هخرج بفضل الله




بعد 3 أشهر من احتجازه في أحد أقسام الشرطة، انتقل "مصطفى" -وهو اسم مستعار- إلى سجن استقبال طرة حيث تعرَّض إلى ضرب وإهانات وسُباب، فيما يطلق عليه الـ"تشريفة "، من عساكر وضباط السجن، بحسب والده - لم نستطع التأكد من صحة هذه الادعاءات من مصدر محايد.


في بداية وجوده في طرة محبوساً احتياطياً على ذمة إحدى القضايا السياسية، والمتهم فيها بحيازة مفرقعات، والانضمام لجماعة أُسِّست على خلاف أحكام القانون والدستور، اشتكى "مصطفى" كثرةَ أصحاب التوجه الإسلامي حوله. "كان دائماً يبحث عن أي حد جاي للسجن من غير الإسلاميين"، يقول سجين سياسي سابق، كان يؤدي امتحاناته داخل سجن طرة، والتقى مصطفى مرتين، في المرة الأولى: "كنت أؤدي امتحانات التيرم الأول، كان يشتكي لي من كثرة الإسلاميين وسيطرتهم على المكان وإن كل من معه إخوان وإسلاميون، كان عنده فوبيا منهم"، وفي المرة الثانية: "مع امتحانات التيرم الثاني، وجدته شخصاً يتحدث عن تكفير وزارة الداخلية وجماعة الإخوان المسلمين، ويقول لي إن الحل في تنظيم الدولة".

















في فترته الأولى داخل طرة، وجد "مصطفى" نفسه مقيماً في غرفة برفقة شخصين محكوم عليهما بالإعدام، ويرتديان الزي الأحمر.

يقول والده إن نجله في تلك الفترة كان يمر بحالة نفسية سيئة، وطلب منه أن يزوره كثيراً، وأن يحاول نقله من هذه الغرفة "كان قاعد في غرفة مساحتها 2 متر في 2 متر، تضيئها "لمبة سهاري"، فقط، بلا منفذ تهوية، برفقة اثنين يرتديان الزي الأحمر الخاص بالإعدام، كان بيقول لي مش بشوف الشمس ولا أعرف إحنا بالليل ولا بالنهار غير في الزيارة".

يخالف وجود المحبوسين احتياطياً مع المحكوم عليهم المادة 11 من قانون تنظيم السجون، التي تقضي بأن يقيم المحبوسون احتياطياً في أماكن منفصلة عن غيرهم، بحسب الباحث القانوني رضا مرعي.

















"في الأشهر الثلاثة الأولى في طرة، بدأ يتكلم في الحلال والحرام، ويقول لي لا أريد حضور المحاكمات، لا أريد محامين، وازداد الحديث بعد الحكم عليه بالسجن المشدد 10 سنوات، وقبل ترحيله من سجن طرة إلى سجن المنيا، برفضه إجراءات النقض على الحكم، عندما سألته قال لي الناس اللي أنا قاعد معاهم بيقولوا لي لو هخرج بفضل الله، هيجيلي عفو مثل الآخرين الذين يخرجوا في المواسم والأعياد"، يحكي والده.

تحوَّل صاحب الـ19 عاماً -الذي أُلقي القبض عليه في وقت مبكر من مظاهرات 30 يونيو 2013، واتهم بحيازة مفرقعات والانضمام لجماعة الإخوان المسلمين ومهاجمة قوات الشرطة- من متطوّع في الحملة الرئاسية للمرشح اليساري خالد علي في الانتخابات الرئاسية 2012، إلى شخص عدواني، ناقم على الحياة والمجتمع، يرفض استكمال درجات التقاضي والتوقيع على إجراءات نقض الحكم، بسبب اقتناعه بتكفير القضاة، وعدم جواز الاحتكام للقوانين الوضعية، بحسب والده ومحاميه.

















يستبعد اللواء محمد نجيب، مساعد وزير الداخلية لقطاع مصلحة السجون سابقاً، حدوث أي اختلاط بين المساجين المتشددين فكرياً، والمتهمين بالانضمام لتنظيم "داعش"، وغيرهم من المساجين المعتدلين، مفسراً ذلك بوجود إدارة في كل سجن تُسمَّى إدارة البحث، مهمتها مراقبة جميع السجناء ورصد أي تغير أو تحول في سلوك أي سجين نحو التشدد والتطرف، مؤكداً أن السجون المصرية تعزل المتطرفين فكرياً والمتشددين دينياً عن باقي المساجين، وتعامل مَن يخالف قواعد السجن وفقاً للقانون ولائحة الجزاءات المقررة، بداية من منع الزيارة، مروراً بالحبس الانفرادي والتغريب، والحرمان من باقي المميزات المقررة لهم.

لم ييأس والد مصطفى. لكن بعد عدة محاولات في إقناعه باستكمال إجراءات التقاضي، وتوكيل محام بالنقض دون جدوى، نجح بالتعاون مع موظف الشهر العقاري في التحايل على الأمر. يقول والده إنه اتفق مع موظف الشهر العقاري على الذهاب للسجن معه وهو سيقول لنجله إن التوكيل غرضه أن يتمكن المحامي من تقديم طلبات نقله من السجن وتحسين ظروفه، وليس للنقض، ثم يكتبون الغرض من التوكيل عقب حصولهم على توقيعه، وهو ما حدث، لكن محكمة النقض لم تحدد جلسة نظر الطعن حتى الآن.

















ازدادت الأمور سوءاً لدى مصطفى، وأصبح أكثر تشدداً بعد الحكم عليه، يقول والده: "بدأ يتكلم لغة عربية فصحى، ويقول لي بلاش ماما تيجي الزيارة عشان ما ينفعش حد يشوفها، ورفض تقديم طعن على الحكم الصادر بحقه، باعتبار أنّ ذلك من الأعمال الكُفرية، لاستنادها إلى طاغوت القانون الوضعي، وأن الأحكام القضائية مسيسة".

عملية التحول الفكري نحو الأفكار المتطرفة لشباب الإخوان والمتعاطفين معهم، أسهل عن غيرهم من التيارات الأخرى، يقول قيادي جهادي سُجن نحو عام في إحدى القضايا المرتبطة بما يسمى "تحالف دعم الشرعية"، داخل سجن طرة شديد الحراسة 992، وأُفرِج عنه بتدابير احترازية.

















لكن الدكتور ناجح إبراهيم، مستنداً إلى خبرة طويلة في السجون المصرية ولقاءات أجراها ومراجعات فكرية على مدى سنوات مع "جهاديين" وتكفيريين"، يشرح كيف تجري عملية التجنيد في السجن.

تبدأ العملية بعرض الأفكار، يسهم الوقت الطويل وإهدار حقوق المساجين في التريض ودخول الكتب والصحف، في خلق ساعات طويلة من المناقشات في كل شيء، يعزّز ذلك شعور المقبوض عليه -لأنه معارض لنظام الحكم- بالظلم، وهو ما يجعله مهيأً أكثر للتشدّد.

يقول إبراهيم: "بيدخل، ما عندوش صبر على حياة السجن القاسية، ومش عارف نهاية وجوده في السجن امتى، ويزيد على ذلك شعوره بضياع مستقبله، ويصبح منعزلاً عن العالم الخارجي، ومقهوراً نفسياً، فيؤمن أن الدولة ظالمة والمجتمع ظالم، فيكون بيئة خصبة للاقتناع بأي أفكار تكفيرية تغذّي لديه فكرة الانتقام ورفع الظلم عنه".
















وتدفع الفترة الطويلة في الاحتجاز إلى فقدان الأمل في كل شيء، يقول سجين سابق نسميه "حسن"، قضى عامين في الحبس الاحتياطي بسجن برج العرب، قبل أن يحصل على البراءة في اتهامه بالتظاهر.

في بداية وجود "حسن" في "برج العرب" كان السجن مقسماً لـ3 عنابر للمسجونين السياسيين، اثنان للمحبوسين احتياطياً "تحقيق 21 و22"، وثالث للمحكوم عليهم "23"، وقال إنه مع تزايد الأعداد فتحت إدارة السجن عنبري 2 و24، ولم يكن هناك فصلٌ بين المساجين أو تصنيف سياسي لهم، وهو ما عانى منه كونه أحد المحسوبين على التيار المدني في الإسكندرية "كنت قاعد مع ناس جهاديين سلفيين وإخوان، كل تيار حاول التحكم في المكان وفرض سيطرته وبرامجه على المكان".

يشرح "حسن" كيف كان المتشددين يحاولون جذب الشباب إليهم، عن طريق المناقشات في البداية، دون فرض شيء من قِبل المتطرفين على غيرهم، مضيفاً: "طول مدة السجن، واليأس من الخلاص بنهاية فترة السجن يدفع للإحباط"، يلي هذه المرحلة ما سماه "حسن" بـ"الإعجاب".

ينجذب شباب الإخوان إلى المتشددين بسبب ما يشاهدونه من تحدّيهم لإدارة السجن، لا يخشى المتشددون عقوبةَ التأديب والحبس الانفرادي، زي ما بيقولوا "جتته نحَّست ومش فارقة معاه"، في مقابل ما يصفه "حسن" بـ"خنوع قيادات الإخوان لإدارة السجن، ومحاولة تهدئة الأوضاع حال الاضطرابات".

















وتشير دراسة للمركز الدولي لدراسة التطرف التابع لقسم دراسات الحرب في جامعة King’s" College London" إلى أن غالبية المقاتلين الأجانب الجهاديين، مجرمون سابقون، جرى تجنيدهم خلال وجودهم في السجن.

فمن بين 79 جهادياً أوروبياً لهم ماضٍ إجرامي، جرى تحليل شخصياتهم، موزعين بين دول بلجيكا وبريطانيا والدنمارك وفرنسا وألمانيا وهولندا، وجدت الدراسة أن 57% منهم كانوا في السجون قبل أن يجنحوا إلى التطرف، فيما كان 27% منهم على الأقل قد أمضوا عقوبة في السجن وانحازوا للتطرف وهم خلف القضبان.

في سجن برج العرب، بحسب "حسن"، أسهم أيضاً نشاط "ولاية سيناء"، وظهور حركات تتبنى العنف ضد الدولة مثل "حسم" و"أجناد مصر" في إثارة حماس الكثيرين، وزيادة اقتناعهم بأنه "لا خلاص إلا بالعنف".

"وبنجاح أحد المساجين في تهريب جهاز لتشغيل المقاطع الصوتية والمرئية المُسجَّلة، مليْء بفيديوهات خطب أبو بكر البغدادي، وعمليات إرهابية في مصر، مثل الهجوم على معبد الكرنك في الأقصر عام 2015، وتفجير كمين كرم القواديس في شمال سيناء، وغيرها، كان الأمر خارجاً عن السيطرة، وانضم شباب كثيرون إليهم، وأعلنوا مبايعتهم للتنظيم"، ويضيف ساخرا: "بعضهم مع ظهور أخبار عن إعلان ولاية الصعيد، بدأ يفكر في موعد اقتحام أنصار الدولة للسجن وتحريرهم".









وعلى الرغم من قضاء مصطفى عامه السادس في السجن، يستمر الأب في محاولاته للحصول على عفو رئاسي، أو قرار قضائي بالإفراج عن نجله، وفي رأسه أسئلة كثيرة وتخوفات أكثر: "نفسي ابني يخرج ويكمّل حياته، لكن خايف ومش عارف لمَّا يخرج هيكون عامل ازاي ودماغه فيه إيه وناوي على إيه!".

سبق تحوّل مصطفى في سجن استقبال طرة، تركه الغرفة المقيم فيها مع أصدقائه المتهمين في نفس القضية، والانتقال للإقامة في عنبر مختلف مع مجموعة من متهمي تنظيم الدولة الإسلامية، بالطريقة نفسها، وفي السجن نفسه تحول شابٌ آخر، نسميه "أحمد" من مناصرة جماعة الإخوان إلى الانقلاب عليهم والانضمام إلى أنصار "داعش".