصحفيون الفريدون هدر أموال وغياب عدالة، وكذا انعكاس الممارسات المغلوطة خلف الجدران على دافعي الضرائب. وتؤشر التحقيقات إلى إخفاقات مسؤولين، قصور أنظمة وتشريعات عبر المقارنة بين آليات العمل نظريا وفعليا وصولا إلى تفعيل مبدأ المساءلة من أجل تصويب الأوضاع ومعالجة الخلل.
صحافيو الاستقصاء يشكلّون أقل من 6 % من أقطاب السلطة الرابعة في أي بلد حول هذا العالم. 
يتطلب الاستقصاء تراكم مهارات عبر سنوات من العمل المضني.  فمن أساسيات الاستقصاء عامل الشك والفضول إلى جانب التحضير المسبق بعمق حول الموضوع والأشخاص والضحايا والقوانين، ثم تنظيم المعطيات بدقّة لفهم الصورة الأكبر. كذلك الصبر، المثابرة، العزم والإصرار على مواجهة العقبات المتوقعة، وتنويع مصادر الحصول على المعلومات للوصول إلى الهدف. يتمتع الاستقصائي أيضا بحس مرهف، دقّة الملاحظة، ملكة الاهتمام بالتفاصيل والتزام الحذر والتكتم لأن سمعة الآخرين بين يدي هذا الصحفي. ويتمتع بالمرونة أيضا والقدرة على هضم ومعالجة معلومات غير متوقعة أو حقائق قد تناقض فرضية التحقيق مثار البحث. الشك في الاستقصاء يجب أن يكون على نحو منهجي بعيد عن السخرية أو الحط من قدر الآخر أو ازدراء مؤهلاته وكفاءته. فالشك على نحو صحي يشكّل روح وجوهر الإطار الفكري للصحفي الاستقصائي. والأهم عامل الوقت. فالوقت اكسير التحقيق؛ من خلاله تتبلور الأفكار وتتطور بما يمكّن الصحفي الاستقصائي من نسج خيوط موضوعه عبر ربط الحقائق بالوقائع، والأحداث بالحقائق بطريقة تنتج قصة استقصائية واقعية وحيوية. وبذلك يتحول الصحافي الاستقصائي إلى حامي ضمير الرأي العام. بعد كل هذا الجهد يسرد الصحفي الاستقصائي القصّة (القضية) كما هي وليس كما يرغب المسؤول في ترويجها. 
شكرا للزلزلي وللمرصفاوي ولجيل جديد من الصحفيين الاستقصائيين في عالمنا العربي، حيث الصحافة مقيدة بالأصفاد. هؤلاء أثبتوا حضورا في الحركة الاستقصائية العالمية بعد أن باتوا جزءا من السلطة الرابعة يتكلمون باسم من لا صوت له.