في " شطايبو"، الحديد يصدأ

14 ديسمبر 2021

أثر ارتفاع أسعار الحديد بشكل قوي على قطاع البناء في الجزائر الذي ما فتئت تتوقف ورشاته الواحدة تلو الأخرى و يُسرح عماله بالآلاف. تقف ” توالى ” في هذا التحقيق على أسباب ارتفاع هذه الأسعار التي هي انعكاس مباشر لسياسة الحكومة لتشجيع الصادرات خارج قطاع المحروقات.

لدى وصولنا يوم الخميس، 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، إلى موقع بناء كائن بواد تليلات في ضواحي مدينة وهران (430 كيلمترا غرب العاصمة الجزائر)، كان حبيب ياسين لكحل وهو مهندس مدني شاب في “شركة مستوي” (SARL Mestoui)، يتفقد تقدم الأشغال التي بدأت منذ أكثر من ثلاثة أشهر بفريق واحد من خمسة عشر عاملاً. يشرح حبيب قائلا: “في العادة، يتناوب فريقان إلى ثلاثة فرق على الموقع لكن مع ارتفاع سعر حديد البناء، تم تقليل وتيرة العمل بشكل كبير”.

و تحافظ شركة “مستوي”، التي أنشئت في عام 2007، على هذه الوتيرة المنخفضة للعمل حتى لا تضطر إلى تسريح العمال. يشير المهندس إلى أن “البنائين و اللحامين و عمال التعدين يسافرون يوميا من سيدي بلعباس إلى واد تليلات على مسافة 70 كيلومترا من أجل إنهاء أشغال بناء المنصة”. لكنه قدر أنه ليس بوسع الشركة المحافظة على هذه الوتيرة لأكثر من شهرين: “إذا لم تنخفض أسعار قضبان تسليح الخرسانة في الأشهر القليلة المقبلة، فقد نضطر إلى إيقاف الأشغال”.

لا يمكن، حسب حبيب، لأي مرقي (مطور) عقاري، ووفقا لسعر البيع الحالي المقدّر رسمياً بحوالي 47 ألف دينار جزائري للمتر المربع بدون احتساب تكلفة الأرض، أن يتحمل التكاليف الإضافية الناجمة عن ارتفاع أسعار قضبان تسليح الخرسانة. كما يمكن أن يحدث ارتفاع في أسعار العقارات أيضًا اعتبارًا من بداية عام 2022، بما في ذلك أسعار السكن الترقوي الحر. حيث أنه من غير المستبعد أن تتبع أسعار سكنات باقي الصيغ التي تحظى بدعم الدولة (السكن الترقوي المدعم، السكن الترقوي العمومي والسكن الإيجاري الترقوي)، هذا المنحى التصاعدي.

فعلا، لقد أدت الزيادة المفاجئة في أسعار قضبان تسليح الخرسانة في الأشهر الأخيرة إلى ركود كبير في بيع هذه المادة في الجزائر. وقد ألغيت في وهران، وجميع أنحاء المنطقة الغربية من البلاد، العديد من الوظائف في شبكات التوزيع بالجملة والتجزئة لمادة حديد البناء وتمّ تعليق عدد من المشاريع.

بدأ هذا الركود في نهاية شهر آب أغسطس\ 2020، بعد إعلان الحكومة عن إجراءات تحفيزية لمصدري المنتجات خارج قطاع المحروقات. الهدف: تحقيق 5 مليارات دولار من الصادرات خارج قطاع المحروقات بحلول نهاية عام 2021. وبما أن منتجات الحديد والصلب تحتل مكانة بارزة، فقد أتى هذا الإعلان بلا شك في الوقت الخطأ.

كساد مواد البناء

أخذت أسعار الحديد و الصلب منحى تصاعديا من تشرين الثاني \ نوفمبر إلى كانون الأول \ ديسمبر 2020. ونتيجة لذلك، تقلصت سوق قضبان الحديد المستوردة في الجزائر رغم أن المنتجين المحليين رفعوا من أسعارها مواكبة لهذا الارتفاع.

في مطلع شهر نوفمبر الماضي، أكد ضيف القناة الثانية الناطقة بالأمازيغية للإذاعة الوطنية، لطفي كامل مناعة، مدير عام مجمع الحجار للحديد و الصلب، أن ارتفاع سعر الكوك (بقايا الفحم) في السوق العالمية هو المتسبب في الارتفاع الأخير في أسعار منتجات الصلب. وقال أن “ارتفاع أسعار المواد الخام المستخدمة في الأفران العالية، وخاصة فحم الكوك، هو سبب الزيادة المفرطة في أسعار منتجات الصلب”. كما أوضح أن سعر فحم الكوك، وهو سلعة متداولة في البورصة، قد ارتفع من 300 دولار أمريكي للطن في شباط / فبراير الماضي إلى 650 دولارًا أمريكيًا اليوم.

ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية ليس السبب الوحيد لهذا الغلاء. فانخفاض قيمة الدينار الجزائري، وفرض ضرائب إضافية على استيراد حديد تسليح الخرسانة، والهيمنة التي تمارسها شركة توسيالي (Tosyali) على السوق في وهران، والغرب الجزائري، جعلت الأسعار تتضاعف لتقفز إلى الضعف في غضون أسبوعين تقريبا. وارتفع سعر القنطار الواحد من قضبان الحديد ذات القطر 12 ملم، وهو الأكثر استخداما في البناء، من 7000 إلى 13000 دينار جزائري.

دفع هذا الارتفاع في الأسعار العديد من المقاولين إلى إيقاف ورشات البناء الخاصة بهم. فقد تأثرت شركات البناء والأشغال العمومية (BTPH)، التي تتواجد أصلا في حالة سيئة بسبب الأزمة المالية والصحية، بشكل كبير من هذا الارتفاع في الأسعار.

تقصينا الوضع في حي النجمة المعروف بـ”شطايبو” الواقع ببلدية سيدي الشحمي، 15 كيلومترًا شرق وهران، حيث يتركز أكبر عدد من تجار حديد البناء في المدينة. والذين يغلقون محلاتهم الواحد تلو الآخر. تراجعت كذلك الأنشطة الملحقة كالنقل و المناولة و المتاجر التي يحركها سوق شطايبو. يخبرنا قادة، وهو أحد أقدم بائعي قضبان تسليح الخرسانة في شطايبو، أنه وزملاؤه في المهنة قد اعتقدوا بعد ارتفاع الأسعار للمرة الأولى نهاية العام 2020 أن الأمر عابر قبل أن يبدأ في الاستقرار. وأكد قادة أنه لا يبيع، منذ مدة، سوى كميات صغيرة لأصحاب ورشات البناء الذاتي ممن لا تزال لديهم القدرة على تمويل بناء منازلهم.

لم يؤد هذا الارتفاع في الأسعار، بحسب قوله، إلى كساد حديد تسليح الخرسانة فقط، و إنما كل مواد البناء الأخرى كالإسمنت والخشب والركام “الحديد والخشب يتبعان عادة نفس المنحى” كما أضاف أن “العديد من البائعين الذين أغلقوا مستودعاتهم خلال فترتي الحجر الصحي لم يستأنفوا نشاطهم بعد رفعه بسبب غلاء أسعار الحديد والتي لا تشجع على ذلك”.

الأتراك هم من يتحكم في السوق المحلية غرب البلاد

ارتفعت أسعار قضبان تسليح الخرسانة، وهي واحدة من أكثر مواد البناء المطلوبة في البلاد رغم أن إنتاجها المحلي لم يتوقف. إلا أن “توالى” وقفت على أنها متوفرة بكثرة و مخزنة لدى تجار التجزئة وتجار الجملة والمنتجين في وهران.

قبل عام، كان أعلى سعر تجزئة هو 7400 دينار/ قنطار بالنسبة للقضبان ذات القطر 12 ملم. في حزيران / يونيو 2020، قفزت الأسعار إلى 13000 دينار جزائري (نحو مئة دولار أميركي) لدى تجار الجملة. يخبرنا تاجر، طلب عدم الكشف عن هويته، أن” الحديد هنا يصدأ بسبب قلة المشترين”. وأوضح أن “المنتجين يفضلون تصدير هذه المادة إلى الخارج، فمستودعات شطايبو ممتلئة، لكن الأسعار لا تزال مرتفعة”. وأضاف أن “سياسة التصدير التي تتبناها الدولة هي التي أربكت السوق المحلية”.

بالإضافة إلى مستودعات التجار، فإن مناطق التخزين التابعة لمجمع توسيالي للصلب في بطيوة (وهران) ممتلئة دائمًا. وحسب تقرير لوكالة الأنباء الجزائرية، فقد وصل إنتاج توسيالي في عام 2021 إلى 3 ملايين طن من مختلف منتجات الحديد المتداولة محليًا منها و الموجهة إلى التصدير. ومن المتوقع أن تصل عائدات التصدير للمجمع إلى ما يقرب من 750 مليون دولار بنهاية عام 2021. وهو يطمح للوصول إلى 2 مليار دولار سنويًا بعد بدء تشغيل مصنع الصلب المسطح عام 2025، وفقًا لذات المصدر.

يتواجد موزع توسيالي الرئيسي “شركة ساجية” (SARL Sadjia) في منطقة النشاط بشطايبو، وهو الذي كان يسيطر على سوق الجملة في وهران إلى غاية الأشهر القليلة الماضية. وقال ممثل عن هذه الشركة التي يملكها الأخوين غساب أنهم “تخلوا عن نشاط تسويق قضبان تسليح الخرسانة منذ ستة أشهر”.

كانت شركة “ساجية” واحداً من أكبر أربعة موزعين لقضبان تسليح الخرسانة في وهران مع شركة “حنيفي” (Sarl Hanifi) و”المغرب للحديد” (Maghreb Fer) و”وفاء ميتال” (Wafa Metal) . استحوذت هذه المجموعة الرباعية من الشركات على جزء كبير من سوق الاستيراد قبل بدء تشغيل المجمع التركي في عام 2013. وقال نفس المتحدث: “منذ عام 2015 بدأت الواردات في الانخفاض”.

قرر مجمع توسيالي، خلال هذه الفترة، ممارسة سياسة تجارية تعتمد على عدد مخفض من تجار الجملة. وهكذا وقع خياره على هذا الرباعي. وفرض عليهم مقياس سعر وفقًا للكمية المطلوبة. كما ألزمهم بإيداع 5٪ من ثمن الكميات المطلوبة كضمان كل أسبوعين.

وأعرب الداودي غساب، مدير شركة “ساجية”، عن أسفه قائلاً: “كانت الأسعار التي حددها الأتراك تتزايد باستمرار. لم يعد بإمكاننا أن نشرح لعملائنا أسباب هذه الزيادة. ولا توجد بحوزتنا طريقة للتدخل في هيكل الأسعار. أصبح الأتراك، بعد خمس سنوات سادة السوق الوحيدين”.

أكد مدير مبيعات توسيالي ، عيروش لقادير، في اتصال هاتفي مع “توالى” أنه ” على الرغم من الزيادة في الأسعار ، تظل منتجاتنا جد تنافسية”. واسترسل شارحا ” نستورد جميع المدخلات وحتى انخفاض سعر الحديد الخام لن يكون له تأثير كبير على أسعار المنتجات النهائية لأن الشحن البحري الذي ارتفعت أسعاره بشكل كبير خلال هذه الفترة لا يزال باهظ الثمن”.

المضاربة

أوضح الداودي غساب أن سعر الجملة للقنطار الواحد كان 6620 دينار جزائري في أبريل 2020. ارتفع في تشرين الثاني \ نوفمبر من نفس العام إلى 6650 دج، ثم وصل إلى 13000 دج في أقل من شهر. في شهر تشرين الأول \ أكتوبر 2021، تم تداول القنطار بـ 12400 دينار جزائري. حتى أسعار النفايات الحديدية، التي يتحكم فيها بارونات السوق الموازية، ارتفعت إلى حد كبير ووصلت إلى 2500 دينار جزائري/قنطار.

لا يتوقع الداودي غساب هبوط الأسعار على الفور، إلا إذا قررت الحكومة خفض الضرائب والشروع في خطة تحفيز طموحة في قطاع البناء. وقال لنا أنه اضطر إلى “إعادة نشر العاملين في وحدة إنتاج بلاط السيراميك في انتظار اتضاح الرؤية “.

انغلق سوق الاستيراد تمامًا مع دخول مصانع توسيالي (وهران) و”قطر للصلب Qatari Steel” (جيجل – شرق العاصمة) حيز الإنتاج. و هو لا يعد خيارا بالنسبة لمحدثنا: ” تبلغ تكلفة قضبان تسليح الخرسانة عند الاستيراد اليوم ما بين 15000 و 16000 دينار جزائري باحتساب تكاليف الشحن البحري وجميع الرسوم والضرائب الأخرى. ما يعني أنه في الوقت الحالي، لا يعدّ خيار العودة للاستيراد مطروحا”.

وبحسب عايد موسى، نائب رئيس الجمعية العامة للمقاولين الجزائريين (AGEA)، لا يوجد ما يبرر مثل هذا الارتفاع في الأسعار: ” كل هذا من المضاربة. الأسعار الحالية لا تخضع لقواعد السوق ولكنها تخضع لاتفاق ما بين المنتجين. يجب وقف الصادرات على أمل وضع حد لهذا التوتر في أسعار قضبان تسليح الخرسانة. فهذه الأسعار تشكل عائقا أمام انتعاش قطاع البناء.” وأوضح أن ” تحديث الأسعار في إطار الصفقات العمومية لا يغطي الفارق الذي أحدثته الزيادة في الأسعار و وأن الخزينة العمومية هي من يتحمل العبء في النهاية”.

من جانب الحكومة، دعا وزير الصناعة أحمد زغدار على هامش زيارة تفقدية لجيجل في أيلول \ سبتمبر الماضي لمراجعة سعر قضبان تسليح الخرسانة وقال لوسائل الإعلام إن مجمعات قطر للصلب وسيدر وتوسيالي مطالبون بمراجعة أسعار الحديد بما يتناسب مع الأسعار المطبقة في الأسواق العالمية، من دون أن يوضح الأسباب التي أدت إلى ارتفاع الأسعار في السوق المحلي.

تكاليف إضافية تبلغ حوالي 20٪ في البناء

استسلم مقاول البناء، محمد حرمل، وأوقف ورشة بناء 30 مسكنًا بصيغة السكن الترقوي المدعم (LPA 2) الكائنة بالمخرج الغربي لمدينة سيدي بلعباس في غرب البلاد (70 كيلومتراً جنوب وهران). و فضل الكثيرون مثل محمد حرمل تأخير إعادة إطلاق مشاريعهم، و سرحوا عمالهم في انتظار انخفاض سعر هذه المادة المهمة. وقد أعلنت 2500 شركة إفلاسها ملغية ما لا يقل عن 150.000 وظيفة في عام 2021، وفقًا لـلجمعية العامة للمقاولين الجزائريين.

و أكد محمد حرمل أن دفع 12000 أو 13000 دينار جزائري مقابل القنطار الواحد من حديد البناء هو انتحار واضح. وقال أنه مع هذه الأسعار فإن المرقي العقاري سيخسر استثماره لا محالة. واسترسل في حديثه معنا كاشفا أنه من بين الثلاثين شركة أو نحو ذلك المشاركة في برنامج LPA2 في سيدي بلعباس، انطلقت اثنتان فقط في أشغال تهيئة الأرضية وأن المشهد مماثل في أغلبية ولايات الغرب الجزائري كوهران ومستغانم والشلف.

من الناحية الفنية وفيما يتعلق بالنفقات اللازمة لتنفيذ الأشغال تؤدي الزيادة بنسبة 100 ٪ في سعر قضبان تسليح الخرسانة إلى زيادة بنسبة 20 ٪ على الأقل في سعر السكن من ثلاث غرف على سبيل المثال، وهي زيادة في حدود مليون دينار جزائري ككلفة إضافية تؤخذ من جيوب المشترين لهذه العقارات أو من أموال الدولة لبرامج الإسكان العمومي،
وفي هذه الظروف أقدمت شركات البناء على إبطاء ورشات الإنجاز. وأنا لا أتحدث هنا عن الترقية العقارية فقط وإنما عن جميع برامج الإسكان العمومية.

يقول حرمل

وأشار إلى أنه لا يمكن استبعاد سيناريو إضراب مقاولات البناء، مثل ذلك الذي قامت به شركات ولاية الشلف في حزيران/يونيو الماضي.

مكسي عبد الله مقاول وورئيس غرفة التجارة والصناعة “المكرة” متخصص في قطاع الهيدروليكا، يقول إنه لم يلاحظ أبدًا مثل هذا التوتر في سوق قضبان تسليح الخرسانة: “تؤ ثر تقلبات الأسعار على قطاع البناء، وتحد من الإنفاق العمومي وتضغط على الخزينة العمومية”.

و إذ يستمر بعض المقاولين في تموين ورشاتهم رغم الخسارة من أجل استمرار أعمالهم، فقد قدر معدل توقف شركات المقاولات عن العمل ما بين 25 و 30٪ ، مما يؤدي إلى خسائر كبيرة في الوظائف. في المجمل، قُيِّمَ عدد الوظائف المفقودة في هذه الفترة التي يميزها ارتفاع أسعار حديد البناء بين 20.000 و 30.000 وظيفة، فقط في سيدي بلعباس.

باختصار، أرادت الحكومة تشجيع التصدير خارج قطاع المحروقات في ظروف تميزت بارتفاع أسعار حديد البناء في الأسواق الدولية فساعد ذلك المنتجين المتحكمين في السوق المحلية على مواكبة هذه الأسعار من أجل توفير كميات للتصدير، رغم أنها تعتمد بشكل كبير على المواد الأولية المحلية ما أدى إلى إفلاس عدد كبير من مقاولات البناء، تسريح الآلاف من عمالها و تعطيل المشاريع السكنية التي هي أحد أولويات هذه الحكومة.