لسنا وحدنا في معركة الحريات الإعلامية!

2014/07/16
التاريخ : 16/07/2014

الغد – رنا الصباغ – سان فرانسيسكو/ هامبورغ – تترنح الحريات الإعلامية في الولايات المتحدة -التي طالما طرحت نفسها نبراسا لقيم الديمقراطية والعدالة والمساواة- أمام هجمة شرسة يشنّها هذه الأيام تحالف السلطة ورأس المال، إلى جانب القضاء الذي يفترض أن يكون حامي حمى الدستور. كما تشمل هذه الجبهة مؤسسات إعلامية متنفذة لا تريد إغضاب مفاصل الحكم، ومحكمة العدل العليا، وإدارة الرئيس باراك أوباما التي تتخذ من حماية الأمن القومي غطاء لتكميم الأفواه، حال غالبية دول منطقتنا المشتعلة بالحروب والفتن.

الحال في الولايات المتحدة تتماهى مع وضعنا في زمن رديء، تتسابق فيه حكومات عربية لسن قوانين تلجم ما تبقىّ من حريات إعلامية وسياسية، عقب تطويق آثار ما كان يعرف بـ”الربيع العربي”. وتسند هذه الحملة ماكينة الإعلام العام والخاص، مع انشغال عامة الناس في تأمين لقمة العيش وضمان الأمن والأمان. وآخر محاولات السيطرة على عقول الناس، إقرار تشريعات هدفها المعلن محاربة الإرهاب، لكنّها قد تصم أي معارض للسياسات الرسمية بالإرهابي.  يؤكد هذا التشابه تقرير منظمة “هيومان رايتس واتش” عن حال الحريات في العالم للعام 2014؛ إذ يرصد تراجعا في غالبية دول العالم، بما فيها أميركا. وبالطبع، سجلت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أسوأ انتكاسة في الحريات للعام الثامن على التوالي.

كان الأميركيون يتغنون بالتعديل الأول، المعتمد في 15 كانون الأول (ديسمبر) 1791، والذي يحظر على السلطة التنفيذية سن أي تشريع يحد من حريات المواطن، وفي مقدمتها حريتا التعبير والإعلام. واليوم، توظف السلطة كل طاقاتها وأعينها للجم هذه الحرية، مستفيدة من تداعيات “غزوة” نيويورك-واشنطن في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ثم فضائح التسريبات الأمنية؛ ويكيليكس وسنودن.

يشعر الأميركي بتنامي الرقابة على الهواتف والإنترنت والبيانات الشخصية، فضلا عن استغلال حقوقه الأساسية، باسم الأمن القومي والحرب على الإرهاب والتطرف الديني.. حالنا حالهم.

بيضة القبان في معركة اختبار حرية الصحافة  في أميركا هذه الأيام، قرار محكمة استئناف فيدرالية برفض طعن قدّمه الصحفي جيمس رايزن (نيويورك تايمز)، ضد طلب قضائي بكشف مصادر أوردها في كتاب يؤشر فيه إلى فساد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي. آي. إيه) بعنوان “حال من الحرب”. وقد شرح رايزن في كتابه الصادر العام 2006، خطة للوكالة -ألغيت لاحقا- كانت تقضي بإرسال عالم روسي سابق إلى إيران لنقل معلومات مغلوطة، ومحاولة تخريب البرنامج النووي الإيراني. المحكمة استدعت الصحفي للشهادة في إطار محاكمة المسؤول السابق في الوكالة جيفرى ستيرلنغ، بتهمة الكشف عن معلومات سرية حول عملية ضد إيران. ورفضت النظر في قضية الطعن من دون الإدلاء بأي تعليق، ما يعني سريان قرار محكمة الاستئناف الفيدرالية بكشف رايزن عن مصادره أو تعرضه للسجن. والأرجح أن ينتهي به المطاف في السجن، حال زميلته جوديث ميللر التي رفضت الكشف عن مصارها قبل عقد في إطار تسريبات تتعلق بالاستعدادات لشن الحرب على العراق.

اليوم، ينضم رايزن إلى صحفيين وازنين يتهمون إدارة أوباما بكونها من “الد أعداء حرية الصحافة، على الأقل بالنسبة للجيل الحالي من الإعلاميين”. يلومونها على تضييق مساحة الحرية حيال قضايا متصلة بالأمن القومي، وتهديداتها المبطنة بمعاقبة أي صحفي يتجاوز الحدود. وينتقدون أيضا إجراءات التحقيق مع صحفيين للكشف عن مصادرهم السرية؛ وهم غالبا قارعو الجرس(Whistleblowers) داخل مؤسساتهم، ممن يتصرفون بدافع حماية المنفعة العامة من إساءات السلطة التي تفضّل العمل خارج عين الرقابة.

تلك السياسات دبّت الرعب في صفوف رؤساء تحرير وسائل إعلام كبرى، ودفعتهم إلى التفكير مرتين قبل ممارسة دور السلطة الرابعة في حماية المجتمع من انتهاكات المتنفذين.

تندرج هذه العناوين ضمن تشخيص ليول برغمان وسيمور هيرش -من عمالقة الصحفيين الاستقصائيين، الحائزين على أرفع الجوائز والتقديرات، بما فيها جائزة “بوليتزر”. إذ تحدث الرائدان قبل أسبوعين أمام مؤتمرين للصحفيين الاستقصائيين؛ الأول عقد في سان فرانسيسكو الأميركية بمشاركة 1600 صحفي استقصائي، والثاني في هامبورغ الألمانية بمشاركة 600 إعلامي مختص في هذا المضمار.

إذن، كلنا معشر الصحفيين “في الهوى سوا” هذه الأيام؛ سواء في الغرب أو في العالم العربي، وإن بدرجات. برغمان، المنخرط في مهنة المصاعب منذ 45 عاما -نال خلالها عشرة جوائز وأوسمة- اشتكى للمجتمعين في سان فرانسيسكو من أنه بات في حكم المستحيل أن يكتب أي صحفي عن شخصية عامة “من دون ان يجرجر للمحاكم”. واستذكر بألم ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حين ترسخت أواصر الاستقصاء، وتجلّت في كشف “فضيحة ووترغيت”، وإجبار ريتشارد نيكسون على الخروج من البيت الأبيض.

وقتها كان الإعلاميون مدعومين بغطاء مجتمعي حيوي، وبمؤسسات مؤمنة بالحريات المدنية، وفق الدستور في تعديله الأول، والذي يحظر إصدار أي قانون يحول دون حرية اعتناق الأديان أو حرية التعبير والإعلام أو تؤثر على حق وحرية التجمع السلمي. الأمور انقلبت في غالبية دول العالم.

برغمان يقول إن الارتداد بدأ في عهد الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن ووزير العدل والنائب العام جون آشكروفت، بخاصة بعد اعتداءات 2001. وتواصل ذلك في عهد أوباما ووزير العدل والنائب العام إيريك هولدر، عقب تفجّر تسريبات عميل وكالة الأمن القومي إدوارد سنودن حول عمليات تجسس أميركية في العالم.

بالطبع، استغلت الإدارة وبعض وسائل الإعلام الفرصة لشن الحرب على سنودن ومن يسانده من صحفيين نشروا تسريباته، بدعوى أنها تهدد الأمن والمصالح الأميركية، كما قد تهدد حياة أشخاص كشفت هوياتهم، من دون إعطاء أي أدلة على ذلك.

“أوباما وهولدر ليسوا أصدقاءنا (الصحفيين)”، على ما يؤكد برغمان، مستذكرا عشرات التصريحات التي تعهد فيها أوباما بحماية الحريات ودور السلطة الرابعة في تعزيز الشفافية وحماية المصادر. لكن إدارته تحاكم المصادر (السرية) التي يعتمد عليها الصحفيون لنبش الحقائق، على نحو غير مسبوق. ومستشهدا بقضية زميله جيمس رايزن، تساءل برغمان: “كيف نستطيع حماية مصادرنا لكي نمارس دورنا بالإنابة عن المجتمع (العامة)؟”. ونبّه إلى أن “مصادرنا تواجه اليوم خطر أوباما وأعوانه. ونحن لا شيء إن لم نستطع الاعتماد على مصادرنا وحمايتهم”. وناشد الصحفيين المشاركين حماية “مكتسباتهم ومصادرهم وبعضهم بعضا” من هذه المخاطر التي تحوّل الصحفيين الاستقصائيين تحديدا إلى عناصر تطبيق القانون: “عندما نطلب معلومات من المكاتب الإعلامية التابعة لمؤسسات عامة هذه الأيام، وبموجب حق الحصول على المعلومات وبضمانة حرية تداولها، يبلغنا المسؤولون هناك بأن عليهم مراجعة البيت الأبيض والحصول على إذن منهم قبل العودة إلينا”.

استمع المشاركون في المؤتمر إلى شهادات صحفيين يعانون “الأمرّين” في جمع المعلومات. إذ تدوم معاملات الأخذ والرد على طلبات حق الحصول على المعلومة أشهرا وحتى سنوات. وإن سمحت التعليمات للصحفيين برفع دعاوى على الجهات التي تمتنع عن تزويدهم بالمعلومات، فضمن حدود المسموح وليس المعقول. 

أما سيمور هيرش، فشن هجوما لاذعا في مؤتمر هامبورغ على القائمين على صناعة الإعلام وعلى الإدارة السياسية والأمنية في بلاده. وتحدث أحد رواد الاستقصاء الأميركيين عن وجوب إقالة 70 إلى 90 % من رؤساء التحرير في بلاده

لأنهم “جبناء”. وانتقد أيضا وكالة الأمن القومي التي فضحت في تسريبات العميل/ الموظف السابق إدوارد سنودن عن أكبر عملية تجسس استخباري أميركي على هواتف وشبكات الإنترنت حول العالم، بما فيها مراسلات إلكترونية للحكومات.

قال هيرش: “أعرف أن وكالة الأمن القومي تجمع معلومات عن كل شخص، وبذلك يخرقون حق كل أميركي. وأن باستطاعتها عمل ما تريد لأنها قوية. لكن ذلك لن يثنيني عن متابعة عملي وحياتي” كصحافي متقصي. وأكد وجود العديد من المصادر النقية والمبدئية في المؤسسات الرسمية، لكنها واقعة بين سندان لقمة العيش ومطرقة إساءات القائمين عليها.

معلوم أن تحقيقات هيرش في مستهل حياته العملية ساهمت في إجبار الإدارة الأميركية على اتخاذ قرار الانسحاب من فيتنام. وتوالت خبطاته الإعلامية، وآخرها تحقيقان استقصائيان كشف فيهما -بالاعتماد على مصادر سرية- أسباب تراجع أوباما عن توجيه ضربة عسكرية لسورية الصيف الماضي. ووثق تورط تركيا ودول أخرى وأجهزة استخبارات في الهجوم الكيميائي (غاز السارين) على الغوطة قرب دمشق، وقبلها فضيحة سجن “أبو غريب”، حين نشر قبل ثماني سنوات صور سجناء عراة تعرضوا لانتهاكات جنسية وتعذيب.

إذن، حال الصحفيين عامة والاستقصائيين خاصة وصناعة الإعلام عند الأميركيين لا تسر ولا تطمئن. وبالطبع، حالنا أصعب بكثير.

لكن الشعلة لن تنطفئ بوجود صحفيين لم يبيعوا ضمائرهم لمن يجلس على كرسي السلطة، حفاظا على مكاسب شخصية ضيقة، أو لإبعاد شبح الملاحقة القانونية أو أشكال تأديب أخرى. فالسلطة الرابعة وعمادها التوثيق والتدقيق بهدف تفعيل مبدأ الرقابة والمساءلة، تبقى حاجز أمن لحكومة تعمل لخدمة شعبها. وتقف الصحافة في مقدمة المدافعين عن الحريات والشفافية. لكن الإعلام لا يستطيع ضمان مجتمع ديمقراطي إذا حجبت الحكومات الحقيقة.

يحتاج الصحفيون للشعور بالأمان والحماية من التهديدات التي تصدهم عن القيام بواجبهم، أو تهدد حياتهم ولقمة عيشهم. ويحتاجون أيضا إلى دعم مجتمعي ومؤازرة زملائهم، إذا كانوا فعلا مهتمين بدورهم في مجتمع مدني أو قيد التحول صوب الديمقراطية. فالصحافة المحترفة والحرة تأخذ قوتها من الناس لإعلاء العدالة في المجتمعات. وهي منهم وتعمل لصالحهم.

أخبار ذات صله