"جرائم المناسبة: حلقات العنف المخفية في لبنان"

2018/04/22
التاريخ : 22/04/2018

أن تحاول البحث عن أسباب فائض العنف الكامن في الشارع اللبناني قد يبدو للوهلة الأولى أمراً بديهياً. من طرحت عليه الفكرة قبل البدء بالبحث، كان يسارع للإجابة “وما الجديد؟”.

“إنها الحرب الأهلية، من شارك فيها هو اليوم في مراكز مختلفة بين موظف حكومي، وأستاذ جامعي… وقد تلتقي فيه أينما كان”، “لم يحصل مصالحة حقيقية بعد الحرب، زعماؤها استلموا السلطة، والسلاح بقي منتشراً”، “الكل يدرك أن القانون مسيّس ومن يحظى بالدعم لا يطاله الحساب”، “هذا (زلمة) فلان وذاك (زلمة) علتان… والكل محمي”… كانت هذه العبارات جزءاً يسيراً مما سمعته حين طرح الفكرة.

ليس العنف جديداً على المشهد اللبناني، لكن تكرار جرائم القتل الاعتباطية خلال السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ العام 2014، وتركيز الحديث حول أسبابها “السخيفة”، كما يجري وصفها، جعل البحث عن “الأسباب الخفيّة” دافعاً أساسياً يأتي من الحرص على “عدم تمييع المسؤوليات”.

أما الهدف النهائي فكان وضع الأسباب جميعها على طاولة واحدة تسهيلاً لربط الحلقات التي توصل أحدهم للقتل “من أجل فنجان نسكافيه” مثلاً، وبالتالي فهم المنطلقات الحقيقية لهذا النوع من الجرائم.

وما بدا بديهياً بداية لم يكن بهذه البديهية. وهذه سمة عامة تطغى على البحث في هذا النوع من الملفات في لبنان. الجميع من مسؤولين ومواطنين يعرف كل شيء عن كل شيء، والجميع يقول إنه يعرف، والجميع يتكلّم بأريحيّة حول هذا الموضوع وأي موضوع، لكن الحصول على المعلومات الضرورية لرسم صورة واقعية، لم يكن بهذه البداهة.

من بين حلقات العنف المخفية التي أضاء عليها البحث، كانت مسألة تراخيص السلاح. وبعد عمليّة بحث مطوّلة، وتواصل مع معنيين ومن ضمنهم وزراء دفاع سابقين، لم يكن واضحاً ما إذا كان هناك جداول بكل أنواع تراخيص السلاح التي صدرت وتصدر عن وزارة الدفاع، أو عن جهات أخرى تختلف بين ترخيص سلاح وتسهيل مرور…

نقص المعلومات الضرورية لتكوين صورة “علميّة” عن الواقع، والأساسية لاستشراف حلول مستقبليّة أو أقله وضع خطط مدروسة للحل، كان بارزاً كذلك أثناء إعداد التقرير.

حين التواصل مع قوى الأمن الداخلي، طلباً لجداول متعلقة بعدد الجرائم التي ارتُكبت بسلاح مرخص في مقابل الجرائم المرتكبة بسلاح غير مرخص، فضلاً عن جداول خاصة بعدد الأسلحة المضبوطة بين مرخصة وغير مرخصة، كان الجواب جازماً بعدم توفر مثل تلك المعلومات.

خلاصة ما سمعته من قوى الأمن الداخلي، كان أن الجداول موجودة بكل حالة على حدى، ولكن لا تجمعها قاعدة بيانات مركزية، ما يعني صعوبة الوصول إلى المعلومات. وحين سؤال المسؤول عن إمكانية المشاركة في إنشاء تلك القاعدة والمساهمة في جمع البيانات بعد الاطلاع على الجداول، اعتبر الطرح الذي قدمته مجرّد مزاح.

وفي الإطار نفسه، أسهم واقع تعدد الأجهزة الأمنية في لبنان بين أمن عام وأمن داخلي ومخابرات جيش…والمعروف تنافسها في عدد من الملفات، في تعزيز صعوبة الوصول إلى معلومات متعلقة بحصر عدد الأسلحة المنتشرة على الأرض اللبنانية وتلك المضبوطة لدى كل جهة.

من ناحية أخرى، كانت أكثر المحطات إرباكاً على الصعيد النفسي خلال إعداد التحقيق اللقاء مع بعض من خسروا فرداً من عائلتهم أو عزيزاً لهم في حادث اعتباطي. عبثية الجريمة كانت ترخي بثقلها على مشاعر هؤلاء، إذ من الطبيعي أن تكون خسارة أحدهم لشخص ما في جريمة قتل شديدة الوطأة، ولكن أن يكون دافع الجريمة عابراً، أي غير المعتاد من خلاف ثأر أو شرف وما شاكل ذلك، يكاد يصيب صاحب الخسارة بالجنون.

في المقابل، لم يكن السعي وراء أشخاص يمارسون العنف كنمط حياة يومي أو وسيلة للعيش أقل إرباكاً. هنا منظومة العنف على درجات، ومن هم في أسفلها ينظرون لأنفسهم كضحايا بينما يحمّلهم المجتمع والقانون المسؤولية كاملة، فيما يقولون أن “الأكبر منهم”، المسؤول الأول عن حالهم، محصّن بألف وسيلة ووسيلة.

ولا ينتهي الإرباك عند مواجهة المسؤولين وأصحاب السلطات بالمشكلات القائمة، فلهؤلاء الكثير من التفسيرات التي لا يتضمن أي منها الاعتراف بمسؤوليته عن أي جانب من الجوانب التي تعزّز العنف.

بالنسبة لهم، دائماً “المسؤول الآخر مخطئ أو مقصّر”، فيما قد يذهب البعض إلى الأسباب “البديهية” كالمخدرات والفقر… حتى أن أحد السياسيين أجابنا عند الحديث معه حول أسباب العنف أن “كل المشكلة تتمثل بابتعاد هذا الجيل عن الدين”.

في إحدى التحقيقات الميدانية التي أُجريت إبان الحرب الأهلية مع الزعماء وقادة المحاور، اتفق الجميع عند الإجابة عما يفعلونه في هذه الحرب بالقول “نحن ندافع عن أنفسنا”. إذا كان الكلّ يدافع عن نفسه، فمن الذي يشعل الحرب؟

تبدو هذه النظرية سارية على العنف المبطّن الذي تختزنه مرحلة السلم التي أعقبت الحرب. الجميع ضحية والجميع يدافع عن نفسه… لا أحد مسؤول. وفي حال أراد أحدهم إلقاء المسؤولية، فستكون حكماً على الآخر الذي يخالفه في السياسة والأيديولوجيا والمصالح.