ميلاد الجبوري - أطفال «القاعدة» ينشرون الرعب في عائلاتهم وينفذون المهمات بحِرفية الكبار

2010/11/19
التاريخ : 19/11/2010

بدأت حكايتي مع تحقيق تجنيد الاطفال من قبل الجماعات المسلحة، حين كانت احداث العنف تتصاعد في العراق وكنت ارى بعيني اطفالا يتركون مقاعد الدراسة ويتوجهون لحمل السلاح. وحينها فكرت بالكتابة عن هذه الظاهرة التي انتشرت في العديد من مناطق العراق، ومنها مدينتي الصغيرة جنوبي العاصمة بغداد. واستمرت حكاية التحقيق معي حين اضطررت، حالي حال بقية الصحفيين العراقيين العاملين في بيئة خطرة، الى اخفاء عملي في مجال الصحافة. وكان من بين عناصر الجماعات المسلحة التي كانت تحكم مدينتي واعيش تحت هاجس الخوف من ملاحقتهم، اطفال كان قبل سنوات يحملون حقائبهم ويتوجهون للمدرسة القريبة من منزلنا، قبل ان يندفعوا باتجاه العمل المسلح. وحين توفرت لي فرصة المشاركة في دورة تدريبية اقامتها شبكة اريج في عمّان في تموز عام 2010، وجدت فرصة كبيرة في عرض الموضوع على الشبكة التي دعمتني لاستكمال التحقيق. وفعلا، شرعت بالعمل على انجاز التحقيق بعد عودتي للعراق مباشرة، وتقرر أن يكون التحقيق باشراف الاستاذ محمد الربيعي الذي عملت معه لسنوات. حينها لم نكن نعرف ما الذي سنكتبه بالضبط ولا من اين نبدأ المشوار، فالصحافة الاستقصائية لم تكن نوعا من انواع الصحافة الشائعة في العراق. كان الانترنيت مصدري الاول في العمل، واستخدمته للبحث عن المواد السابقة التي تحدثت عن الاطفال واستخدامهم في القتال، وكلما دخلت الى مواقع المتشددين تعرفت اكثر على نمط تفكيرهم وطريقتهم في التعامل مع تجنيد الاطفال. الخطوة الاولى التي حرصت على ان انجزها، هي ان اكون خبيرة في الموضوع، ولهذا كان علي فرز المئات من المقالات والبحوث التي تناولت تجنيد الاطفال من قبل الجماعات المسلحة. الخطوة الثانية كانت هي الاصعب، فلم يكن الوصول الى المعلومات سهلا، خصوصا وان نقطة الانطلاق بدت مبهمة، فبدأنا البحث اولا فيما اذا كان هناك اطفال حصلوا على احكام بسبب انتمائهم للجماعات المسلحة، وفق المادة 4 من قانون الارهاب. عرفنا بعدها ان هناك العشرات من المحكومين الذين ما زالوا في سجون تابعة لوزارة العمل لكونهم لم يبلغوا السن القانونية بعد، ولهذا بذلنا جهدا بالغا للحصول على موافقات حكومية لمقابلتهم خلف القضبان، وتطلب الامر زيارة اكثر من مؤسسة حكومية في اليوم الواحد للحصول على الموافقات. المشكلة لم تكن في التحرك بين السجون والمؤسسات الحكومية، بل كانت تتمثل في الاوضاع الامنية التي ساءت في بغداد اثناء تحركي لاكمال التحقيق. بعض المؤسسات كان علي الوصول اليها السير على الاقدام بسبب الاجراءات الامنية مثل وزارة الداخلية التي كان علي ان اقطع طريقها سيرا على الاقدام لاكثر من نصف ساعة، والتعرض الى تسع استجوابات من دوريات صغيرة على الطريق تتضمن فحص البطاقات التعريفية والسؤال عن الوجهة بالضبط واسبابها، والتفتيش لخمس مرات عن طريق الشرطة النسائية. بعض الجهود اثمرت، وبعض الطرق اغلقت بوجوهنا وتطلب الامر الوقوف امام ابواب البعض طويلا قبل اقناع الجهات المعنية بجدوى واهمية التحقيق الذي نسعى لانجازه. وعلى الرغم من عدم اقرار قانون حق الحصول على المعلومة في العراق الا ان هذا لم يكن حجر العثرة الذي واجهنا، انما المحاذير الامنية في العمل مع المواضيع المتعلقة بالمجاميع المسلحة بشكل عام. بعد ستة اسابيع من المراجعات تمكنا من الحصول على اذن بمقابلة المحكومين في سجن الاحداث بموجب المادة اربعة ارهاب، وهو كان العنصر الاهم في ترتيب اولوياتنا، والحصول منهم على قصصهم. بدأت اللقاءات منتصف ايلول سبتمبر واستمرت قرابة الشهر، ولأننا منعنا من التسجيل او تصوير المحكومين، كان مرهقا ان توفق بين الكتابة الدقيقة للمعلومات وضرورة ما يرويه الاطفال الذين جندتهم الجماعات المسلحة، وكنت شاهدة طوال فترة كتابة التحقيق على احداث مرت على هؤلاء الاطفال، كان من الصعب التصديق انها مرت بهم. صدمت بحقيقة انني اجلس امام طفل مارس عمليات القتل والخطف، او ادى دورا استخباريا للجماعات المسلحة التي ملأت شوارع العاصمة ومحافظات اخرى برعب، لم يكن من السهل السيطرة عليه. ملامح اغلبهم تضج بالبراءة، وكثير منهم لا يشي جسده الضئيل بعمره الحقيقي، بل تعتقد انه اصغر سنا مما تقول اوراقه الثبوتية، البعض منهم له مظهر ملائكي لا تملك امامه الا ان تشعر نحوه بتعاطف كبير، لكن سرعان ما تكتشف انه قام بقتل او اختطاف شخص ما. لكن كلما تعمقنا وجدنا ان كثير منهم ما كانوا ليعتنقوا التطرف والعمل المسلح، لولا الاستعداد الراسخ لدى المجتمع بشكل عام لتقبل العنف كمنهج في الحياة، وتواجهك حقيقة ان العراق لا يكاد يخلو بيت فيه من قطعة سلاح او اكثر، ناهيك عن عقود من الحروب التي انهكت الناس ومنحتهم طبائع وعادات لم يعاني منها اي مجتمع مستقر. ومن الطبيعي ان محاولات اقناع الاطفال المجندين بالحديث لم تكن سهلة، لذلك التزمت بنصيحة المشرف الذي وجهني بطرح اسئلة عادية لاعلاقة لها بالتحقيق، ليشعر بالراحة والاطمئنان والثقة قبل ان يبدأ الحديث في الموضوع الاساسي، مع هذا لم تكن المهمة سهلة فالبعض كان منغلقا على نفسه ويخشى ان يقوده الحديث لمشاكل قانونية او يحسب من يقوله اعترافا خطيرا يستخدم ضده. كانت الاحاديث تحمل في طياتها حزنا مكبوتا، فاغلبهم اما انخرطوا بالعمل المسلح مع عوائلهم سعيا وراء المال، او انتقاما لهم حين عصفت ريح الطائفية بالعراق وتسببت باقتتال مذهبي، وكادت ان تجرفنا لحرب اهلية لا نهاية لها. صعوبة اخرى واجهتني اثناء التحقيق، تتعلق بعدم وجود احصائية دقيقة عن عدد الاطفال المشتركين بالعمليات المسلحة، ولا عدد الذين لقوا مصارعم خلال القتال، كما لم يكن ممكنا ان نعرف عدد الذي اصيبوا نفسيا جراء التجنيد والذين يشكلون مكامن عنف قد تشكل خطرا مستقبليا على انفسهم او على المجتمع. العمل في التحقيق تطلب مني التوفيق بين مهام عملي الاساسي في العراق، وبين العمل على انجاز التحقيق بالسرعة والجودة المطلوبة، وهذا فرض علي جهودا مضاعفة، وكنت احاول قدر الامكان عدم التقصير تجاههما، واحيانا اخرى كنت اطلب من المسؤولين في عملي ان يتحملوا تأخري احيانا باعداد التغطية اليومية، او منحي اجازة لاجل انجاز المقابلات، وكانوا يستجيبون لي حرصا منهم على انجاز تحقيق متميز يشارك في مسابقة اريج باسم العراق. كما استعنت لاجل اتمام التحقيق بمجموعة من الصحفيين العراقيين، فلم يكن التجول في مناطق نشاط الجماعات المسلحة امرا محمودا بالمرة، فكانت المادة غنية بوقائع من الانبار وصلاح الدين والموصل والعاصمة بغداد، كما استعنت بمرافقين اثناء التجوال سعيا مني لرؤية بعض المناطق الساخنة وفهم طبيعة الصراع الذي كان دائرا فيها. لكن اصعب شيء كان علي الالتزام به اثناء اجراء التحقيق، هو ضمان الحيادية لاظهار الحقيقة كما هي، ومحاولة لدق ناقوس الخطر لاستيعاب هؤلاء الاطفال وتأهيلهم، ودفع من لم يلق القبض عليهم للتخلي عن السلاح، وتنبيه المؤسسات الحكومية والمدنية الى اهمية وضع استراتيجيات، تضمن القضاء على ظاهرة تجنيد الاطفال في العراق.


تليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *