عباس للمتنفذين: "مع الموافقة، لا مانع من الإعفاء"

3 ديسمبر 2017

تحقيق: فراس الطويل

العربي الجديد “تحية الوطن وبعد، أرجو موافقتكم على إعفائي من رسوم الجمرك للسيارة التي أنوي شراءها (…) الشكر والتقدير لسيادتكم”. بكلمات مقتضبة، أرسل الناطق الرسمي باسم حركة فتح أسامة فايز داوود القواسمي في 21 من تشرين الأول العام 2014 كتاباً بخط يده إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس يطلب منه الحصول على إعفاء جمركي لشراء سيارة من نوعJeep Grand Cherokee .

كان هذا الكتاب كافياً ليقوم الرئيس بالتوقيع عليه بعد خمسة أيام فقط: “وزير المالية، مع الموافقة، لا مانع من الإعفاء”. بعد يومين من هذا الكتاب، وجه رئيس ديوان الرئاسة وقتها حسين الأعرج، كتابا إلى وزير المالية، يطلب فيه الإطلاع على كتاب الرئيس وإجراء اللازم، أي تسريع تنفيذ منح القواسمي الإعفاء المطلوب.

بعد وصول الكتاب إلى وزير المالية شكري بشارة، حوله على الفور إلى مدير عام الجمارك والمكوس وضريبة القيمة المضافة في وزارته لؤي حنش، الذي أصدر في تاريخ الأول من كانون الأول 2014 فاتورة إعفاء من الجمارك والضرائب بقيمة 56000 دولار، وإرسالها إلى الشركة الفلسطينية للسيارات، وهي الشركة التي اشترى منها القواسمي سيارته ذات محرك الديزل بقوة 3000 CC. وبذلك تحركت مؤسسة الرئاسة، ومديرية الجمارك في وزارة المالية في أقل من عشرة أيام لتمنح القواسمي، الذي يشغل أيضاً منصب مدير عام الشؤون العامة والتنظيمية في إحدى شركات الاتصالات العاملة في فلسطين، سيارة خاصة معفاة من الجمارك والضرائب.

في المقابل، يستغرق ذوو الإعاقة ما لا يقل عن ستة أشهر للحصول على إعفاء جمركي مشروط بشراء سيارة لا يزيد محركها عن 2000 CC، وذلك بعد عرض المعاملات على لجان مختصة في كل من وزارات التنمية الاجتماعية والصحة والمواصلات والمالية، وحصولهم على موافقة من كل منها.

“مِنح الرئيس” تستنزف الخزينة العامة

حالة القواسمي، واحدة من 8 حالات وثقها التحقيق لمتنفذين منحهم الرئيس الفلسطيني إعفاءات جمركية وضريبية من دون سند قانوني. لم يتمكن التحقيق من رصد كل حالات إعفاءات الرئيس، لكن الحالات الثماني التي استطعنا توثيقها أدت وحدها إلى هدر مبلغ 357600 دولار كان من المفترض أن تذهب إلى الخزينة العامة. يغطي هذا المبلغ، على سبيل المثال، ميزانية برنامج المساعدات النقدية الذي تقدمه وزارة التنمية الاجتماعية لـ1670 أسرة فقيرة على شكل 214 دولاراً كل 3 أشهر. فاللواء شحادة محمد مزعل إسماعيل، قائد الحرس الخاص للرئيس ومرافقه الشخصي، امتلك سيارة Mercedes ML 400 عبر طلب الموافقة على منحه الإعفاء مباشرة من وزير المالية، فكان له ذلك من خلال كتاب أرسله الوزير إلى مدير عام الجمارك الذي قام بدوره بإرسال كتاب للواء شحادة في تاريخ 5 تشرين الأول: “بناء على موافقة معالي وزير المالية، نود إعلامكم بأنه تم منحكم إعفاءً جمركياً لشراء مركبة للاستعمال الشخصي”. بلغت قيمة الإعفاء 68000 دولار، وبهذا امتلك شحادة المركبة بمحرك 3000CC  وسجلت باسمه في اليوم التالي.

لم يكتف شحادة باقتناء سيارة واحدة معفاة، فكان لأحد افراد اسرته نصيب ايضاً من سيل الإعفاءات. فامتلك سيارتين أخريين دون دفع الجمرك: BMW x5  ذات المحرك 4400 CC وAudi Q5 بين عامي 2014 و2016. وصلت قيمة الإعفاء للمركبيتن إلى 82800 دولار!

ضمن المستفيدين أيضاً من “مِنح الرئيس” أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب محمد صالح عريقات. أعفي الشخص الثاني في المنظمة الذي يشغل أيضاً عضوية اللجنة المركزية لحركة فتح من جمرك سيارة BMW i650 في 24 كانون الثاني 2017. بلغت قيمة الإعفاء 47000 ألف دولار، وسجلت المركبة ذات محرك البنزين بقوة 4400 CC  بإسمه الشخصي. علماً أن عريقات كان قد استفاد سنة 2008 من إعفاء لشراء سيارة بصفته نائباً في المجلس التشريعي.

مقربون آخرون حصلوا على إعفاءات جمركية بموجب توقيع الرئيس عباس، مثل منير سلامة أحمد سلامة رئيس الفريق الوطني لقاعدة البيانات في ديوان الرئاسة. في الثامن من شباط 2017، وجه مدير عام الجمارك كتابا إلى سلامة يخبره فيه بالموافقة على منحه إعفاء جمركيا لشراء مركبةAudi Q7  حيث تكررت العبارة نفسها في الكتاب: “بناء على تعليمات سيادة الرئيس، فقد تقرر منحكم إعفاء جمركيا لشراء مركبة لمرة واحدة”. وتم تنفيذ الإعفاء بقيمة 47000 دولار، وتسجيل المركبة في وزارة النقل والمواصلات بتاريخ 16 آذار 2017.

كذلك حال السفير الفلسطيني السابق في فنلندا نبيل درويش مصطفى الوزير الذي اشترى مركبةAudi A4  معفاة بقيمة 29000 دولار بعد تلقيه رسالة مشابهة من مدير عام الجمارك في الرابع من تشرين الأول 2015.

ليس المقربون من دائرة الرئاسة وحدهم من استفادوا من الاعفاءات الجمركية لشراء سيارات خاصة، فالفنان محمد جبر عبد الرحمن عساف الفائز بلقب مسابقة “آرب آيدول” عام 2013 كان له نصيب أيضاً من الإعفاء بقيمة 30800 دولار بشرائه سيارة Audi Q5 بموجب “منحة من الرئيس أبو مازن” كما سُجل في رخصة المركبة الصادرة عن وزارة النقل والمواصلات.

أكثر من ذلك، فقد استطاع بعض المتهربين من الجمارك بموجب استثناءات الرئيس، كاللواء شحادة وزوجته وصائب عريقات ومنير سلامة، التهرب أيضاً من تسجيل مركباتهم في وزارة النقل والمواصلات ضمن الأنظمة المتبعة لديها. تنص تلك الأنظمة على عدم تسجيل أو تجديد ترخيص أي مركبة حاصلة على إعفاء جمركي إلا بعد صرف لوحات تمييز تنتهي بالرقم 31، بالإضافة إلى بقية الرقم التسلسلي لتسجيل المركبة، وذلك بهدف الالتزام بالشروط الخاصة للاعفاء الجمركي وتسهيل عمل الجهات الرقابية. وبذلك تكون الوزارة قد خالفت الأنظمة التي حددتها بمنح مسؤولين كبار أرقاما عادية كباقي المركبات الأخرى التي حصلت على إعفاء من الجمارك والضرائب.

يشير مصدر مطلع في وزارة النقل والمواصلات إلى أن عدد المركبات المعفاة من الجمارك منذ مطلع عام 2006 وحتى نهاية أكتوبر 2017 بلغ 10096 مركبة، بينها ما يزيد عن 1500 مركبة أعفيت ولم تحمل الرقم التمييزي. الأمر الذي نفاه الناطق باسم وزارة النقل محمد حمدان، قائلاً: “لا يوجد لدينا أي مركبة معفاة من الجمارك ولا تحمل رقم 31”.

كما أن أحد أبرز شروط الإعفاء الجمركي هو عدم تجاوز سعة محرك المركبة 2000 cc إلا في حالات سيارات تشجيع الاستثمار والسيارات الحكومية والهيئات المحلية، إلا أن الأرقام الموثقة لدينا تبين إعفاء 3675 مركبة بمحرك يزيد عن السعة المحددة من قبل الجمارك الفلسطينية، من بينها 424 مركبة حكومية واستثمارية. بمعنى أن 3251 مركبة على الأقل يمكن تصنيفها بأنها غير قانونية ومخالفة لشروط الإعفاء منذ بداية تولي محمود عباس الرئاسة الفلسطينية وحتى بداية نوفمير 2017.

جمارك وضرائب السيارات في فلسطين تتخطى 100%

تصدر الجمارك الفلسطينية سنوياً كتاب التعرفة الجمركي الخاص بالسيارات الذي يحدد قيمة الجمارك والضرائب لكل سيارة حسب نوعها وقوة محركها وسنة إنتاجها. على كل شخص يرغب بشراء مركبة دفع رسوم قد تصل إلى 100% لوزارة المالية حتى يتمكن من امتلاكها وفقاً لقانون الجمارك الأردني لعام 1962 الذي تحتكم اليه فلسطين، ومجموعة أخرى من القرارت. علما أن أسباب ارتفاع الجمارك، وفق الاقتصادي نصر عبد الكريم، تعود إلى ارتباط السلطة الفلسطينية بغلاف جمركي واحد مع إسرائيل، وإلى افتقار الخزينة العامة الفلسطينية إلى موارد متعددة. فتعتبر الجمارك والضرائب المفروضة على السيارات، إلى جانب تلك المفروضة على التبغ والمحروقات، أبرز ثلاثة عناصر تدخل أموالا إلى الخزينة الفلسطينية.

على سبيل المثال، تدفع السيارات التي يتجاوز حجم محركها (2000 (CC جمركاً بقيمة 7%، وضريبة شراء بقيمة 75 %، والمجموع يضاف إليه 16% ضريبة القيمة المضافة. بينما تدفع السيارات التي يقل حجم محركها عن (2000 CC) 50% ضريبة شراء و7% جمرك، والمجموع ايضاً يضاف إليه 16% ضريبة القيمة المضافة. لكن السيارات الاوروبية المنشأ تعفى من الجمرك بقيمة 7% حسب الاتفاقيات المبرمة بين فلسطين وهذه الدول، ولكن يتوجب عليها دفع ضريبتي الشراء والقيمة المضافة. الأرقام أعلاه تعني أن قيمة الجمارك والضرائب التراكمية تصل إلى 114% من سعر السيارات التي تزيد سعة محركها عن 2000 فيما تصل إلى 84% للمحركات ذات السعة الأقل.

تدفع الجمارك والضرائب المرتفعة الفلسطينيين من ذوي الدخل المحدود إلى الاقتراض من البنوك لشراء مركبات تلبي احتياجاتهم في التنقل بفترات سداد قد تصل إلى خمس سنوات. وتشير الأرقام الصادرة عن سلطة النقد الفلسطينية إلى أن قيمة قروض السيارات بلغت حتى نهاية شهر حزيران من العام الجاري 260 مليون دولار.

الرئيس يخالف القانون

حددت القوانين الخاصة بالجمارك والضرائب المعمول بها في الأراضي الفلسطينية الفئات التي يحق لها الاستفادة من الإعفاء الجمركي على السيارات، وعلى رأسهم الأشخاص ذوو الإعاقة في الأطراف السفلية، إلى جانب نواب المجلس التشريعي حيث يستطيع كل نائب الحصول على سيارة واحدة خلال فترة انتخابه. كما أتاح القرار بقانون رقم (5) لسنة 2014 للأسرى الفلسطينين الذين أمضوا أكثر من 20 عاماً في السجون الاسرائيلية شراء سيارة بلا جمارك وضرائب لمرة واحدة. وتعفى أيضاً السيارات التي تهدف إلى تشجيع الإستثمار والهيئات المحلية التي تمنح كمساعدات خارجية إلى الأجهزة الامنية والحكومة الفلسطينية.

تطرح الحالات التي وثقناها سؤالاً حول السند القانوني للإعفاءات الجمركية التي منحت من قبل الرئيس الفلسطيني. فهل يحق للرئيس بموجب صلاحياته التي حددها القانون منح من يشاء إعفاء من الضريبة والجمرك؟ يؤكد المستشار القانوني عيسى أبو شرار، الذي شغل منصب رئيس المجلس الأعلى للقضاء سابقاً، أنه لا يجوز للرئيس منح تلك الإعفاءات اذا لم يكن المستفيدون منها ضمن القائمة المنصوص عليها بالقانون. والمادة 88 من القانون الأساسي المعدّل لعام 2003 واضحة بهذا الخصوص حيث تنص على أن “فرض الضرائب العامة والرسوم، وتعديلها وإلغائها، لا يكون إلا بقانون، ولا يعفى أحد من أدائها كلها أو بعضها، في غير الأحوال المبينة في القانون”. ولا توجد في الأحوال المبينة في القانون الأساسي ما يجيز منح مسؤولين أو مقربين من الرئيس الفلسطيني إعفاءات ضريبية أو جمركية.

وتعطي المادة 43 من القانون الأساسي الفلسطيني المعدل لعام 2003 وتعديلاته لعام 2005 رئيس السلطة الحق في اصدار قرارات لها قوة القانون في حالات الضرورة  بغياب انعقاد المجلس التشريعي، وهو بالفعل معطل منذ 2007، لكن حتى تلك المادة لا تبرّر قانونية الإعفاءات الجمركية والضريبية الممنوحة من قبل الرئيس.

ولا تتضمن صلاحيات الرئيس، وفق القانون الأساسي، امتلاكه حق إعفاء أي شخص من تأدية الضرائب والجمارك، باعتبارها أموالا من الخزينة العامة لا يجوز صرفها إلا وفقا لبنود الصرف المحددة في الموازنة العامة. وتنص المادة الثامنة من قانون الموازنة العامة لسنة 1998 بوضوح أنه “لا يجوز إعفاء أحد من تأدية الضرائب والرسوم في غير الأحوال المبينة في القانون”.

كما راعى الدستور مبدأ المساواة بين المواطنين في المادة 9 منه، وعليه لا يجوز منح استثناءات لأشخاص بحد ذاتهم. وإذا تقرر منح استثناءات، فيجب أن تكون منظمة بقانون أو بلائحة تنفيذية أو نظام وتطبق على فئة محددة وليس على أشخاص بعينهم.

وفي حين التزم ديوان الرئاسة الفلسطينية والمستشار القانوني للرئيس محمود عباس الصمت حيال رسائلنا التي أرسلناها من خلال البريد الفلسطيني الرسمي للرد على استفساراتنا حول الحالات غير القانونية الموثقة في التحقيق، جاء الرد من الجمارك الفلسطينية التابعة لوزارة المالية، وهي الجهة المسؤولة عن تنفيذ صرف الإعفاءات. وأكد لنا مدير عام الجمارك لؤي حنش أن “جميع الإعفاءات المصروفة تمت وفق الإجراءات القانونية”. وقال إن “جميع الإعفاءات المصروفة تمت وفق الإجراءات القانونية”. وأفاد أن الاستثناءات تتم وفق المرجعيات القانونية المتعلقة بإعفاءات ذوي الاحتياجات الخاصة وفئات أخرى. لكن في كل الأحوال لا يتعلق ذلك بالحالات التي وثقها التحقيق. ومن ضمن الاستثناءات “القانونية” التي ذكرها حنش قرار صدر عام 1996 عن الرئيس السابق ياسر عرفات الذي ينص على عدم جواز منح أي إعفاء جمركي لأي شخص إلا بموافقة شخصية من عرفات وباستثناء خاص يصدر عنه. علماً أن القرار المذكور تم ابطاله بموجب القانون الأساسي المعدل لعام 2003 وتعديلاته لعام 2005، والذي نص صراحةً على عدم جواز فرض أو إلغاء أي ضريبة إلا بموجب القانون، وذلك لم يحدث في حالة الإعفاءات التي منحها الرئيس عباس لمقربين منه. ومن جانبه، نفى وكيل وزارة النقل عمار ياسين علمه بوجود إعفاءات رئاسية.

وإن كان القانون منح الرئيس صلاحية إصدار قرارات لها قوة القانون في حالات الضرورة التي لا تحتمل، كالحروب وانتشار الأوبئة، يبقى السؤال: ما “الضرورة التي لا تحتمل” في منح المقربين من الرئيس إعفاءات بعشرات آلاف الدولارات من الخزينة العامة؟ وهل “حالات الضرورة” تشمل المصالح الخاصة للمتنفذين؟

أنجز هذا التحقيق بدعم شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) وبإشراف الزميلة كارول كرباج