ألقاك في الجنة




في التاسعة وخمس دقائق من صباح يوم الأحد 11 من ديسمبر 2016، خرج محمود شفيق محمد مصطفى من العقار رقم 18، شارع سالم حجازي بمنطقة الزيتون، شرق القاهرة، مرتدياً معطفاً أسود طويلاً فوق سترة ناسفة، وبنطلون جينز أزرق.

















بعدها بدقائق، ظهر مرة ثانية أمام الكنيسة البطرسية في منطقة العباسية، وهاتفه على أذنه اليسرى يتحدث مع رفيقيه اللذين أمدّاه بالسترة الناسفة، وأقاما معه آخر 3 أيام في حياته. قبل مكالمته الأخيرة، أرسل عبر برنامج المحادثات المشفَّرة "تليجرام"، رسالة إلى رامي محمد عبد الحميد، مضيفه في القاهرة، يشكره فيها على الإقامة في شقته: "شكراً على حسن الاستضافة، أنا خلاص سافرت، ألقاك في الجنة".











كان عمرو سعد عباس -قائدهم- برفقة أحد أفراد المجموعة، ينتظران قرب مسجد "النور" في شارع رمسيس، للتأكد من تنفيذ العملية التي أدت إلى وفاة 31 وإصابة العشرات من المصلين في الكنيسة.

المصدر: المصري اليوم

المصدر: المصري اليوم


في اليوم التالي للحادث، خلال جنازة رسمية أقيمت للضحايا، أعلن رئيس الجمهورية، عبد الفتاح السيسي، اسم المسؤول عن التفجير.



وبدأت المعلومات تظهر تباعاً عن الشاب الصغير، الذي لم يتجاوز عمره 22 عاماً، والمولود في محافظة الفيوم جنوب القاهرة.

















كان "محمود" -وفقاً لبيانات وزارة الداخلية- واحداً من عشرات الشباب المصريين، الذين سجنوا بعد أحداث 30 يونيو 2013، وما تبعها من صراع سياسي بين جماعة الإخوان المسلمين ومؤيديها من جانب، والسلطات الأمنية المصرية من جانب آخر، عقب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي. وكانت تجربة السجن النقطة الفاصلة في طريق إيمانه بالأفكار التكفيرية.

















في سجن الفيوم العمومي الواقع في المنطقة الصحراوية لمركز "دمو"، على الطريق المؤدي إلى محافظة بني سويف، التقى محمود العديدَ من المتشددين والعناصر التكفيرية مِمن امتلأ بهم السجن الوحيد في المحافظة، بحسب سجناء سياسيين سابقين، تحدثوا إلينا، شريطة عدم الكشف عن هوياتهم.

















هذا الاختلاط بين المساجين، يخالف القانون رقم 369 لسنة 1956 بشأن تنظيم السجون، ولائحة السجون الداخلية الصادرة عام 1961، والتي تقضي بضرورة تصنيف المساجين بعد دراسة كاملة لحالة كل متهم، النفسية والشخصية والصحية والاجتماعية، ودراسة حالة شاملة لكل مجموعة، لمعرفة كيفية إعادة تأهيلهم.







لكن بحسب المحامي رضا مرعي -الباحث ببرنامج العدالة الجنائية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية- لا تلتزم إدارات السجون في الوقت الحاليّ بالقانون، ويجري تسكين عشوائي للمساجين، يُصنِّف المساجين وفقاً للتهمة، فيُوضع كل المتهمين في قضية محددة في عنبر واحد، دون النظر للاختلافات في الأوضاع الاجتماعية والنفسية والذهنية والصحية.




في المقابل، يرى اللواء محمد نجيب -مساعد وزير الداخلية السابق لقطاع مصلحة السجون- أن تصنيف المسجونين يتمّ على أساس الجريمة، إذ يكون المتهمون في كل عنبر لديهم نفس التهمة، ولذلك تُقسَّم العنابر إلى "عنبر المخدرات، الأموال العامة، السياسيين، وهكذا"، مضيفاً أن كل سجن به لجنة برئاسة المأمور، وعضوية رئيس المباحث، والاختصاصي الاجتماعي، واختصاصي التدريب المهني، مهمتهم تصنيف المساجين ودراسة حالتهم النفسية والاجتماعية.













خلال الفترةالتي قضاها محمود محتجزاً في نهاية 2013 وأوائل 2014، كان سجن الفيوم -المكوَّن من 12 عنبراً، في كل عنبر 18 غرفة، مساحة كل منها 20 متراً- مكدساً بالمساجين من مختلف التيارات الإسلامية. بحسب سجين سابق قضى قرابة 3 أعوام في السجن نفسه: "في كل غرفة بين 18 و24 سجيناً"، وأوضح: "في تلك الفترة لم يكن هناك فصلٌ بين المساجين، الإخوان مع الليبراليين مع التكفيريين، حتى المتهمين في قضايا تظاهر، كنا بنتقابل في التريّض، وفي جلسات المحاكمة".

يعزّز وجود "تكدس" في السجن وعدم الفصل بين المساجين خبرٌ نشرته الصحف في فبراير 2014، أن سجن الفيوم لم تعد طاقته تستوعب مساجين جدد، لكن المظاهرات المطالبة بعودة محمد مرسي كانت في أوج نشاطها، فاستمر توافدُ المتهمين عليه، بحسب محامٍ يعمل في القضايا السياسية بالفيوم.

لم تعلم أسرته ما حدث لابنهم في السجن، لكن مصدراً قريباً من الأسرة، يقول "تحوَّل إلى شخص انطوائي، عصبي، لا يريد أن يحكي عن هذه الفترة".

شهرٌ واحدٌ فصل بين إخلاء سبيل محمود بضمان محل إقامته في 8 من مايو 2014، وبدء امتحانات الثانوية العامة 8 من يونيو، أنهى الامتحانات والتحق بقسم العلوم الطبيعية في كلية العلوم جامعة الفيوم، بعد ذلك رفض حضور جلسات المحكمة، وحُكم عليه بعامين غيابياً في تهمة التظاهر، يقول محامٍ كان قريباً من القضية: "يوم الجلسة جاء محمود أمام باب محكمة جنايات الفيوم، ورفض يحضر، قال لنا (المحامين) مش عايز أرجع السجن تاني".

لم تطلب أسرته إعادة محاكمته، يتطلب ذلك حضوره المحاكمة، فبدأت قوات الأمن تبحث عنه لتنفيذ حكم بالسجن عامين، ونتيجة كثرة اقتحامهم المنزل، رحل محمود عن الأسرة في ديسمبر 2014، حفاظاً على شقيقاته، وفق مصدر مقرب من الأسرة. وأضاف: "كان بيكلِّمنا كل أسبوع أو أسبوعين، لكن ماكانش راضي يقول لنا هو فين".

عامان كاملان، اختفي فيهما محمود عن أنظار كل المحيطين به، ترك خلفه الأسرة، ودراسته في كلية العلوم، ولم يظهر إلا في ديسمبر 2016، وهو يرتدي حزاماً ناسفاً، ويفجِّر نفسه وسط المسيحيين في أثناء صلاة الأحد.

بحسب أوراق القضية كان محمود في تلك الفترة، ينتقل من الفيوم إلى محافظة شمال سيناء، وينضم إلى "ولاية سيناء" فرع تنظيم "داعش" في مصر.





















إلى القاهرة جاء، مساء يوم الإثنين 5 من ديسمبر 2016، من سيناء عبر مرحلتين، الأولى من نطاق قرية الخروبة في شمال سيناء إلى مدينة رأس سدر بمحافظة جنوب سيناء، والثانية تحرَّك فيها من إحدى القرى السياحية في مدينة رأس سدر إلي القاهرة، عبر نفق الشهيد أحمد حمدي، مروراً بمنطقة مصر الجديدة، إلى عمارات العبور بشارع صلاح سالم، ومنها إلى شارع خيري بمنطقة كوبري القبّة، ومنها إلى محيط القصر الجمهوري، وصولاً إلى شارع ترعة الجبل بالزيتون، ثم شارع سالم حجازي، مقر إقامته قبل تنفيذ العملية.


في القاهرة عرف محمود نفسه لمستقبله رامي عبد الحميد باسم "محمد" بحسب تحقيقات نيابة أمن الدولة، لكن "رامي" الذي أُحيلت أوراقه في أبريل 2018، إلى المفتي لإبداء الرأي الشرعي في إعدامه هو وزوجته مع 34 آخرين، وجد أن رقم هاتفه على برنامج "تليجرام"، مسجل باسم "عبد الله".


قبل العملية بيومين، عاين الثلاثة: محمود ورفيقاه "عمرو سعد ووليد أبو المجد" ، موقع الكنيسة مرتين، كان عمرو سعد قائد المجموعة، والذي صدر ضده حكما غيابيا بالإعدام متردداً في إتمام العملية، لعدم معرفته الباب المستخدم في الدخول إلى الكنيسة يوم صلاة الأحد، لكن "محمود" -بحسب اعترافات رفيقه "وليد"- كان متحمساً بشدة لإتمام العملية.



مساء السبت، قبل ساعات من تنفيذ العملية، جهَّز عمرو ومحمود السُترة الناسفة، وقبل النوم، وبحسب أوراق القضية واعترافات المتهمين، اتفق الثلاثة على أن يخرج عمرو سعد أولاً لمراقبة الطريق، ثم وليد، وأخيراً محمود، وحدَّد أسفل كوبري غمرة نقطة التقاء، وهو ما حدث صباح يوم العملية 11 من ديسمبر 2016.



لاحقا، قضت محكمة عسكرية مصرية بالإعدام ضد 17 شخصا بينهم من رامي ووليد حضوريا، وعلى عمرو سعد غيابيا، كما حكمت بالسجن المؤبد لزوجة رامي علاء حسين.

تحرَّك الثلاثة في سيارة "وليد"، من أسفل الكوبري تجاه مبنى الكنيسة، توقَّفوا في شارع رمسيس، نزل محمود من السيارة حسب الخطة، وأكمل طريقه بتاكسي حتى وصل إلى باب الكنيسة، ونفَّذ عمليته.








أُسدل الستار على قصة محمود شفيق التي بدأت من وجوده في سجن الفيوم العمومي في أبريل 2014، لكن في الشهر نفسه كانت قصة شاب آخر نسمّيه "عمر"، تبدأ في سجن استقبال طرة بالقاهرة.