أثّر ارتفاع أسعار الحديد بشكل قوي على قطاع البناء في الجزائر الذي ما فتئت تتوقف ورشاته الواحدة تلو الأخرى و يُسرّح عمّاله بالآلاف. تقف "توالى" في هذا التحقيق على أسباب ارتفاع هذه الأسعار التي هي انعكاس مباشر لسياسة الحكومة لتشجيع الصادرات خارج قطاع المحروقات.
لدى وصولنا يوم الخميس، 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، إلى موقع بناء
كائن في واد تليلات في ضواحي مدينة وهران (430 كيلومتراً غرب العاصمة
الجزائر)، كان حبيب ياسين لكحل وهو مهندس مدني شاب في "شركة مستوي"
(SARL Mestoui)، يتفقد تقدم الأشغال التي بدأت منذ أكثر من ثلاثة أشهر
بفريق واحد من خمسة عشر عاملاً. يشرح حبيب قائلاً "في العادة، يتناوب
فريقان إلى ثلاثة فرق على الموقع لكن مع ارتفاع سعر حديد البناء، تمّ
تقليل وتيرة العمل بشكل كبير".
وتحافظ شركة "مستوي"، التي أُنشئت في عام 2007، على هذه الوتيرة
المنخفضة للعمل حتى لا تضطر إلى تسريح العمال. يشير المهندس إلى أنّ
"البنائين واللّحامين وعمّال التعدين يسافرون يومياً من سيدي بلعباس
إلى واد تليلات على مسافة 70 كيلومتراً من أجل إنهاء أشغال بناء
المنصة". لكنّه قدّر أنّه ليس بوسع الشركة المحافظة على هذه الوتيرة
لأكثر من شهريْن "إذا لم تنخفض أسعار قضبان تسليح الخرسانة في الأشهر
القليلة المقبلة، فقد نضطر إلى إيقاف الأشغال".
لا يمكن، حسب حبيب، لأيّ مطوّر عقاري -وفقاً لسعر البيع الحالي المقدّر
رسمياً بحوالي 47 ألف دينار جزائري للمتر المربع بدون احتساب تكلفة
الأرض- أن يتحمل التكاليف الإضافية الناجمة عن ارتفاع أسعار قضبان
تسليح الخرسانة. كما يمكن أن يحدث ارتفاع في أسعار العقارات أيضاً
اعتباراً من بداية عام 2022، بما في ذلك أسعار السكن الترقوي الحر. إذ
إنّه من غير المستبعد أن تتبع أسعار سكنات باقي الصيغ التي تحظى بدعم
الدولة (السكن الترقوي المدعم، والسكن الترقوي العمومي والسكن الإيجاري
الترقوي)، هذا المنحى التصاعدي.
فعلاً، لقد أدّت الزيادة المفاجئة في أسعار قضبان تسليح الخرسانة في
الأشهر الأخيرة إلى ركود كبير في بيع هذه المادة في الجزائر. وقد
أُلغيت في وهران، وجميع أنحاء المنطقة الغربية من البلاد، العديد من
الوظائف في شبكات التوزيع بالجملة والتجزئة لمادة حديد البناء وتمّ
تعليق عدد من المشاريع.
بدأ هذا الركود في نهاية شهر آب/ أغسطس 2020، بعد إعلان الحكومة عن
إجراءات تحفيزية لمصدّري المنتجات خارج قطاع المحروقات، بهدف تحقيق 5
مليارات دولار من الصادرات خارج قطاع المحروقات بحلول نهاية عام 2021.
وبما أنّ منتجات الحديد والصلب تحتل مكانة بارزة، فقد أتى هذا الإعلان
بلا شك في الوقت الخطأ.
أخذت أسعار الحديد والصلب منحى تصاعدياً من تشرين الثاني/ نوفمبر إلى
كانون الأول/ ديسمبر 2020. ونتيجة لذلك، تقلصت سوق قضبان الحديد
المستوردة في الجزائر رغم أنّ المنتجين المحليين رفعوا من أسعارها
مواكبة لهذا الارتفاع.
في مطلع شهر نوفمبر الماضي، أكد ضيف القناة الثانية الناطقة
بالأمازيغية للإذاعة الوطنية، لطفي كامل مناعة، مدير عام مجمع الحجار
للحديد والصلب، أنّ ارتفاع سعر الكوك (بقايا الفحم) في السوق العالمية
هو المتسبب في الارتفاع الأخير في أسعار منتجات الصلب. وقال إنّ
"ارتفاع أسعار المواد الخام المستخدمة في الأفران العالية، وخاصة فحم
الكوك، هو سبب الزيادة المفرطة في أسعار منتجات الصلب". كما أوضح أنّ
سعر فحم الكوك، وهو سلعة متداولة في البورصة، قد ارتفع من 300 دولار
أمريكي للطن في شباط/ فبراير الماضي إلى 650 دولاراً أمريكياً اليوم.
ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية ليس السبب الوحيد لهذا الغلاء.
فانخفاض قيمة الدينار الجزائري، وفرض ضرائب إضافية على استيراد حديد
تسليح الخرسانة، والهيمنة التي تمارسها شركة توسيالي (Tosyali) على
السوق في وهران، والغرب الجزائري، جعلت الأسعار تتضاعف لتقفز إلى الضعف
في غضون أسبوعيْن تقريباً. وارتفع سعر القنطار الواحد من قضبان الحديد
ذات القطر 12 ملم، وهو الأكثر استخداماً في البناء، من 7000 إلى 13,000
دينار جزائري.
دفع هذا الارتفاع في الأسعار العديد من المقاولين إلى إيقاف ورشات
البناء الخاصة بهم. فقد تأثرت شركات البناء والأشغال العمومية (BTPH)،
التي تتواجد أصلاً في حالة سيئة بسبب الأزمة المالية والصحية، بشكل
كبير من هذا الارتفاع في الأسعار.
تقصّينا الوضع في حيّ النجمة المعروف بـ "شطايبو" الواقع ببلدية سيدي
الشحمي، 15 كيلومتراً شرق وهران، حيث يتركز أكبر عدد من تجار حديد
البناء في المدينة. والذين يغلقون محلاتهم الواحد تلو الآخر. تراجعت
كذلك الأنشطة الملحقة كالنقل والمناولة والمتاجر التي يحركها سوق
شطايبو. يخبرنا قادة، وهو أحد أقدم بائعي قضبان تسليح الخرسانة في
شطايبو، أنّه وزملاؤه في المهنة قد اعتقدوا بعد ارتفاع الأسعار للمرة
الأولى نهاية العام 2020 أنّ الأمر عابر قبل أن يبدأ في الاستقرار.
وأكد قادة أنّه لا يبيع، منذ مدة، سوى كميات صغيرة لأصحاب ورشات البناء
الذاتي ممن ما تزال لديهم القدرة على تمويل بناء منازلهم.
لم يؤدِّ هذا الارتفاع في الأسعار، بحسب قوله، إلى كساد حديد تسليح
الخرسانة فقط، وإنّما كلّ مواد البناء الأخرى كالإسمنت والخشب والركام
"الحديد والخشب يتبعان عادة نفس المنحى" كما أضاف أنّ "العديد من
البائعين الذين أغلقوا مستودعاتهم خلال فترتيْ الحجر الصحي لم يستأنفوا
نشاطهم بعد رفعه بسبب غلاء أسعار الحديد التي لا تشجع على ذلك".
ارتفعت أسعار قضبان تسليح الخرسانة، وهي واحدة من أكثر مواد البناء
المطلوبة في البلاد رغم أنّ إنتاجها المحلي لم يتوقف. إلّا أنّ "توالى"
وقفت على أنّها متوفرة بكثرة ومخزنة لدى تجار التجزئة وتجار الجملة
والمنتجين في وهران.
قبل عام، كان أعلى سعر تجزئة هو 7400 دينار للقنطار بالنسبة للقضبان
ذات القطر 12 ملم. في حزيران/ يونيو 2020، قفزت الأسعار إلى 13,000
دينار جزائري (نحو مئة دولار أميركي) لدى تجار الجملة. يخبرنا تاجر،
طلب عدم الكشف عن هويته، أنّ "الحديد هنا يصدأ بسبب قلة المشترين"،
موضحاً أنّ "المنتجين يفضلون تصدير هذه المادة إلى الخارج، فمستودعات
شطايبو ممتلئة، لكنّ الأسعار ما تزال مرتفعة". وأضاف أنّ "سياسة
التصدير التي تتبناها الدولة هي التي أربكت السوق المحلية".
بالإضافة إلى مستودعات التجار، فإنّ مناطق التخزين التابعة لمجمع
توسيالي للصلب في بطيوة (وهران) ممتلئة دائماً، وحسب تقرير لوكالة
الأنباء الجزائرية، فقد وصل إنتاج توسيالي في عام 2021 إلى 3 ملايين طن
من مختلف منتجات الحديد، المتداولة محلياً منها والموجهة إلى التصدير.
ومن المتوقع أن تصل عائدات التصدير للمجمع إلى ما يقرب من 750 مليون
دولار مع نهاية عام 2021. وهو يطمح للوصول إلى 2 مليار دولار سنوياً
بعد بدء تشغيل مصنع الصلب المسطح عام 2025، وفقاً لذات المصدر.
يتواجد موزّع توسيالي الرئيسي "شركة ساجية" (SARL Sadjia) في منطقة
النشاط بشطايبو، وهو من كان يسيطر على سوق الجملة في وهران حتى الأشهر
القليلة الماضية. وقال ممثل عن هذه الشركة التي يملكها الأخوان غساب
إنّهم "تخلوا عن نشاط تسويق قضبان تسليح الخرسانة منذ ستة أشهر".
كانت شركة "ساجية" واحداً من أكبر أربعة موزعين لقضبان تسليح الخرسانة
في وهران مع شركة "حنيفي" (Sarl Hanifi) و"المغرب للحديد" (Maghreb
Fer) و"وفاء ميتال" (Wafa Metal). استحوذت هذه المجموعة الرباعية من
الشركات على جزء كبير من سوق الاستيراد قبل بدء تشغيل المجمع التركي في
عام 2013. وقال نفس المتحدث إنّ "الواردات بدأت بالانخفاض منذ عام
2015".
قرر مجمع توسيالي، خلال هذه الفترة، ممارسة سياسة تجارية تعتمد على عدد
مخفض من تجار الجملة. وهكذا وقع خياره على هذا الرباعي. وفرض عليهم
مقياس سعر وفقاً للكمية المطلوبة. كما ألزمهم بإيداع 5٪ من ثمن الكميات
المطلوبة كضمان كل أسبوعيْن.
وأعرب الداودي غساب، مدير شركة "ساجية"، عن أسفه قائلاً: "كانت الأسعار
التي حددها الأتراك تتزايد باستمرار. لم يعد بإمكاننا أن نشرح لعملائنا
أسباب هذه الزيادة. ولا توجد بحوزتنا طريقة للتدخل في هيكل الأسعار.
أصبح الأتراك، بعد خمس سنوات سادة السوق الوحيدين".
أكد مدير مبيعات توسيالي، عيروش لقادير، في اتصال هاتفي مع "توالى"
أنّه "رغم الزيادة في الأسعار، تظلّ منتجاتنا جد تنافسية". واسترسل
شارحاً "نستورد جميع المدخلات وحتى انخفاض سعر الحديد الخام لن يكون له
تأثير كبير على أسعار المنتجات النهائية لأنّ الشحن البحري الذي ارتفعت
أسعاره بشكل كبير خلال هذه الفترة ما يزال باهظ الثمن".
استسلم مقاول البناء، محمد حرمل، وأوقف ورشة بناء 30 مسكناً بصيغة
السكن الترقوي المدعم (LPA 2) الكائنة بالمخرج الغربي لمدينة سيدي
بلعباس في غرب البلاد (70 كيلومتراً جنوب وهران). وفضّل الكثيرون مثل
محمد حرمل تأخير إعادة إطلاق مشاريعهم، وسرّحوا عمالهم في انتظار
انخفاض سعر هذه المادة المهمة. وقد أعلنت 2500 شركة إفلاسها ملغية ما
لا يقلّ عن 150,000 وظيفة في عام 2021، وفقاً لـلجمعية العامة
للمقاولين الجزائريين.
وأكد محمد حرمل أنّ دفع 12,000 أو 13,000 دينار جزائري مقابل القنطار
الواحد من حديد البناء هو انتحار واضح. وقال إنّه مع هذه الأسعار فإنّ
المطوّر العقاري سيخسر استثماره لا محالة. واسترسل في حديثه معنا
كاشفاً أنّه من بين الثلاثين شركة أو نحو ذلك المشاركة في برنامج LPA2
في سيدي بلعباس، انطلقت اثنتان فقط في أشغال تهيئة الأرضية، وأنّ
المشهد مماثل في أغلبية ولايات الغرب الجزائري كوهران ومستغانم والشلف.
من الناحية الفنية وفيما يتعلق بالنفقات اللازمة لتنفيذ
الأشغال، تؤدي الزيادة بنسبة 100٪ في سعر قضبان تسليح الخرسانة
إلى زيادة بنسبة 20٪ على الأقل في سعر السكن من ثلاث غرف على
سبيل المثال، وهي زيادة في حدود مليون دينار جزائري ككلفة
إضافية تؤخذ من جيوب المشترين لهذه العقارات أو من أموال
الدولة لبرامج الإسكان العمومي،
وفي هذه الظروف أقدمت شركات البناء على إبطاء ورشات الإنجاز.
وأنا لا أتحدث هنا عن الترقية العقارية فقط وإنّما عن جميع
برامج الإسكان العمومية.
وأشار إلى أنّه لا يمكن استبعاد سيناريو إضراب مقاولات البناء، مثل ذلك
الذي قامت به شركات ولاية الشلف في حزيران/ يونيو الماضي.
مكسي عبد الله مقاول ورئيس غرفة التجارة والصناعة "المكرة" متخصص في
قطاع الهيدروليكا، يقول إنّه لم يلاحظ أبداً مثل هذا التوتر في سوق
قضبان تسليح الخرسانة "تؤثر تقلبات الأسعار على قطاع البناء، وتحدّ من
الإنفاق العمومي وتضغط على الخزينة العمومية".
وإذ يستمر بعض المقاولين في تموين ورشاتهم رغم الخسارة من أجل استمرار
أعمالهم، فقد قُدِّرَ معدل توقف شركات المقاولات عن العمل بـ 25% إلى
30%، ما يؤدي إلى خسائر كبيرة في الوظائف. في المجمل، قُيِّمَ عدد
الوظائف المفقودة في هذه الفترة التي يميزها ارتفاع أسعار حديد البناء
بـ 20,000 إلى 30,000 وظيفة، فقط في سيدي بلعباس.
باختصار، أرادت الحكومة تشجيع التصدير خارج قطاع المحروقات في ظروف
تميزت بارتفاع أسعار حديد البناء في الأسواق الدولية فساعد ذلك
المنتجين المتحكمين في السوق المحلية على مواكبة هذه الأسعار من أجل
توفير كميات للتصدير، رغم أنّها تعتمد بشكل كبير على المواد الأولية
المحلية، ما أدى إلى إفلاس عدد كبير من مقاولات البناء، وتسريح الآلاف
من عمالها وتعطيل المشاريع السكنية التي هي إحدى أولويات هذه الحكومة.