أنت كافر




أثناء واحدة من مئات المظاهرات التي خرجت تطالب بعودة الرئيس الأسبق محمد مرسي إلى الحكم عقب عزله، أُلقي القبض على "عمر" -اسم مستعار- وبعد 4 سنوات قضاها قيد الحبس الاحتياطي داخل سجن استقبال طرة، لاحظ والده تحولاتٍ في أفكار نجله نحو التشدد، بدايتها كانت إطلاق لحيته.


اتُهم "عمر" بالانضمام لجماعة أُسِّسَت على خلاف القانون، ومدّها بالسلاح، إضافة إلى المشاركة في تجمهر غرضه الاعتداء على المسيحيين والإعلاميين ومعارضي هذا التجمهر.


عقب عزل محمد مرسي، انطلقت مظاهراتٌ واسعةٌ لأنصاره مطالبين بعودته إلى الحكم، وشهدت البلاد ارتفاعاً كبيراً في وتيرة الهجمات الإرهابية ضد قوات الجيش والشرطة، بالتوازي مع ذلك، أُلقي القبضُ على الآلاف من جميع التيارات السياسية في مصر.

تشير التقديرات الحقوقية إلى 60 ألف سجين سياسي بحلول أغسطس 2016، ونتيجة زيادة أعداد المسجونين، أنشأت الدولة نحو 20 سجناً جديداً منذ أغسطس 2013.










مساعد وزير الداخلية لقطاع مصلحة السجون سابقاً، اللواء محمد نجيب، يرى أن زيادة عدد السجون كان ضرورياً للتخفيف من التكدس والزحام الذي تعاني منه سجون كثيرة، إضافة إلى راحة المساجين وأهلهم في الزيارات، وحمايتهم من الإصابة بالأمراض.

ويضيف نجيب الذي كان مسؤولاً عن سجون مصر عقب ثورة 25 يناير أنَّ توزيع المساجين على سجون متعددة يُقلل من مخاطر نقلهم إلى جلسات المحاكمات.
















تحوَّل "عمر" -الذي كان له موقف معارض لعزل رئيس منتخب (محمد مرسي)- إلى شخص يرى هذا الرئيس يستحق ما حدث له، لأنه لم يحكم بما أنزل الله، ولجأ إلى الديمقراطية الكافرة، بحسب ما سمعه الأب من ابنه في إحدى الزيارات.




















هذه المناقشات بخصوص "ضرورة الحكم بالشريعة الإسلامية وعدم اللجوء إلى القانون الوضعي الذي تتعامل به الدولة"، منتشرة بكثرة بين الشباب داخل مجمع سجون طرة، بحسب قيادي جهادي سابق يرفض ذكر اسمه، سُجن نحو عام في إحدى القضايا المرتبطة بما يسمى "تحالف دعم الشرعية"، داخل سجن طرة شديد الحراسة 992، والمعروف باسم "العقرب"، والذي شهد داخله تحوَّل عدد كبير إلى ما أسماه القيادي الجهادي "الفكر التكفيري" من الشباب المحتجزين في السجن الذي اكتسب سمعة سيئة بصفته موقعاً للاحتجاز لأجل غير مسمى، بحسب تقرير "حياة القبور.. انتهاكات سجن العقرب في مصر"، الصادر عن منظمة هيومان رايتس ووتش عام 2014.

برأي الخبير في الحركات الإسلامية، الدكتور كمال حبيب، تتناسب العلاقة طردياً بين زيادة قمع النظام تجاه معارضيه، وميل المعارضة للأفكار التكفيرية والعنيفة كوسيلة للمقاومة.

تزداد الأزمة في السجون المصرية التي لا تجيد التعامل مع السجين صاحب القضية السياسية. يقول القيادي السابق في تنظيم الجهاد، من واقع تجربة سجنه سابقاً لمدة 10 سنوات، مضيفا أن تغليب التعامل الأمني وغياب تصنيف المساجين، أسهم في "تجنيد" الكثيرين في مختلف السجون المصرية لصالح الجماعات التكفيرية، وعلى رأسها ولاية سيناء التابعة لتنظيم "داعش".




















لم تكن ظاهرة تجنيد أشخاص داخل السجون جديدةً على مصر، إذ أنتج الصراع على السلطة بين رؤساء مصر والإسلاميين، ثلاثة أجيال من المتطرفين والمتشددين الذين تشرَّبوا "الفكر المتطرف" و"المتطرف العنيف"، في السجون المصرية، بحسب وصف الدكتور كمال حبيب، الخبير في شؤون الحركات الإسلامية.

ويعتبر "حبيب" الجيل الحاليّ هو الثالث بعد جيلين، الأول ارتبط وخرج من رحم أزمة جماعة الإخوان المسلمين، ونظام ثورة يوليو 1952، في منتصف الستينيات، وكان رائده شكري مصطفى الذي قُبض عليه عام 1966، وعمره 23 عاماً فقط.

وجد شكري -الذي كان يدرس في كلية الزراعة- نفسَه في زنزانة واحدة مع الشيخ الأزهري علي عبدة إسماعيل، شقيق القيادي الإخواني عبد الفتاح إسماعيل، الذي نُفِّذ فيه حكم الإعدام برفقة سيد قطب و4 آخرين عام 1966، بحسب "حبيب".

6 سنوات قضاها "شكري"، وخرج بعدها ليؤسس "جماعة المسلمين"، التي عرفت إعلامياً باسم "التكفير والهجرة" وبدأت تنفيذ عمليات ضد الحكومة المصرية، أبرزها في 3 من مايو 1977، خطف الدكتور محمد حسين الذهبي، وزير الأوقاف وشؤون الأزهر الأسبق، وذبحه بعد يومين.

لكن الجيل الثاني من "المجندين في السجون" -بحسب القيادي السابق في الجماعة الإسلامية الدكتور ناجح إبراهيم- شكَّل نواةً لما يُعرَف الآن بـ"ولاية سيناء"، الذي بايع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش".

عقب تفجيرات ضد السياح الإسرائيليين في جنوب سيناء "طابا" و"دهب" و"شرم الشيخ" بين عامي 2004 و2005، ألقتْ قواتُ الأمن القبض على الكثيرين وقتها، التقى بعضهم الدكتور ناجح إبراهيم في سجن دمنهور، وألقى عليهم نحو 30 محاضرة، بين عامي 2005 و2006: "استجاب الكثيرون منهم وخرج مَنْ خرج، وبقي عدد منهم في سجن أبو زعبل، وهناك التقوا شخصاً يُدعى مجدي الصفتي، المفكِّر الأساسي لجماعة "الناجون من النار"، والذي كان يقضي 25 عاماً في قضية تنظيم "الناجون من النار".

على مدار أكثر من عامين ظل "الصفتي" ينشر الفكر التكفيري بينهم، حتى حدثت ثورة 25 يناير، وهربتْ هذه المجموعة يوم 29 من يناير 2011، من السجن.
























يُسهم سوءُ ظروف الاحتجاز، طوال مدة الحبس الاحتياطى والمنع من الزيارة والتريض والبقاء بين 4 جدران شهوراً، في زيادة الغضب ضد السلطة، يقول القيادي الجهادي، الذي تحفظ على ذكر اسمه بعد الإفراج عنه بتدابير احترازية منتصف 2016، مضيفاً أن إدارة السجن في بعض الأوقات كانت تضع الكثيرين ممن تريد تأديبهم في عنابر "الدواعش" كنوع من العقوبة.




















على مدار عام، كان القيادي الجهادي، شاهداً على كيف ساعدت ظروف الاحتجاز والاختلاط بين مَن أطلق عليهم "الدواعش" وغيرهم من المساجين، على انتشار الفكر التكفيري بالداخل، أكدت ذلك شهادات كثيرة لسجناء بعد خروجهم، من بينها شهادة سجين سياسي سابق قضى فترة عقوبته في أحد سجون القاهرة.

تطوَّرت حدة العنف اللفظي لدى "عمر"، من مجرد مناقشات إلى قرارات، وهو ما يشرحه لنا محاميه "بعد ما كان بيزعل لما ما أقدرش أحضر معه تجديدات النيابة أو أزروه في السجن، بدأت ألاحظ إنها مش فارقة معاه، وبعدها قال لي إنه مش عايز محامي"، تزامن هذا مع إخبار الشاب للأب برفضه التوقيع على طلب إجراء نقض الحكم الصادر ضده بالمؤبد في فبراير 2018، بسبب ما وصفه لوالده بـ"الاحتكام للقوانين الوضعية".

أسهم الحكمُ على عمر بالسجن 25 عاماً في تمسّكه بأفكاره أكثر، وهو ما انعكس على مناقشاته مع والده، "بدأت أتناقش معاه في كلامه، أحاول أخلّيه يبعد عن الأفكار دي، حتى فوجئت إنه بيقول لي إنك لازم تُستتَاب لأنك كافر".

كانت الجملة مفاجئة للأب التي تُظهر لحيته نوعاً من التدين السلفي، لكنه يرى الأمر نتيجة طبيعية لأن نجله "قاعد 24 ساعة أكل وشرب أفكار متطرفة في السجن".


























يُمثِّل رفض المتهم المثول أمام النيابة والقضاء، نقطة رئيسية في التحول نحو الفكر المتشدد، واجه ذلك محامون كثيرون، من بينهم خالد المصري الذي ينشط في الدفاع عن متهمي الجماعة الإسلامية.

يتذكر المصري متهماً -تحفًّظ على ذكر اسمه- قُبِض عليه بعد أيام من زفافه، وبعد شهور طويلة في سجن العقرب تحوَّل إلى شخص آخر تماماً، ناقم على كل شيء، يُكفِّر كل من يراه. ويضيف: "كنت قبل دخول جلسة تجديد حبسه في محكمة الجنايات يقول لي لو سمحت يا أستاذ خالد لا تدخل معي ولو دخلت معي سوف تسمع مني ما يسوؤك"، وفور دخول الجلسة، يبدأ الهتاف ضد القضاة "يا كفار.. يا مرتدّين".

ويعزو المحامي السببَ الرئيسي لاقتناع كثير من موكليه بالأفكار التكفيرية، إلى عدم تصنيف الأمن الوطني لهم وفرزهم قبل تسكينهم في السجون، ووضع "العاطل مع الباطل" دون تمييز بين أصحاب الفكر المتشدد والسلمي والمسجونين غير المسيسين.

يعزّز ذلك ما يتعرّض له المتهمون من "كسرة نفس وشعور بالذل والمهانة" في أثناء التحقيقات في الأمن الوطني، بحسب "المصري" الذي يدافع عن كثير من المتهمين بالانتماء إلى تنظيم "ولاية سيناء"، ويضيف: "يدخل الشاب بعد حفلات التعذيب، يلاقي صاحب الفكر التكفيري يساعده ويتكلم معه، ويقول له "الضابط اللي سب لك الدين ده مش مسلم، اللي عذبك ده كافر".

"ويلاقي هذا استجابة كبيرة لدى كثير من المتهمين في سجون طرة ووادي النطرون وبرج العرب والمنيا شديد الحراسة" وفقا لـ"المصري".




















محاولات الأب لإبعاد نجله عن "الفكر الداعشي" -كما يسمّيه- قابلها الابن بهجوم أعنف "بدأ العنف يتطور أكتر لحد ما قال لي بيني وبينك رصاصة في دماغك، إنت فاكرني لما أخرج هرجع لك تاني؟!".

استند "عمر" في تهديد والده بالقتل إلى تفسيرهم داخل السجن بعضَ النصوص الدينية التي تجعلهم يرون أنفسهم الفئة المؤمنة، وكلَّ من يخالفهم -مهما كان- "يعادي الله ورسوله "، يقول والده.

دُمِّرت علاقة الأب بنجله بعد 4 سنوات من الزيارات المستمرة، انتهت بزيارة كل أسبوعين، يترك الأب لنجله الطعام والأموال دون حديث بينهما "بياخد مني الزيارة والفلوس دون كلام، بيعتبر إن ده حلاله، لأنه شايف إن دمي ومالي حلال له لأني كافر، لكن أنا معاه للآخر حتى لو عضم في قُفّة".









بعد الحكم عليه، انتقل "عمر" إلى سجن وادي النطرون لقضاء ما تبقى من عقوبة 25 عاماً، بعد 3 سنوات ونصف حبساً احتياطياً في سجن "طرة"، وفي نفس الوقت، كان شاب آخر نسمّيه "مصطفى" يترك سجن "طرة" إلى سجن المنيا شديد الحراسة، بعد عدد السنوات نفسه، والتي كانت كافية -بحسب والده- لـ"غسيل مخه" واقتناعه بالأفكار التكفيرية.