فكرة التحقيق حول “اجراءات الحرب ضد الارهاب”كانت في الذهن منذ زار الزميل رشاد الشرعبي منزل أسرة أحد أشهر عناصر القاعدة (فواز الربيعي) بعد مقتله في أكتوبر 2006، وإعداد مادة إنسانية عن وضع والديه وشقيقةً له (ام لطفلتين) طلقها والدهما جراء ملاحقات امنية وإعتقالات لاقانونية طالته بسبب مصاهرته لشقيقها (المطلوب رقم واحد حينها) ، ونشرت المادة بعدة صحف مطبوعة وإلكترونية مع إشادات كثيرة بها.
لكن قدرات الصحف اليمنية (مالياً ومهنياً) ليست بمستوى تنفيذ تحقيق عميق لهذه القضية ولفت الإنتباه إليها ولخطورتها، فظلت مجرد فكرة حتى تقدمنا بها كمشروع لشبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية(اريج) لفت إهتمام الشبكة التي دعتنا لحضور ورشة عمل حول اسس الصحافة الاستقصائية في عمّان في سبتمبر 2009.
عدنا من عمان بعد توقيع عقد اتفاقنا والشبكة، وهبطنا في صنعاء، بصحبتنا شعورٌ مختلف بشأن طبيعة مهنة الصحافة ورسالتها، مع إستفادة لا توصف اضفناها لتجربتنا المهنية، ولا نبالغ بالقول بأننا وصلنا لقناعة صارحنا الكثيرين بها مفادها ان: أداءنا الصحفي أكثر من 10 سنوات ليس شيء، مقارنة بما نحن مقبلين عليه، متسلحين برؤية حديثة ومهارات جديدة وتحدي كبير عنوانه: نكون او لا نكون؟.
خططنا وتوزعنا العمل كشريكين وبدأنا التنسيق والبحث وجمع المعلومات ثم التنفيذ الميداني، رغم معرفتنا المسبقة بحساسية القضية التي نعمل عليها (أمنياً وسياسياً وحتى إجتماعياً)، كانت البداية جيدة نوعاً ما مقارنة بواقع يمني عموماً لا يعي كمجتمع وسلطات وموظفين طبيعة الصحافة ودورها ورسالتها، والأمر أسوأ حينما يكون مرتبط بقضية حساسة كهذه.
ضاعفت البداية آلامنا، لهول ماجمعنا من معلومات، وما عرفناه من حكايات وقصص، وما التقيناه من حالات، القاسم المشترك للجميع الظلم وانتهاك القانون والمعاناة وربما الاحتقان، قبل ذهابنا عمان وبعده كنا قد حددنا مستهدفين بلقاءات وبزيارات، لكن الكثير تغير، فهناك من أعتذروا، وهناك من تهربوا، وآخرين أنكروا وملامحهم وأوضاعهم وأخبارهم تدل على العكس.
بدأت المتاعب الحقيقية حينما أتصل بنا أب الطفلين نهى ويونس بعد جلسة واحدة للعلاج النفسي في أكبر مستشفى أتفقنا معه مع شرط عدم الإشارة في مادتنا الصحفية بأن التقرير الذي سنحصل عليه صادر عن المستشفى، حيث تلقى الأب سيلاً من التهديدات من قبل عناصر الأمن وصلت حد تهديده بإقصاء طفليه من الحياة وهو ما دفعه لحرمانهما من التعليم وعدم الذهاب إلى المدرسة حتى اليوم وكشف لنا عن ذلك بعد نشر التحقيق.
في مدينة تعز، وهي مسقط رأسينا (رشاد ووهيب) كانت المفاجأة أكبر، حيث طرقنا أبواب أسر نعرفها ونعرف أن لها معتقلين سابقين أو مازالوا، في السجون اليمنية وفي غوانتانامو، تنقلنا بين الأحياء القديمة للمدينة والمنازل وجميعهم يؤكدون مذعورين أنهم لم يواجهوا أي متاعب ولم تلحق بهم أي أضرار جراء أبناءهم المطلوبين أو المعتقلين أو المشتبهين، و يردون متوسلين ان نذهب ولا نزيد معاناتهم.
وحده أنور قادنا اليه ناشط حقوقي والتقيناه على جسر للمشاة وسط المدينة وتحدثنا وأفصح عما لديه بعد ان تعارفنا وأطمئن لنا حينما تبين لنا انه شقيق لإعلامي صديق لنا منذ كنا طلاباً بكلية الإعلام، لكنه رغم كل ذلك رفض توثيق حديثه بآلة تسجيل أو تصويره، وأقنعناه في الأولى وعجزنا عن الثانية.
في مدينة إب، لم يختلف الأمر، حيث الذعر والرعب يسيطر في محافظة تنتمي إليها إحدى زوجات زعيم تنظيم القاعدة (أسامة بن لادن) وطال الأذى الأب والأشقاء والأصهار وكثير من الأقارب، وقادتنا المصادر إلى طبيب يستكمل دراساته العليا في (ماليزيا) وهو ناشط في حزب معارض، لكن زواجه قبل زعيم القاعدة من شقيقة زوجة الأخير كان سبباً لعذابه، وحينها كان في طريقه إلى خارج اليمن وتعثر سفره لأسباب تتعلق بوضعه تحت الأذى لقرابته تلك وتواصلنا معه في صنعاء وتحدث إلينا قبل السفر وأشترط عدم التسجيل وقبل ذلك عدم ذكر اسمه في أي مادة صحفية ننشرها.
عدنا إلى صنعاء لمواصلة العمل فيها قبل ان ننطلق إلى مدينة عدن، وتلقينا أول صفعة بإدانة القضاء لصحيفة المصدر التي نعد التحقيق لها بالإساءة لرئيس الدولة وفرض عقوبات، كانت الأقسى في تاريخ الصحافة اليمنية، تناولت الفضائيات الخبر، وكانت الإدانة مبرراً للكثيرين خاصة في الأجهزة الرسمية والقضاء للامتناع عن التعاون معنا أو إجراء لقاءات معهم.
الصفعة الثانية كانت بالمحاولة الفاشلة للنيجيري عمر الفاروق عبد المطلب بتفجير طائرة أمريكية أواخر ديسمبر2009 وتحول عدسات العالم الأمنية والسياسية والإعلامية نحو اليمن البلد الذي أحتضنه ليتعلم اللغة العربية وتاه فيه ليعلن لاحقاً انه كان يتدرب لتنفيذ العملية الانتحارية وتأثره بفتاوي الداعية الأمريكي من أصل يمني أنور العولقي.
هنا توقفنا، حيث دخلت البلاد بحالة طواريء مختلفة جذرياً عما عاشته منذ 11سبتمبر2001، وتتالت الأحداث وتصاعدت وتيرة مواجهة السلطات اليمنية و ما يفترض انه (تنظيم القاعدة في جزيرة العرب).
توقفنا مجبرين حتى مارس 2010، حينما تجاوزنا الخوف وزرنا مدينة عدن، حيث لا يختلف أمرها عن بقية مدن اليمن، أو أشد من تعز وإب اللتان وجدناهما أشد رُعباً من العاصمة صنعاء، حيث يُخفف عنها البعد القبلي لبعض سكانها من أسر المطلوبين أمنياً أو المعتقلين.
خلال تلك الفترة جرت مياه كثيرة، فبعض المعتقلين مات آباءهم ألماً وأفرج عنهم كأحمد المحفلي، وبعضهم صدر بحقهم أحكام قضائية كمحمد الغولي، وآخرين أفرج عنهم كالمعتقل بسبب تشابه الأسماء (عبدالله غازي الريمي) وحدثت عمليات اعتقال كثيرة ومثلها المداهمات والعمليات الإرهابية، استئنفنا عملنا للانتهاء من التحقيق، لكن العراقيل والصعوبات ازدادت وأحكمت أجواء الأمن والمواجهة قبضتها على الحياة، حتى الأساتذة المتخصصين في علم النفس في اكبر جامعة يمنية (صنعاء) تهربوا من مناقشة قضيتنا علمياً أو التحليل النفسي للرسوم والعبارات التي دونها الطفلين يونس ونهى.
بالنسبة للسلطات الرسمية، فقد فشلت محاولاتنا مع وزير الداخلية وقيادات الوزارة وإدارة مكافحة الإرهاب فيها، ولجأنا لوساطات لأجل اللقاء بنائب رئيس الوزراء لشئون الدفاع والأمن (شغر حقيبة الداخلية أكثر من 10 سنوات وفي فترة المواجهة مع القاعدة)، وألتقيناه وطلب أن نسلمه أسئلة وهو سيحدد موعد اللقاء وبعد تسليم الأسئلة أعتذر، وهكذا البقية في أجهزة الأمن والمخابرات وقوات الأمن المركزي التي تضم وحدة مكافحة الإرهاب المتخصصة والمدعومة دولياً.
في القضاء، لم تجدِ الوساطات لدى النيابة الجزائية المتخصصة بقضايا الإرهاب وأمن الدولة وبعد أخذ ورد مع مسئوليها طلب منا توجيه بإجراء اللقاء مع رئيسها من النائب العام وخضنا مرحلة متابعة ووساطات أخرى حتى تمكنا من إنتزاع توجيه بذلك، ولم ينفذ على الفور، فعدنا ثانية وتحقق ما أردنا حينما أتصل النائب العام شخصياً برئيس النيابة الجزائية ووجهه بذلك أمامنا.
في اليمن الأمر طبيعي، فمسئولي مختلف أجهزة الأمن والمخابرات في العاصمة وبقية المحافظات ممنوعون من التعامل مع وسائل الإعلام والتصريح لها خاصة المستقلة أو الخارجية، وكذلك الأمر في القضاء، فقد صدر تعميم رسمي مؤخراً صادر عن مجلس القضاء الأعلى يمنع أي أحد من منتسبيها بالإدلاء بتصريحات لوسائل الإعلام باستثناء رئيس المجلس ووزير العدل الذي يشغل منصب الناطق الرسمي للقضاء.
هذا بالنسبة لمختلف القضايا، لكن قضيتنا الأمر أشد منعاً وأكثر خوفاً وتنصلاً، فحتى عميد بالأمن السياسي صار ينتقد بشدة ما يحدث، منذ إقصائه (وبقائه في المنزل) من منصب مهم بالجهاز مع مسئولين آخرين عقب فرار 23من عناصر تنظيم القاعدة (أبرزهم فواز الربيعي وأمير التنظيم ناصر الوحيشي ونائبه قاسم الريمي)، وافق – بحكم علاقة تربطنا به- على إجراء لقاء معه ثم تراجع عن ذكر إسمه، ثم أعتذر تماماً.
كنا نبدو حالة إستثنائية، الجميع (إعلاميين وسياسيين وغيرهم) يناقشون ويهتمون لسنوات طويلة، ومع كل عملية أو مناسبة، خسائر وأضرار خلفتها العمليات الإرهابية باليمن والمصلحة العامة والاقتصاد والسياحة أو بالأسر والأفراد الضحايا، لكننا نبدو الوحيدين المهتمين بضحايا إجراءات محاربة ذلك الإرهاب ذاته.
في مرحلة التحرير، وجدنا أنفسنا أمام كم كبير من المعلومات التي جمعناها أو تلك الموثقة في لقاءات مسجلة أو في تقارير محلية وخارجية ودراسات وأبحاث غالبها تتناول الإرهاب وتمر سريعاً بشأن أضرار إجراءات خاطئة تحدث في مواجهته، ضغطنا معلوماتنا بصورة بعثت الحسرة والألم على جهد بذلناه وغامرنا لأجله ومجبرين على إنتقاء القليل منه.
لكن حتى القليل ذلك (5800 كلمة)، أعيد إلينا مرات ومرات لنضغطه أكثر، ورغم كرهنا لذلك وشعورنا بأهمية تلك المعلومات مقارنة بالجهد المبذول، إلا أننا وجدنا التحقيق في صورته النهائية زُبدة مترابطة وحكاية تفاصيلها واضحة وموجزة، والأهم أننا أكتسبنا مهارات جديدة وإحترافية، الفضل فيها يعود لحرفية وصبر الأستاذ القدير سعد حتر وبمساعدة زميلنا (خالد الهروجي).
Leave a Reply