نور الدين خمايسة- المرض في مصل القات

2015/08/12
التاريخ : 12/08/2015

أن تنجز تحقيقا استقصائيا في اليمن، يعني أن تحمل الماء بيديك، تضعه في جيبك، وتمضي. في هذه البلاد، ووسط ما تعيشه من ظروف قاهرة، بالكاد تجد في الإعلام من يتحدث عن غير الحرب وحالة التشرذم والاستعصاء السياسي الطاغي حتى الآن.
الزميل محمد جهلان، عندما بدأت مهمته، لم أكن حينها توليت أمر الإشراف على تحقيقه بعد، وأيضا، لم تكن اليمن دخلت أتون النيران التي تعيشها الآن.
حينما بدأت الأحداث الدامية، ألحَ السؤال: هل يكمل الزميل عمله بعد اشتعال فتيل الحرب الطاحنة؟. وقتها كانت الإجابة سريعة: نعم؛ ومعها كلفتني “أريج” بالإشراف والتوجيه لإنجاز التحقيق على أفضل صورة ممكنة.
نصف ساعة كهرباء، لا تكفي حتى لشحن هاتف نقال، فكيف بجهاز كمبيوتر محمول؟. خدمات الشبكة العنكبوتية في حالة أقرب ما تكون إلى الشلل. التنقل في البلاد محفوف بالمخاطر، هي مجرد صعوبات تقنية بسيطة واجهها الزميل جهلان بكفاءة وإصرار عال واقتدار.
الأنكى، أين تجد مسؤولا رسميا في مثل هذه الظروف؟ كان الأمر أشبه بحكاية كومة القش والإبرة. الزميل جهلان وجد الإبرة، ولم يخذله تصميمه على إنجاز العمل المطلوب بأعلى درجة ممكنة من احترام حق الجمهور في المعرفة، وحق مختلف الأطراف في التعبير عن رأيها، ملتزما بذلك بمعايير “أريج” المهنية الصارمة.
تقوم فرضية التحقيق، على أن أنواعا من المبيدات الزراعية المحظورة دوليا، تنتشر في الأسواق اليمنية، وتشكل خطرا حقيقيا على حياة ألآف البشر هناك.
ولإثباتها، كان على الزميل جهلان، الحصول أولا على عينات من تلك المبيدات، وهو ما جرى بسهولة أكبر مما كنًا نتوقعه، فهي معروضة على أرفف المحال المختصة ببيع مبيدات الآفات النباتية، جهارا نهارا، تحت أعين الجميع.
الخطوة التالية، كان على الصحفي أن يعرف من أين تأتي تلك المبيدات، ليكتشف بعد عناء، أن ليس كلها تهريبا؛ بل إن هناك من يقوم بخلط أكثر من نوع بمقادير معينة، لينتج تراكيب محلية، لا تقل خطورة عن نظيرتها المهرًبة.
الكشف الأول الذي أفضى إليه الاستقصاء الميداني، أظهر انتشار مبيد “التوباز” الإسرائيلي، وهو محظور دوليا، في الأسواق اليمنية، البلاد التي لا ترتبط بأي اتفاق مع إسرائيل، لا تجاري ولا غيره. يدخل “التوباز” بطرق التهريب، ومعه يدخل “الديوكسين”، وكلاهما محرم دوليا لأسباب يكشفها التحقيق.
الكشف الثاني، كان مفاجأة تمثلت في أن خلطات محلية تنتج ما هو معروف يمنيا بـ”السماد الأسود”، وشقيقه “الأحمر”، وهما أيضا يحتويان تراكيب محرمة ومحظورة.
توالت التفاصيل الصغيرة بعد ذلك، لتجتمع معا وتشكل كشفا ثالثا لا يقل أهمية عن سابقيه، بل يكاد يطغى عليهما. 70% من المبيدات المحظورة دوليا تستخدم في زراعة القات، النبتة التي لا تنفك تتفنن في كشف مضارها الفتاكة في أجساد اليمنيين، لتعلن صراحة، هذه المرة، أنها تقطف أرواحهم بتسبب متبقيات المبيدات فيها بالسرطان.
التحقيق، وإن غابت عنه بعض المعلومات قسرا، بسبب ما تشهده اليمن من أحداث مركبة، يكشف العديد من الخبايا في عالم زراعة وتجارة القات، الذي يبدو سعيه لجني الأرباح، جليا، ساطعا، حتى لو كان ذلك على حساب حياة الناس وأرواحهم.