مختبرات تصدّر الإيدز- عادل عبدالمغني

2015/06/18
التاريخ : 18/06/2015

بين العاصمة اليمنية صنعاء، ومحافظات عدن والحديدة وإب والضالع، جرت أحداث هذا التحقيق الذي بدأ كفرضية العام 2012 واستمر لما يزيد عن العامين قبل أن تتكشف حقائقه الغامضة على هذا النحو.

في مجتمع محافظ كالمجتمع اليمني يبقى الحديث عن مرض نقص المناعة الإيدز شائكاً للغاية، وأكثر من ذلك الحديث عن ضحاياه في ظل وصمة تمييز ونظرة مجتمعية خاطئة وقاصرة تنطلق من أن وراء كل اصابة بفيروس الإيدز ممارسة غير أخلاقية، الأمر الذي يجعل من الإبحار في هذا الموضوع محفوف بالكثير من العوائق والصعوبات والمخاطر.

عدا عن ذلك فإن إثبات انتقال الفيروس عن خطأ طبي أمر معقد أكثر مما يتخيله البعض، ووحدهم المتخصصون في هذا الجانب من يدركون حقيقة ذلك.

في النصف الاول من العام 2012م توصلت الى فرضية بوجود اخطاء طبية وقصور في الرقابة وتردي في اجهزة نقل الدم تقف وراء اصابة عدد من اليمنيين بفيروس الايدز .. وهي الفرضية التي تم نقاشها مع شبكة اريج عبر الايميل بصورة اولية، ومن ثم كان هناك نقاشا مستفيضا في مكتب الشبكة بالعاصمة الاردنية عمان مع الزميلة القديرة رنا الصباغ المديرة التنفيذية للشبكة، قبل ان يتم الاتفاق على بدء العمل على هذا التحقيق الاستقصائي الشائك.

لم يكن في الحسبان ان يستغرق العمل حتى العام 2015، غير ان عوامل امنية عاشها اليمن ولا يزال كانت وراء هذا التأخير فضلا عن الصعوبة البالغة في اثبات الفرضية.

كان عبد العليم وهو شاب ثلاثيني اصيب بفيروس الايدز عن طريق تزويده بدم ملوث في اكبر المشافي الحكومية بمدينة عدن جنوب البلاد، هو الحالة الرئيسية التي انطلق منها التحقيق، وبين ملفات طويلة ووثائق عدة حصلت عليها من ارشيف محامي عبدالعليم انطلقت نحو بقية التفاصيل والمصادر المعنية رسمية كانت او نقابية.. مهنية وخاصة.

تكشفت لدي حقائق مروعة لم تكن ضمن الفرضية الاولى للتحقيق، لقد تبين أن غالبية المشافي اليمنية والحكومية والخاصة لا زالت تستخدم تقنيات وأجهزة رديئة وتقليدية فيما يتعلق بفحص ونقل الدم، فضلا عن أن بعض صفقات التحاليل المستخدمة في فحص الدم غير مطابقة للمواصفات. وهو ما تم التركيز عليه لاحقا بعد اجراء تغيير محدود في فرضية التحقيق.

حصلت على ضحية اخرى.. شاب اصيب بفيروس الايدز عن طريق دم زود به حسب قوله عبر تزويده بدم ملوث في المستشفى  الذي اجرى فيه عملية جراحية في الكلى.

كان الشاب يحلف ايمانا مغلظة لتأكيد ما قاله ، مدلللا كلامه بأنه احرى فحوصا قبل ستة شهور كي يتسنى له الحصول عل عقد عمل في احدى دول الجوار وان نتيجة الفحص التي تشترطنها السفارة اظهرت انه سليم بينما ذات الفحوصات بعد مضي ستة اشهر اخرى التي اجرى خلالها العملية الجراحية،  فاجأته انه مصابا بالفيروس، لكن ذلك لم يكن كافيا كي يتم اعتباره حالة يستدل بها فالعمل الاستقصائي لا يقبل الظنون والتخمينات.

اذ لا مجال للاتهامات وأنت تنجز تحقيقا استقصائيا بالتعاون مع شبكة اريج التي تعتمد معايير مهنية عالية وضوابط رصينة فيما يتعلق بالصحاف الاستقصائية التي لا تقبل بغير الادلة.

بعد ان حصلت على قدر كافي من الاثباتات بان المشكلة الرئيسية تتركز في عدم جدوى غالبية اجهزة فحص ونقل الدم، بناء على شهادات اطباء ومختصين وخبراء في هذا المجال كان لا بد من التحقق من ذلك عبر اجراء فحوصات لمريض سبق اثبات اصابته بالفيروس.

ولم يكن من السهل اقناع احد المصابين بالايدز بالذهاب معنا لإجراء فحوصات طبية بنوعين من الاجهزة احداها بدائي والآخر حديث، وبالاستعانة بجمعية متخصصة في هذا الشأن وبرفقة طبيب رافق سير التحقيق للإشراف على سلامة الاجراءات، وبعد وعود وضمانات بالسرية التامة فيما يتعلق بهوية الاشخاص، استطعنا اجراء فحوصات لأربعة من الشباب.

كانت النتائج صادمة حين ظهرت نتيجة احد الشباب سلبية في التقنية البدائية المعمول بها في كثير من المشافي بينما ظهرت نتيجة ذات الشاب ايجابية في التقنية الاكثر تطورا والتي اكدت انه مصابا بالفيروس. كان هذا كافيا لتأكيد كل ما تم الاستماع اليه من شهادات حول عدم سلامة اجراءات نقل الدم وفحوصه..

وكان كافيا ايضا للحديث عن اصابة عدد من اليمنيين الذين ربما لم يعلموا بعد انهم يحملون الفيروس بأخطاء طبية او ان عدد منهم علم نبا اصابته بعد حين لكنه يخفي ذلك خوفا من بصمة التمييز والعدوانية التي يتعامل بها المجتمع اليمني مع المصابين بهذا النوع من المرض، والذي قد يصل حد فصله من عمله ومنع اطفال من الدراسة او اللعب مع الاطفال في الحي خشية العدوى التي لا يزال الكثير من اليمنيين يجهلون كيفيتها.

لقد كان عملا شاقا ومن الصعوبة انتزاع معلومات وشهادات من المعنيين والمسئولين عن حقيقة الوضع الكارثي الذي يعيشه قطاع نقل الدم وأبحاثه ومختبرات الصحة في اليمن. واعتمدت منهجية البحث في الوثائق والاستماع الى الضحايا واستخلاص الوقائع وإجراء الفحوصات العملية ومن ثم العودة الى المسئولين ومواجهتهم بكل هذه الحقائق الامر الذي دفع عدد منهم للإدلاء بشهادات خطيرة واعترافات تؤكد ما ذهبنا اليه في الفرضية..

مشكلة أخرى تتعلق بمنهجية اعتماد شهادات عدد من المختصين التي قد تقف ورائها دوافع انتقامية أو نزعات أخرى خاصة أولئك الذين دخلوا في خلافات سابقة مع وزارة الصحة، وبالتالي كان لا بد من التحقق مما ادلوا به من معلومات عدت غاية في الخطورة..

وهو ما تم بالفعل بالعودة الى مصادر رفيعة ومحايدة ومعنية كتقارير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة التي اكدت صحة ما ذهبنا اليه في جزئيات معينة داخل التحقيق، فضلا عن وثائق اخرى حصلنا عليها، وحرصنا على تسجيل الحوارات والتصريحات للمصادر الرفيعة بعد اشعارها سلفا بذلك، لضمان عدم تراجعها لاحقا.

كانت بين يدي حصيلة كبيرة من المعلومات والحقائق الهامة لأكثر من قضية في ان واحد.. وعند كتابة التحقيق في نسخته الاولى شعرت اني قد تجاوزت الفرضية الى قضايا اخرى هي في غاية الاهمية لكنها قد تشتت التحقيق وتصرف القارئ الى اكثر من قضية في ان، وهو ما اكد عليه الزملاء في اريج الذين اقترحوا تقسيم التحقيق الى اكثر من جزء او التركيز على ما يخص الفرضية وإهمال بقية القضايا الاخرى واختصارها قدر الامكان خاصة فيما يعلق بصفقات الفساد الخاصة بالمحاليل.

عدت مجددا للتخلص من المصادر الثانوية والأقل اهمية والتركيز على الفرضية دون تشتت او خروج عن الموضوع. كذلك اعتمدت على اسلوب السرد القصصي و”آنسنة” قصة التحقيق بهدف التشويق وتلافيا للحشو في التحقيق الذي كان علي اختصار عدد كلماته من اربعة آلاف كلمة الى ما دون الثلاثة الاف، وهي لعمري مهمة شاقة اكبر مما يتصورها البعض خاصة عندما ترى ان كل ما كتبته يهم الفرضية ويؤكد صحتها. كانت المربعات والاقواس الجانبية طريقة جيدة للتقليل من عدد كلمات فضلا عن الانفوجرافكس الذي لجأت اليها لتوضيح عدد كبير من المعلومات والبيانات في اقل عدد من الكلمات والرسومات.

الصعوبات التي واجهتني كانت بالجملة لعل من ابرزها غياب الاحصائيات والنظرة المجتمعية المغلوطة لهذا النوع من المرض، فضلا عن الظروف الامنية التي شهدتها اليمن والتي زادت من صعوبة الحركة والتنقل، خاصة بعد نزوحي وأسرتي من العاصمة صنعاء الى مدينة اب وسط اليمن ومن ثم العودة لا ستمال التحقيق في وقت كان عدد من المصادر خارج العاصمة ومنهم من كان خارج الوطن ايضا ويرفض الادلاء بأي معلومات في ظروف دقيقة امنيا، الامر الذي أسهم بصورة مباشرة في اطالة مدة انجاز التحقيق التي لم أكن أرغب ابدا في ان يستغرق كل هذا الوقت في مخالفة واضحة لبنود العقد التي حددت مدة ستة شهور فقط لإتمامه.

كاد الاحباط يتسلل الى نفسي مع مرور الوقت، وكان للزملاء الاعزاء في أريج دورا لا يمكن اغفاله في المتابعة المباشرة والحث على استكمال هذا الجهد واخص بالذكر هنا الزملاء سعد حتر وحمد عثمان.

في المقابل كانت ملاحظات الزميل سعد وبحثه في ادق التفاصيل  تشعرني وأنا انجز هذا التحقيق كما لو انني اجري عملية جراحية شديدة التعقيد والخطورة، وتحول القلم بيدي الى ما يشبه مشرط بحيث ان اي خطأ بسيط يمكن ان يودي بحياة انسان. اعترف بشي اخر..

ظننت، وأنا الحاصل على جائزة المركز الدولي للصحفيين في الصحافة الاستقصائية للعام 2012م، أنني لن أجد صعوبة في اتمام هذا التحقيق، غير ان الامر كان اصعب مما توقعت بكثير.

وحين كنت اعتقد انني انتهيت من التحقيق يعود الي الزميل سعد حتر بعدد من الملاحظات والإضافات التي كان علي استيفاؤها  فكان لزاما علي – بالنظر الى الفترة الطويلة التي مضت – العمل في ظروف امنية غاية في التعقيد جنبا الى جنب مع دوي الانفجارات وغارت طيران التحالف في سماء صنعاء، حتى تمكنت من إنجاز التحقيق من كافة جوانبه وفقا للمعاير الصارمة والحقيقية التي تعتمدها اريج في عملها الاستقصائي.