نبعت فكرة التحقيق من اهتماماتي الشخصية بالسيارات منذ صغري، ومع مرور الوقت تشكلت لدي علاقات صداقة مع عاملين في مجال ميكانيك وكهرباء المركبات. أصبحت أتردد كثيرا على ورش الصيانة خاصتهم ولفتني في أكثر من مرة انشغال الزبائن بموضوع جودة السولار المَبيع في المحطات الفلسطينية.
بين الحين والآخر، كان صديقي يخبرني أن “رداءة السولار تتسبب بمشاكل بالغة في محركات المركبات العاملة بهذا النوع من الوقود. عَلِقت هذه العبارة قبل أكثر من عامين في ذهني كملاحظة صحفية قد تقود لتحقيق استقصائي.
لم تكن لهذه الفكرة أن تنضج لتحقيق لولا التدريب الذي تلقيته في عمان مع شبكة (أريج)، في تلك الدورة بداية 2015 تبلورت الفرضية، ورسمت الخط الذي سير به العمل للوصول الى اثبات الغش، خصوصا أنه لم يسبق ان تم نشر اي تحقيق عن هذا الموضوع، رغم حالة التذمر من قبل سائقي المركبات العمومية، حيث لم تكن شكاويهم تأخذ على محمل الجد.
وبالفعل، بدأت مسيرة البحث الفعلي عمّا إذا كان هناك تلاعبٌ في جودة “السولار” من قبل أصحاب محطات تزويد الوقود. فتداعت إلى الذهن التساؤلات التالية: كيف يتم التلاعب بالسولار؟ وما هي المادة المخلوطة؟ وما مدى انتشار الظاهرة؟ وما هي الأضرار التي تلحق بالمستهلك ومركبته؟ وكيف تعمل الجهات الرقابية؟ وما القوانين والقرارات التي تنظم عملها؟
كان البحث منصباً في المرحلة الأولى على الوصول لمتضررين من غش السولار، وجمع شهادات وملاحظات من قبل عمال في محطات وقود وشهود على عمليات الخلط. لينتقل البحث بعد ذلك وفق منهجية أريج في البحث الاستقصائي حول القوانين والتعليمات التي تنظم هذا القطاع، واليات الرقابة من قبل مختلف الجهات، ليتبين لنا أنه لا يوجد أصلا قانون لتنظيم البترول في فلسطين. وبعد فحص أداء الجهات الرقابية والعلاقة بينها انتقل البحث في ملفات المحاكم والقضايا الموجودة في اروقة القضاء.
كان التحدي الأكبر في هذا التحقيق هو الحصول على نتائج مخبرية رسمية تثبت بالدليل القاطع فرضية غش السولار. ولعل هذه النقطة كانت الفصل الأصعب على مدار سبعة شهور. خصوصا أنه لا يوجد في فلسطين سوى مختبر واحد ويمنع من اجراء الفحوص الا بالطرق الرسمية من خلال الهيئة العامة للبترول. لكن في نهاية المطاف حصلت على النتائج المخبرية بالتفصيل من مصادر خاصة غير القنوات الرسمية.
ولعل التحدي الاخر كان في كيفية اخراج التحقيق بهذه الصورة، دون ذكر اسم أي محطة أو شخص، وضمان الحماية للمصادر التي زودتنا بالمعلومات.
لا يخلو التحقيق من بعض المواقف الخطرة، ففي احدى الجولات التي كنت مرافقا فيها لطاقم من حماية المستهلك والمواصفات والمقاييس كدت أتعرض للضرب من صاحب محطة غير مرخصة خارج نطاق سيطرة السلطة الفلسطينية، وجرى منعي من تصوير الموقع ومصادرة هاتفي النقال. كان هذا الموقف دليلا على ضعف الجهات الرقابية وعدم مقدرتها على ضبط المحطات غير المرخصة التي ما زالت تبيع سولارا مغشوشا حتى كتابة هذه الكلمات (10.11.2015).
لم تتأخر ردود الأفعال بعد نشر التحقيق. فبعد ساعات قليلة، تهاطلت الردود من جهات رسمية وغير رسمية، عبر الاتصالات أو الرسائل الالكترونية أو التعليقات على مواقع التواصل مثل: هيئة البترول، حماية المستهلك، المواصفات والمقاييس، سائقين، شركات مركبات، ميكانيكين، صحفيين، قانونيين، مدير مركز لفحص المركبات للترخيص.
مستشار الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة “أمان” عزمي الشعيبي أكد في معرض تعليقه على أن الحكومات المتعاقبة لم تبذل جهداً جدياً لتنظيم قطاع المحروقات، رغم كونه مورداً رئيساً لخزينة السلطة الوطنية، مشيراً لنشوء ظاهرة فساد في ذات الملف قبل سنوات.
وأشار إلى أن ملف هيئة البترول يتبع لوزارة المالية التي تتعامل معه -وفقاً للشعيبي- باعتباره إيراداً مالياً، دون الاهتمام بتنظيم الملف بما فيه مصلحة المواطن والمستهلك والسلطة، مطالباً بوضع قانون خاص لتنظيم قطاع الطاقة ككل ونقل ملف المحروقات لسلطة الطاقة لتصبح هي الجهة التي يتم مساءلتها عن الموضوع.
أما حماية المستهلك فأكدت عبر مديرها ابراهيم القاضي على ضرورة إسراع مجلس الوزراء ووزارة المالية بالعمل على إصدار قانون ينظم قطاع المحروقات في فلسطين ويشدد من الاجراءات الرقابية على عمل محطات الوقود.
كانت هذه الردود في الاثنتي عشرة ساعة الاولى من النشر، ساعات جرى خلالها نقاش داخل مجلس الوزراء الذي تزامنت جلسته مع يوم النشر، بانتظار الجلسة المقبلة، لنرى طبيعة تحرك الحكومة والقرارات التي ستتخذها.