مع اوائل العام 2006، كان مشهد الفتيان الذين يحملون البنادق وينصبون نقاط التفتيش الوهمية على مفارق الطرق في العاصمة بغداد، مألوفا جدا. ولكنه كان أيضا السمة التي طبعت سنوات الرعب تلك.
قبل هذا بنحو عامين كانت المعارك التي اندلعت جنوب العاصمة وغربها، قد أودت بحياة صبية لا تتجاوز اعمار بعضهم الـ12 او الـ13 من العمر. وفي احتفالات جنائزية مهيبة جمع المقاتلون الصغار ووضعوا في مقابر منفصلة عن باقي القتلى الذين سقطوا برصاص القوات الأمريكية، او رصاص بعضهم البعض.
القتلى الصغار، ومعهم من قتل بأيديهم أيضا، كانوا جميعا ضحية “ظاهرة تجنيد الأطفال” التي انتشرت في شتى مدن العراق، واستمرت لسنوات قاسية أطلق عليها البعض تسمية “الحرب الأهلية” أو “سنوات العنف الطائفي” أو غيرها من المسميات التي تؤرخ لقصة صراع دام يعترف الكثيرون أنهم تورطوا فيه، بقصد او دون قصد، لكنهم تورطوا فيه في النهاية.
“المسكوت عنه” في قصة تجنيد الأطفال كان ضبابيا للكثير من الذين حاولوا تقصي تلك القصة من خارج الأحياء الفقيرة التي انطلق منها المقاتلون الصغار. لكنه كان أكثر وضوحا للذين عاشوا هاجس الخوف من رصاصة يطلقها “طفل مقاتل” في إحدى الصباحات الباردة. أو أثناء العودة عصرا للمنزل حين تكون الرغبة بالثأر قد انتشرت سريعا بين المقاتلين “الصبية”، بعد ان يكونوا قد خسروا رفيقا لهم على يد الطرف الآخر.
من هؤلاء، كانت كاتبة التحقيق الزميلة ميلاد الجبوري (وهو اسم مستعار اخترناه لإخفاء شخصية الصحفية التي أنجزت التحقيق). والتي حاولت مطلع شهر أب أغسطس من عام 2010 البدء يتوثيق ظاهرة تجنيد الأطفال وانجاز تحقيق استقصائي بالتعاون مع شبكة أريج.
ولأنني عشت نفس الهاجس (القلق من رصاصة الطفل المقاتل الذي لا استطيع ان أتعرف عليه من بين عشرات الوجوه التي ألقاها صباحا)، بدأت بخطوات الإشراف على هذا التحقيق بشرط أساسي، هو أن نتوقف عن العمل على التحقيق متى ما أحسسنا بالخطر يقترب من أيا منا (كاتبة التحقيق أو المشرف).
وطوال الأشهر الثلاثة التي تطلبها انجاز التحقيق، خمنت أننا سنضيع وسط المتاهات التي وجدناها أمامنا حين نوشك أن ننجز أي جزء من التحقيق، وفي لحظات التيه تلك، عرضت على الزميلة ميلاد الجبوري ان تتوقف عن انجاز التحقيق لأنه يوشك ان يعبر هامش الحذر الذي يعرفه ويحرص على الالتزام به كل صحفي يعمل في العراق.
أبلغت الزميلة ميلاد حينها بالتهديد المبطن الذي نقله لي عبر الهاتف، قيادي سابق في تنظيم القاعدة كان قد وافق على تزويدنا بمعلومات عن الطريقة التي يتبعها التنظيم في تجنيد الأطفال، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة وفضل ان يمنحنا بدلا عن المعلومات، “تحذيرات” من الاستمرار في العمل. وطلبت مرة أخرى من الزميلة ميلاد ان تتوقف عن العمل ان كانت ترى في ذلك خطرا عليها.
لكن الزميلة ميلاد الجبوري لم توافق على فكرة التوقف، ففي ذلك الوقت كانت قد التقت بعشرات الصبية المجندين داخل سجون وزارتي العدل والداخلية، والتقت أيضا بقادة انشقوا عن تنظيم القاعدة، وبمسؤولين أمنيين وباحثين اجتماعيين وبعدد من عوائل الأطفال المجندين، وهذا ما كان يعني بالنسبة لي ان التزم بانجاز التحقيق معها للنهاية. خصوصا بعد ان أنجز الزملاء الصحفيين الذين طلبنا مساعدتهم في الحصول على معلومات من محافظاتهم (بغداد وصلاح الدين وديالى والانبار)، مهمة الحصول على معلومات مهمة ساعدتنا كثيرا في استكمال “قصة تجنيد الأطفال”.
حين عرضت النسخة النهائية من التحقيق على الأستاذ زهير الجزائري عرفت معنى ان تكون روح الفريق حاضرة في العمل الاستقصائي، فقد منحنا من وقته وجهده وخبرته الشيء الكثير، وراهن على ان التحقيق سيفوز في النهاية بجائزة متقدمة في مسابقة أريج للصحافة الاستقصائية.
نفس الشيء فعله رئيس قسم التحقيقات في شبكة أريج سعد حتر الذي كان يعتقد ان التحقيقات التي تغوص في أعماق القضايا الشائكة، تستحق الجهد الذي يبذل في انجازها. ووضع الأستاذ حتر لمسته المميزة على التحقيق قبل أن ينشره الأستاذ حازم الأمين، في مكان مميز من صحيفة الحياة.
كان نشر التحقيق في صحيفة الحياة هدفه الأساسي هو إخفاء هوية كاتبة التحقيق. وهو ما كان يشغل المديرة التنفيذية لشبكة أريج رنا الصباغ التي فضلت ان تتخلى كاتبة التحقيق عن حقها في نشر اسمها على التحقيق، مقابل عدم تعريض حياتها للخطر، وساهمت بشكل مباشر في دخول التحقيق في مسابقة سيمور هيرش.
المميز في هذا التحقيق، هو أنه كشف بعض الملامح التي طبعت مرحلة مهمة من تاريخ العراق لم تعلن كل أوراقها بعد. في ذات الوقت، كان تجربة فريدة بالنسبة لنا، علمتنا كيف يمكن أن نتعامل مع الملفات الخطرة بحذر، وبحرفية عالية، كي ننجز في النهاية تحقيقا استقصائيا يأخذ مكانه بين أفضل ثلاث تحقيقات استقصائية في الوطن العربي عام 2010.