على مدى عقود مضت ظل مشهد المهاجرين الأفارقة في اليمن عاديا ولم يصبح ظاهرة لافتة وموضوع نقاش محلي واقليمي ودولي سوى في السنوات الأخيرة عندما بدأ مد الهجرة غير الشرعية يأخذ منحى مأساويا من خلال تزايد اعداد الضحايا والارتفاع المهول في أعداد الواصلين سنويا.
في 2012 وخلال ورشة تدريبية نظمتها جريدة “الحياة” في بيروت بالتعاون مع “أريج ” بدت مآسي المهاجرين غيرالشرعيين،أشبه ببقعة دم كبيرة تضج في ذهني مثيرة تساؤلات عدة حول الظروف التي تقود فرد أو جماعة الى احتجاز حرية إنسان أو قتله من أجل مبلغ من المال .وصادف حينها أنني شاهدت في الفندق الذي نظمت فيه الورشة موظفون لبنانيون أو فلسطينيون يتحرشون بخادمتين اثيوبيتين .
هكذا بدت لي معاناة المهاجرين الافارقة ومايتعرضون له من خطف واحتجاز وتعذيب يصل احيانا الى القتل، جريمة عابرة للحدود .حينها افترضت أن عصابات غير منفصلة عن شبكات تهريب البشر ترتكب هذه الجرائم. بتواطوء نافذين رسميين .
والحق أن فرضية ممارسة عناصر في الشرطة لهذا النوع من الجرائم وتخاذها مهنة اضافية لهم برزت بعد أن قطعت شوطا في التحقيق. وتحديدا بعد مقابلة مع ضحية التقيتها في بلدة حرض الحدودية ذكر أن الذين اختطفوهم كانوا يرتدون بزات عسكرية.
ماقادني الى مزيد من البحث في السجلات الرسمية.ذلك أن المصادر البشرية الرسمية تعمد الى اخفاء الصفة الحكومية لمرتكبي مثل هذه الجرائم أستخدمت في تحقيقي منهج الحالة والمقابلة وتحليل المعلومات ومقارنتها. أنطلقت من قراءة مانشر حول الموضوع بحسب مااتيح لي . تلاها جمع المعلومات واجراء مقابلات مع ضحايا ومهربين ومهاجرينين غير شرعيين ولاجئين. ومسئولين رسميين.
كما حرصت على فحص الشهادات ومقارنتها والبحث في العلاقات الرابطة بينها ثم تحليل المعلومات ووضع الاستنتاجات. وفي مختلف مراحل التحقيق زرت مناطق عدة تمثل محطات رئيسة لمسارات المهاجرين غير الشرعيين من عدن (جنوبا) الى تعز والمخاء والحديدة الى مديرية حرض (شمال غرب) .
بذلت خلالها الكثير من الجهد والوقت.واحيانا كانت الحصيلة ضئيلة أو مجرد طرف خيط ليس إلا . أبرز الصعوبات التي واجهتها تمثلت في طبيعة موضوع التحقيق .فالمهاجر غير الشرعي لاجغرافيا ولازمن محددين يتحرك عبرهما. يأتون خلسة لامواعيد ولاطرق و لاعناوين معروفة لهم . وتزيد الصعوبة عندما تبحث عن الضحايا منهم .
وبهذه الصعوبة ارتبطت صعوبة أخرى تمثلت بالأسلوب المتبع في تمويل التحقيق وهو أسلوب يتسم بالجمود مايعوق الصحفي العامل على قضايا غير محددة بزمان ومكان .
ويحدث أن يؤدي انتظار اجراءات الصرف آلى تفويت فرصة توثيق حقائق هامة .وعلى سبيل المثال كان تأخر صرف المال وراء عدم تمكني من توثيق حادثة تعذيب مهاجرة إفريقية حتى الموت . وعندما وصلت الى مسرح الجريمة الذي يبعد عن صنعاء اكثر من 300كم كان الشهود بمن فيهم ابنها الحدث قد رحلوا الى بلدانهم ولم يتبق أمامي سوى محاضر الشرطة .
وأتمنى من “أريج” التي طالما دربتنا على عناصر مهنية منها الدقة والسرعة أن تعيد النظر في أنظمة دفع التمويل بحيث تتسم بالمرونة لتتلائم مع طبيعة مواضيع التحقيقات التي يتطلب بعضها عنصر السرعة في توثيق الحدث .
كما واجهت صعوبات تتعلق بضعف مستوى الوعي لدى الموظفين الرسميين. ولاحظت أن بعض العاملين في مجال النيابة العامة يجهلون صدور قانون حق الحصول على المعلومات . برغم كل ذلك مثل انجاز التحقيق لحظة رضا و سعادة غير عاديين. صحيح أن التحقيق سلط الضوء على قطرة صغيرة في بحر آلام المهاجرين غير الشرعيين لكن أهميته تكمن في نهوضه على حقائق .وهذا مايميز الاستقصاء.
واجدني هنا ممتنا للزميلين سعد حتر من شبكة “أريج” وبيسان الشيخ من جريدة “الحياة” اللذان مثلا مرجعان مهنيان أعتز بهما. ومثلما غاب انصاف الضحايا حسب ماكشف التحقيق، كذلك لازمهم الحظ العاثر لحظة نشره . حيث انهارت الحكومة ومؤسسات الدولة بسبب الانقلاب المسلح الذي نفذته ماتسمى بميليشيا الحوثيين والرئيس اليمني السابق ،ما ادخل البلاد في حرب أهلية مازالت ناشبة حتى اللحظة.وباستثناء إعادة نشر التحقيق في بعض المواقع الاليكترونية لم أرصد ردود أفعال وفق الفرص المحدودة التي اتيحت لي نظرا لظروف الحرب.