محمد الربيعي - الكساد يهدد 1.5 مليون شجرة تفاح في كردستان بالإبادة

2011/03/28
التاريخ : 28/03/2011

محمد الربيعي – في أوائل خريف عام 2010، بدأ الصحفي سامان نوح أولى رحلاته الاستقصائية للبحث عن سر “الجفاف المفاجئ” الذي طال عددا كبيرا من مزارع التفاح في القرى المحاذية للحدود العراقية التركية. كانت الرحلة الاولى التي رافقته فيها الى قرى منطقة كاني ماسي (90 كم الى الشمال من مدينة دهوك الجبلية) هدفها أثبات فرضية تختلف تماما عن الفرضية التي انتهينا إليها فيما بعد، فالفرضية الاولى كانت تقوم على ان الفلاحين فقدوا قدرتهم على “الانتاج” بسبب ما يوصف بأنه “عملية تدجين” تعرضوا لها على يد النظام السابق، حين أبيدت قرابة الـ4500 من قراهم ونقلوا قسرا الى مجمعات حكومية ومعسكرات يتسلمون فيها الطعام مجانا من أيدي الجنود. اعتقدنا في البداية ان هذا هو سبب نزوح عدد كبير من الفلاحين من الحقول الى المدينة للبحث عن وظائف حكومية أو أعمال يومية عادية، ولكن بالتدريج اكتشفنا أن علينا إعادة تركيب الفرضية لتتسع لرؤية مختلفة تماما، مفادها أن سوء التخطيط الزراعي وقلة الاهتمام الحكومي بعوامل الانتاج أفضت الى مشهد غاية في التعقيد، فلاحون يبحثون عن عمل في البناء او التجارة بالمفرق، بساتين تتكدس فيها اطنان من التفاح المتعفن، و 1.5 مليون شجرة تفاح مهددة بالموت عطشا بسبب كساد تجارة التفاح لمواسم متلاحقة. كان من الغريب فعلا أن يسير الإنسان مئات الأمتار على طبقة من التفاح الناضج الذي سقط للتو، حينها تتملكه الرغبة في أن يترجل عن “جسد التفاح” الممتد على طول الحقول ليلامس بقدميه الارض أخيرا. عشرات البساتين التي زرناها، ومئات من حقول التفاح التي مررنا بها في طريقنا صعودا الى الجبال او هبوطا الى القرى الغافية قرب جداول المياه، كانت تفيض بثمار التفاح التي تترك تحت الاشجار دون ان تمسسها يد، والجواب الذي كان يأتيك كلما سألت فلاحا عن سبب عدم تسويقه للمحصول، هو دائما نفس الجواب “الكساد”. أسواق الجملة في مدينة دهوك (460 كم شمال العاصمة بغداد) التي كانت تنتج 25% من حاجة العراق للفواكه، ومدينة زاخو (آخر مدينة عراقية باتجاه الشمال) كانت تجري فيها عمليات بيع خاسرة يضطر فيها الفلاحون الذين تجرأوا على نقل تفاحهم الى السوق، للقبول بأي ثمن يدفعه التجار، فقط لتعويض ما دفعوه مقابل نقل المحصول الى السوق. وفي كل صفقة كان مساحات الحسرة تتسع في وجوه الفلاحين وهم يضطرون أخيرا للوصول الى معادلة غريبة (سعر طن من الفتاح= سعر نقل طن من التفاح الى السوق). وهذه المعادلة تدفعهم باستمرار الى قتل المزيد من أشجارهم بقطع المياه عنها والتفكير باستبدالها بأنواع أخرى من الفواكه او المحاصيل الموسمية. وافقت شبكة أريج حين قدمنا الفرضية الجديدة على انجازها لصالح الشبكة، ورفدنا الأستاذ زهير الجزائري بالأفكار التي اختزنتها ذاكرته حين كان يعيش في هذه المناطق الجبلية قبل ثلاثة عقود، مثله تماما فعل الأستاذ سعد حتر الذي ترك لنا أن نحدد الطريقة التي نراها مناسبة لنجيب عن هذا السؤال “من هو المسؤول عن كل ما يجري”. ولم يكن من السهل أن نعرف من هو المسؤول عن كل ما يجري، كان أمامنا واجهات كثيرة كلها تشترك في تعرض 1.5 شجرة تفاح للإبادة، الفلاح، تجار الجملة، الباحثون الزراعيون، مستوردو الفاكهة، المستثمرون، وحتى المستهلك الذي يفضل التفاح المستورد المعالج كيمياويا بدلا من تفاح بروراي ذا الطعم الخاص، والدولة نفسها. الى هذا الحد، عدت لبغداد وتركت صديقي سامان يتنقل لوحده ين القرى الجبلية، باحثا عن الإجابة التي كانت تمثل محور العمل الاستقصائي الذي مارسه على امتداد ثلاثة أشهر كاملة “من هو المسؤول”. زار سامان عشرات المؤسسات الحكومية بطريقة متسلسة، فكل جهة كانت تلقي بالمسؤولية على الجهة التي تليها، الباحثون الزراعيون اتهموا دوائر التخطيط الزراعية، وهؤلاء اتهموا مديرية البستنة، والمستثمرين، والبستنة اتهمت المستثمرين ودوائر التخطيط، ودائرة الاستثمار اتهمت الفلاح ودوائر التخطيط الزراعي والتجار والمستثمرين، ومثلهم فعل التجار الذين اتهموا الفلاح ودوائر التخطيط والمستهلك والأوضاع العامة والمخاطر الأمنية والحكومة، والحكومة أعادت الكرة الى ساحة المستثمرين والفلاحين والتجار. حلقة مفرغة مر بها الصحفي سامان نوح في أطول وأوسع تجربة استقصائية يخوضها، أعترف أنه فقد خلالها البوصلة مرارا حين كان يغير اتجاهاته من أقصى الشمال (زاخو والمناطق القريبة منها) الى الشرق والجنوب ثم غربا، ثم العودة شرقا باتجاه مدينة أربيل (160 كم شرق دهوك)، حيث مقر الحكومة الكردستانية. وكدت أنا أن أضيع البوصلة أيضا حين كنت أراجع حصيلة اللقاءات التي يجريها سامان أو “شبه الاحصائيات” التي بالكاد كنا نحصل عليها من هنا او هناك. العمل في موضوع تغيب عنه الاحصائيات أو المعلومات الموثقة يكون أشبه بالمغامرة. وفي كردستان، كما في باقي مناطق العراق، لا تجد في الغالب من يعطيك رقما محددا عن أي شيء، كل شيء قائم على افتراضات أو أرقام تقريبية، وهذا بالضبط ما جعل المغامرة التي خاضها سامان مثمرة حين وصل الى تحديد المتسبب الرئيسي بـ”مجازر التفاح”، على العكس تماما من المغامرة التي يخوضها مزارعو التفاح في كردستان كل موسم، ولا يحصلون في النهاية سوى على اطنان من التفاح المتكدس في الحقول.