باقية وتتمدد
داخل سجن استقبال طرة، تحوَّل أحمد -اسم مستعار- صاحب الـ 29 عاماً، من شاب يهوى التصوير ويحبّ جماعة الإخوان المسلمين، إلى منبوذ منهم ومؤيّد لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
في مارس عام 2010، كان أحمد، ضمن شباب جماعة الإخوان المسلمين، الذين كانوا يطوفون في الشوارع رفقة شباب حركة 6 أبريل، لجمع توقيعات على بيان "الجمعية الوطنية للتغيير" التي كان يقودها الدكتور محمد البرادعي، نائب رئيس الجمهورية سابقاً، بعد ثورة 25 يناير، استمر نشاطه داخل جماعة الإخوان، حتى إلقاء القبض عليه أوائل عام 2014.
منذ ذلك التاريخ، وهو محبوس احتياطياً في سجن استقبال طرة، متهماً بالانضمام إلى جماعة أُسِّسَت على خلاف أحكام القانون، والاعتداء على أفراد الشرطة والقوات المسلحة ومنشآتها وتعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر، وكان الإرهاب من الوسائل التي تستخدم لتنفيذ تلك الجرائم، كما واجه تهم الانضمام إلى حركات تهدف للتخريب وإشعال النيران في عدد من سيارات رجال الشرطة والقضاء ومقهى خلال الفترة من أغسطس 2013 حتى يناير 2014.
أحيلت القضية للقضاء العسكري في يناير 2016، بموجب القانون رقم 136 لعام 2014 بشأن تأمين وحماية المنشآت العامة والحيوية”، الذي أصدره الرئيس عبد الفتاح السيسي في أكتوبر 2014، وسمح بمحاكمة من يعتدي على منشآت الدولة أمام القضاء العسكري. ولا تزال القضية المفتوحة منذ أكثر من 5 سنوات، دون أن يصدر فيها حكمٌ حتى تاريخ نشر التحقيق.
قبل سجنه، لم يكن أحمد يُخفي انتماءه إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكان نشطاً ضمن صفوف الجماعة، وأصيب في أثناء فضِّ قوات الجيش والشرطة اعتصامَ أنصار جماعة الإخوان المسلمين في ميدان "رابعة العدوية"، أغسطس 2013.
انتشار الفكر التكفيري بين صفوف شباب جماعة الإخوان سببه إهمال الجماعة تدريس العقيدة لأبنائها على حساب الاهتمام بالجانب السياسي، بحسب الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، الدكتور ناجح إبراهيم "لم تهتم الجماعة بتحصين أبنائها وتعليمهم العقيدة، واهتمت بالحشد السياسي والمظاهرات".
لكن الشاب الإخواني، خريج كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، انقلب على جماعة الإخوان، بعد سنوات من الحبس الاحتياطي وفقدان الأمل في الخروج من السجن -بحسب صديق مقرب تحفَّظ على ذكر اسمه- مضيفاً أن تكرار تجديدات الحبس وطول مدة المحاكمة، التي اقتربت من خمس سنوات، جعله يتوهم أنه لن يخرج من السجن إلا بقوة السلاح، ومن يمكنه فعل ذلك سوى أنصار الدولة الإسلامية "داعش".
يفسر انتشار أفكار تنظيم "داعش" داخل سجن طرة، قيادي جهادي سُجِن نحو عام هناك، وخرج منتصف 2016: "تزامن وجودي في سجن طرة مع عمليات ضخمة تبنَّاها تنظيم ولاية سيناء مثل تفجير مبنى أمن الدولة في شبرا والقنصلية الإيطالية في وسط البلد، ما أسهم في إعلان الكثيرين داخل السجن مبايعة التنظيم، اقتناعاً منهم بأنه باقٍ ويتمدد وقادم لتحريرهم من الأسر".
في نفس الفترة منتصف 2016، لاحظت أسرة أحمد وأصدقاؤه، التغيير الذي حدث له، بداية من إطلاق اللحية والعنف اللفظي وصولا الى حديثه عن دولة الخلافة.
لا تزال هناك فرصة للسيطرة على انتشار الفكر التكفيري داخل السجون المصرية، بحسب القيادي السابق في الجماعة الإسلامية، الدكتور ناجح إبراهيم، لكنه يرى أن ترك السجون حالياً بلا محاولة لتأهيل المساجين، يجعلها معسكراً لتأهيل التطرّف والتكفير، ما سيجعل قاطنيها قنبلة موقتة مملوءة بالحقد والكراهية ضد المجتمع والسلطة بعد خروجهم".
بداية الحل تكون بالمراجعات الفكرية، والتخفيف من وطأة السجن عليهم، أسوة بما حدث مع الجماعة الإسلامية في تسعينيات القرن الماضي، في رأي الدكتور كمال حبيب، الخبير في الجماعات الإسلامية.
يرسم سجين سابق مع أحمد، صورة مختصرة للتحولات الفكرية التي تحدث في السجن "بمرور الوقت، ومع طول مدة الحبس، تتحول الحياة إلى نوم وأكل ومناقشات، ومن هنا تبدأ المشاكل"، ويضيف أنه عادة ما ترغب قيادات الإخوان في السيطرة على شباب الجماعة، لكن أحمد لم يكن دائما مطيعاً لهم، وهو ما زاد حدة الخلاف بين الطرفين.
سجين ثانٍ -خرج لاحقاً- يتذكر وقوف أحمد جوار أنصار تنظيم الدولة الإسلامية في السجن، في خلاف لهم مع جماعة الإخوان "في مواقف كثيرة كان أحمد يختار صف "داعش" عند الخلاف بينهم وبين الإخوان، سواء في المناقشات الفكرية، أو الأمور التنظيمية مثل الأكل والتسكين والنوم"، بعدها استقلّ عنهم، وتركهم لمرافقة مَنْ يوافقون آراءه من أنصار الفكر التكفيري ومؤيدي الدولة الإسلامية الذين يمتلئ بهم السجن.
انجذب أحمد إلى أفكار "داعش" وأصبح يرى من يخالفه كافراً ويرفض الأكل والصلاة والحديث مع زملائه السابقين المسجونين من أنصار جماعة الإخوان المسلمين، بحسب سجين سابق، تحفّظ على ذكر اسمه.
في مقال سابق له وخلال حواره معنا، شدَّد ناجح إبراهيم على جملة يراها مدخلاً لحل الأزمة حاليا: "لا بدَّ أن تمنح أملاً لخصومك الذين لا يحملون السلاح، حتى لا ييأسوا ويموتوا في مواجهتك"، لذلك يعيب بشدة على السلطة الحالية التفكير في الجانب الأمني فقط، دون محاولة "محاربة الأفكار بالأفكار".
ويرى القيادي التاريخي في الجماعة الإسلامية أن محاربة المتطرفين والتكفيرين، تبدأ بالحوار، والتواصل والتحييد، وفتح أفق الحياة لهم.
بامتنان وفخر، يتذكر مؤسس الجماعة الإسلامية، المراجعات التي أجروها في السجن، وتخليهم عن السلاح، بعد إعلانهم "مبادرة وقف العنف" عام 1997، وقضى" ناجح" ما يقرب من 25 عاماً في السجن، منذ القبض عليه عام 1981، في قضية أحداث أسيوط، التي أعقبت اغتيال الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، وحتى خروجه عام 2005.
يتحدث بحب شديد عن اللواء أحمد رأفت الذي كان يشغل منصب نائب رئيس أمن الدولة، ومسؤول النشاط الديني في الجهاز، تلمع عيناه وتبدو عليه ملامح الارتياح، ويتابع: "كان مخلصاً شريفاً، لم يكن انتهازياً، شعر بصدقنا في المراجعات والتخلي عن العنف المسلح، فصَدَق في وعوده لنا".
حوَّل رأفت السجن إلى جامعة فكرية، تجري فيها النقاشات والمراجعات بين قادة الجماعة الإسلامية وشبابها، وورشة إنتاجية كبيرة لإعادة تأهيل المساجين وتعليمهم حِرَفاً، بحسب ناجح الذي قدَّر عدد المساجين من الجماعة وقتها بنحو 12 ألف معتقل.
قبل سجنه، لم يتجاوز تفكير أحمد تأمين المظاهرات، ومحاولة عرقلة قوات الشرطة عند فضّ المسيرات الإخوانية، بحسب صديق مقرب منه، لكنه الآن "يتمنى أن يقتلَ اللهُ من يقاتل ويحارب دولة الإسلام، داعياً الله بأن يكتب له الحياة في الخلافة الراشدة على منهاج النبوة في يوم تعلو فيه راية التوحيد كل الأرض".