غمدان الدقيمي - مياه صنعاء الشحيحة مرتعاً للتلوث

2014/10/30
التاريخ : 30/10/2014

فكرة التحقيق حول “مدى صلاحية مياه الشرب المعالجة جزئيا عبر منشآت خاصة (تسمى شعبيا مياه الكوثر) في العاصمة اليمنية ‏صنعاء” تجول في ذهني منذ ما يزيد على الخمس سنوات، ومن بين عديد الأفكار التي ناقشتها في شهر يونيو الماضي مع أحد ‏الزملاء كانت هذه القضية هي الأكثر أهمية لانها تعنى بسلامة وصحة ملايين اليمنيين، التي لم يتم مناقشتها أو تناولها إعلاميا ‏بصورة استقصائية دقيقة.‏
كان هدفي الأساسي من التحقيق هو: التأكد من سلامة هذا النوع من المياه وكشف الأمراض والمخاطر المحتملة، الناتجة عن شرب ‏هذا النوع من المياه التي يفضلها الكثير من المستهلكين (المواطنين) لرخص ثمنها (50 ريال يمني سعر عبوة 4 لتر) مقارنة بالمياه ‏المعالجة كليا (70 ريال لعبوة 0.75 لتر)، ثم لأنها تباع مبردة ومتوفرة في كافة نقاط البيع والاستهلاك، فضلا عن أنها الحل المتاح ‏بالنسبة لغالبية السكان، في عاصمة تُعد الأفقر عربيا بالمياه.‏
خلال مرحلة البحث الأولي تحدثت مع مختصين وأطباء ومسؤولين حكوميين جميعهم أكدوا خطورة هذه المياه على الصحة العامة، ‏وأهمية الاستقصاء حولها.‏
أول عمل قمت به أثناء مرحلة التنفيذ الميداني وجمع المعلومات، النزول إلى منشآت معالجة مياه الشرب هذه في الخامس والسادس ‏من يوليو 2014م برفقة مخبري مختص في المركز الوطني لمختبرات الصحة العامة، لأخذ عينات من مياه تلك المنشآت، إذ جمعنا ‏في اليوم الأول 8 عينات من 8 منشآت في شوارع متفرقة بالعاصمة صنعاء، وفي اليوم التالي أحضرت عينتين اضافية من تلك ‏المياه، وسلمت جميع العينات للمختبر.‏
وكانت نتائج الفحوصات المخبرية صادمة كما توقعنا، إذ كشفت أن 80% من العينات العشر ملوثة جرثوميا: 60% بالقولونيات ‏البرازية و 80% بالقولونيات الكلية”. وأثبتت الفحوص أن “20 % فقط من العينات صالحة للشرب جرثوميا”.‏
في الأثناء كنت قد اطلعت على دراسة بعنوان “الخصائص النوعية لمياه الشرب المعالجة جزئيا في مدينة صنعاء”، شملت 30 منشأة ‏خاصة بصنعاء ومقارنتها بنوعية مياه 43 بئراً أهلية و18 بئراً حكومية، والتي اعدها اكاديميون من كلية الطب بجامعة صنعاء، ‏ونشرت عام 2000 في المجلة الصحية لشرق المتوسط، الصادرة عن منظمة الصحة العالمية.‏
وقد كشفت الفحوص أن 16.7% فقط من العينات صالحة للشرب كيميائياً وجرثومياً؛ ورغم التوصيات والنتائج المهمة التي تضمنتها ‏تلك الدراسة إلا أنها بقيت حبرا على ورق، ولم تلتفت اليها الجهات الحكومية المختصة.‏
على الفور بعد استلامي نتائج التحاليل المخبرية الخاصة بالتحقيق قمت بعرضها على أطباء اختصاص وأكاديميين فأكدوا بأن ‏الاسهالات أهم مرض ينتقل بين المستهلكين بمجرد شرب هذه المياه الملوثة ميكروبيا، التي تتزايد خطورتها إلى حد الوفاة بالنسبة ‏للأطفال الرضع أو ما دون الخمس سنوات.‏
إلى جانب هذا رصدنا في ثلاث جولات متباعدة إلى المنشآت العشر المشمولة بالتحاليل المخبرية، عديد التجاوزات والمخالفات داخل ‏هذه المنشآت التي تفتقر غالبيتها للمواصفات والاشتراطات الصحية والبيئية الواجب توافرها في أماكن الانتاج، بدءا من واجهاتها ‏ومساحتها الضيقة وعدم وجود عوازل تفصل بين المراحل الانتاجية مرورا بعدم ارتداء العمال ملابس واقية وصولا إلى عدم نظافة ‏المكان ككل.‏
بالنسبة لمنهجية العمل التي اتبعتها والوثائق التي تم الاستعانة بها خلال التحقيق فهي كالتالي:‏
قمت بإجراء مقابلات (تسجيلات صوتية) لمعظم المصادر أو المتحدثين الذين قابلتهم والمشمولين بالتحقيق، واجابات مكتوبة لبعض ‏المقابلات، وبعض المصادر رفضت تسجيل ردودها صوتيا اثناء مقابلتها فقمت بتدوين اجاباتها خطيا، ومن ثم عرضت عليهم ‏تصريحاتهم قبل اعتمادها للنشر، وكالمثل بالنسبة لمعظم المصادر المشمولة بتسجيلات صوتية.‏
وبالإضافة إلى نتائج التحاليل المخبرية، التي قمت بعرضها على جميع مالكي المنشآت العشر تقريبا، اعتمدت على مشاهداتي الخاصة ‏اثناء الجولات الميدانية إلى المنشآت، ورافقني في إحدى الزيارات مختص من الهيئة العامة للموارد المائية، الذي وافاني بملاحظاته ‏مكتوبة، فضلا عن رصد كاميرا الفيديو التي استخدمتها لتوثيق جانبا من الجولة الميدانية إلى المنشآت.‏

إلى جانب ماسبق، تم الاستعانة باحصاءات صادرة عن إدارة صحة البيئة بمكتب الأشغال العامة في العاصمة التابع لوزارة الأشغال، ‏وإحصاءات صادرة عن وزارة الصحة العامة والسكان ومعلومات أخرى متاحة في وثائقها، إلى جانب معلومات متاحة صادرة عن ‏منظمة الأمم المتحدة للطفولة (الـيونيسف).‏
‏ كما استعنت ببنود تضمنها قانون الرقابة على الأغذية رقم (38) لسنة 1992م وتعديلاته بالقانون رقم (13) لسنة 2002م، وقانون ‏المياه رقم (33) لسنة 2002م وتعديلاته بالقانون رقم (41) لسنة 2006م، والقــرار الحكومي رقم (24) لسنة 1994م بشــأن “لائحة ‏مخالفات النظافة العامة وصحة البيئة”، والقرار الحكومي رقم 111 لسنة 2001م بشأن لائحة الاشتراطات الصحية لمتاجر تجهيز ‏وبيع المواد الغذائية وما في حكمها، إضافة إلى تعليمات الجهة الرقابية الحكومية، والمواصفات القياسية الصادرة عن الهيئة اليمنية ‏للمواصفات والمقاييس وضبط الجودة، وحديثي مع مسؤولين في الهيئة العامة للموارد المائية فرع صنعاء.‏
وبالتالي فإن إجمالي المصادر (المتحدثين) المشمولين بالتحقيق وصل إلى 21 متحدث، يشملون كافة الأطراف ذات العلاقة بالقضية، ‏إضافة إلى 12 وثيقة مختلفة.‏
الصعوبات:‏
‏ كانت أبرز الصعوبات التي واجهتني منذ بدء العمل بالتحقيق نهاية شهر يونيو الماضي، الوضع العام المتدهور (أمنيا، واقتصاديا، ‏واجتماعيا) الذي شهدته ولاتزال العاصمة صنعاء واليمن بشكل عام؛ وعدم توافر البيانات والإحصاءات الخاصة بمدى التزام المنشآت ‏بالشروط الصحية والبيئية المعتمدة لهذا القطاع، وغياب التنسيق بين الجهات الحكومية التي يفترض أن تكون مشتركة بالرقابة ‏‏(وزارة المياه والبيئة، وادارة صحة البيئة بمكتب الأشغال، وهيئة المواصفات والمقاييس …)، فضلا عن الفساد المالي والاداري في ‏هذا القطاع، كما هو حال مختلف القطاعات، ساهم كثيرا في غياب تفعيل اليات الرقابة والمتابعة، والسماح لمالكي هذه المنشآت ‏بالتحايل.‏
‏ وشملت الصعوبات ايضا عدم وجود إحصاءات رسمية دقيقة توضح حجم الضحايا (مصابين، وفيات) بالأمراض المعوية المختلفة ‏وعلى رأسها الاسهالات، وعدم وجود دراسات علمية أو تقارير متخصصة سبق وأن تحدثت عن وفيات أو اصابات ناجمة عن شرب ‏هذه المياه الملوثة.‏
ومن أهم الصعوبات التي واجهتني أيضا خلال مرحلة الاستقصاء الشاقة، عدم وفاء عديد المصادر بوعودها في الرد على ‏استفساراتي، ومماطلة بعض المصادر في التجاوب، ومعاناة طويلة قبيل الحصول على أرقام بالأمراض من وزارة الصحة، رغم انها ‏لا تمثل سوى جزء بسيط من الواقع الحقيقي.‏
وفوق ذلك يعد غياب الوعي الصحي أبرز الاشكالات القائمة، فعلى الرغم من إجماع عشرات الآباء والأمهات ممن التقيناهم في ‏العاصمة على أن “الإسهال” أهم مرض يصاب به أطفالهم دون الخامسة من العمر باستمرار، إلا أنهم يجهلون السبب الرئيس لهذا ‏المرض، بل إن غالبيتهم يعزونه إلى النمو وتحديدا ظهور الأسنان للطفل، ولا يدركون إن شرب هذه المياه الملوثة هي السبب الرئيس ‏للإصابة.‏


تليقاتكم

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *