المستشفى الخاص مهرباً
يعمد بعض الراغبين في شراء التقارير الطبية الكاذبة والمزورة إلى الإقامة بمستشفيات خاصة، والاتفاق مع أطباء بها للحصول على مصدقة تقارير يمكن استخدامها ضد خصومهم، يتضح ذلك من تفاصيل قصة حمزة، الذي قال لـ “العربي الجديد”: “أوقفت مركبتي بشكل مخالف للقانون، بعد دقائق توجه شرطي سير نحوي وبدأ بتحرير مخالفة فجادلته محاولا إقناعه بإلغائها، انهال عليّ بالشتائم، مما أدى لوقوع مشادة كلامية بيننا انتهت بالاعتداء عليّ وتقديم شكوى كيدية ضدي في المركز الأمني، معززة بتقرير طبي أولي ادّعى فيه الشرطي إصابته بارتجاج بالدماغ. اخترتُ خلاصي على سنوات السجن، أقمتُ في مستشفى خاص في العاصمة عمان (يحتفظ “العربي الجديد” بالاسم) سبعة أيام بناء على اتفاق بيني وبين طبيب يعمل فيها، زودني بعد ذلك بتقرير طبي تضمن شهادة بخطورة حالتي ومعاناتي من رضوض وكسور مقابل أجر بلغ 1200 دينار أردني”.
“يقول الطبيب الشرعي، همام القطاونة، إن هذه التقارير تتدخل في ميزان العدالة، وتساوي ما بين الجاني و المجني عليه أمام الجهات القضائية والتحقيقية، خاصة عند ذكر إصابات غير موجودة”
|
وفي حادثة أخرى، لجأ شاب إلى مستشفى خاص في العاصمة عمان لينجو من المحاسبة بعد دهسه آخر، إذ استصدر تقريرا يفيد بإصابته بالعمود الفقري وارتجاج بالدماغ، وأنه محجوز بالمستشفى من فترة.
كتب نجل الفقيد على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) مطالبا الحكومة باتخاذ الإجراءات الرسمية بحق الشاب، وفي التفاصيل قال: “المتسبب بالحادث هو طالب جامعي يحمل جنسية عربية كان يقود سيارته بسرعة جنونية، ودهس والدي وفر بعدها من موقع الحادث تاركا أبي ينزف لمدة تجاوزت نصف الساعة، مما أدى إلى وفاته. وقام الشاب حينها بتسليم نفسه إلى سفارة بلاده على الأراضي الأردنية، التي حولته إلى المستشفى الخاص بعد تنسيق، قدم تقريرا طبيا كاذبا للجهات المعنية يفيد بإصابته بالعمود الفقري، وتقريرا آخر يدّعي إصابته بارتجاج بالدماغ”.
يؤكد عماد العبدالات على وجود تجاوزات في بعض المستشفيات قائلا لـ”العربي الجديد”: “يلجأ بعض المتهمين إلى مستشفيات معينة تعطيه تقريرا كاذبا يجعله متضررا، رغم عدم إصابته، لإنقاذه من التوقيف الأمني”.
ويدلل العبدالات على صحة كلامه بواقعة حدثت معه: “أحيانا يدرك الادعاء العام التجاوز، ففي مرة تم انتدابي كطبيب شرعي لمعاينة طرفين وقعت بينهما مشاجرة، تم حجزهما في مشفى، تبين أن شك الادعاء العام في محله، إذ كان أحدهما يعاني من إصابة وتحتاج حالته للمتابعة، أما الآخر فلم يكن يعاني من أية إصابات، وتم حجزه في المشفى بناء على اتفاقه مع طبيب هناك”.
وسيلة للإيقاع بآخرين
يسرد هاني، وهو مدرس سابق في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”، لـ “العربي الجديد”، قصة افتراء أحد الطلبة عليه قائلا: “رفض طالب الخروج من الصف خلال فترة الاستراحة، صدرت منه ردة فعل عدائية وتحدٍّ ضدي. نهرته دون أن أتسبب له بأي أذى. هرب خارج أسوار المدرسة ليعود بعد مدة لا تتجاوز الساعة مع والده، الذي حاول الحديث مع المدير ولم يستطع لانشغال الأخير، فتوجه الوالد إلى مستشفى قريب من المدرسة في منطقة الشونة (بلدة أردنية تبعد عن العاصمة عمان 35 كلم) وجلب منها تقريرا طبيا كاذبا يفيد بوقوع اعتداء على طفله، فاحتُجِزْتُ على خلفيته في مركز السلط الأمني”.
يضيف: “بعد وساطات عديدة تمكنت من الخروج بكفالة، وعند مثولي أمام القضاء أبلغت القاضي بما حصل وقدّم زميل لي شهادته تحت القسم أمام المحكمة بعدم قيامي بالاعتداء على الطالب، ليكون رد القاضي: (أمامي تقرير طبي لا أستطع تجاهله وعدم الأخذ فيه)”. انتهت قضية هاني بصلح عشائري، على ذنب لم يقترفه، مما جعله ينتهي إلى قناعة بأن “القانون قائم على أوراق حتى وإن كانت كاذبة”، متمنيا أن يكون الأطباء أكثر صدقاً وإنسانية”.
تدخّل في ميزان العدالة
يقول الطبيب الشرعي همام القطاونة إن هذه التقارير تتدخل في ميزان العدالة، وتساوي ما بين الجاني والمجني عليه أمام الجهات القضائية والتحقيقية، خاصة عند ذكر إصابات غير موجودة. ولفتت المحامية، لين الخياط، إلى انتشار التقارير الكاذبة، التي تتسبب في عقوبات كبيرة لأبرياء، مشددة على ضرورة وجود مساءلة حقيقية من قبل منظومة العدالة، إضافة إلى وجوب تفعيل دور وزارة الصحة ونقابة الأطباء لتنظيم عملية استصدار التقارير الطبية.
يوضح العبدالات بأن مثل هذه التقارير قد تؤثر على أشخاص من الناحية الجزائية والحقوقية والتعويضية، “فكلما دلت الإصابات، الموصوفة بالتقرير، على أضرار خطرة وشديدة، وبمدة تعطيل أطول، تعرض الشخص المتهم إلى الإحالة إلى محكمة الجنايات الكبرى، يمكن أن يعاقب بعقوبات شديدة”.
ويدعو العبدالات كل من يعرف أطباء يمتهنون هذه الطرق، إلى الإبلاغ عنهم لوزارة الصحة أو نقابة الأطباء أو حتى للجهات القضائية، لإحقاق العدل، “فـمن غير المعقول أن ينام المصاب في السجن، بينما المتهم الحقيقي ينام في مستشفى توفر له خدمات فندق خمس نجوم”، على حد قوله.
يوافق ما قاله العبدالات ما جاء في نتيجة الاستبيان الذي قامت به معدة التحقيق، إذ أكدت 80% من العينة العشوائية، التي استطلع رأيها، أن التقارير الطبية وسيلة فعالة لتبرئة الجاني من أفعاله على حساب المجني عليه.
انتهاك أخلاقيات وقوانين المهنة
تنص الفقرتان “ب” و “و” من المادة الرابعة عشرة، من الدستور الطبي الأردني، على ضرورة التأكد من شخصية طالب التقرير الطبي، إضافة إلى توخي الطبيب الدقة والموضوعية عند إعداده التقرير الطبي، واعتبرت الفقرة “ط” قيام الطبيب بإعطاء تقرير طبي مغرض، أو بقصد المجاملة، خطأ يحاسب عليه. وحظر البند السادس من المادة العاشرة من الدستور الطبي على الطبيب إعطاء أية مصدقة أو تقرير طبي دون أن يسبق ذلك فحص طبي.
ومن جانبه يؤكد الطبيب القطاونة على أن مهنة الطب إنسانية، ومساندة للقضاء ولا بد من إعطائها البينة الطبية الصحيحة للحكم في أية قضية تمس حياة أو صحة الإنسان، ولا يجوز استغلالها لضياع حقوق البشر.
ويصف العبدالات قيام أطباء بإصدار تقارير مقابل أجر مادي بـ”الكارثة” من ناحية أخلاقيات الطبيب ذاته، الذي أقسم على أن يقوم بمهمته بصدق، ويضيف: “إذا قام الطبيب بكتابة معلومة غير موجودة لدى الشخص المصاب، فإنه يقع بفعل يتنافى كليا مع أخلاقيات مهنة الطب ومع الأخلاقيات بشكل عام، ويتعارض مع القسَم الطبي، ويتوجب في هذه الحالة إعادة تأهيل الطبيب وتلقينه أخلاقيات المهنة”.
وبدوره، أشار وزير الصحة ونقيب الأطباء الأردنيين السابق، ممدوح العبادي، إلى وجود أطباء ضحوا بحياتهم ووقتهم وأطفالهم لخدمة الإنسانية، مرجعا ما كشف عنه التحقيق إلى عدم وجود طريقة يتم من خلالها فحص أخلاقيات المتقدمين إلى كلية الطب على حد قوله.
وأوضح العبادي أن محاسبة الطبيب المخالف تتم من قبل القضاء والنقابة وهيئة مكافحة الفساد، التي تحقق بهذه الموضوعات، مضيفا في الوقت ذاته، أن سلطتي الدولة والنقابة لا تستطيعان محو كافة التجاوزات تماما، لكن تعملان على “تجفيف الكثير من منابع هذه التصرفات”، مؤكدا على “ضرورة ألا يكون العلاج بوضع الرأس في الرمل، وترك الأمور تسير على ما هي عليه، بل بمتابعتها يوميا في القوانين والتشريعات والعقوبات واستحداث ما يلائمها”.
وشددت المحامية الخياط على ضرورة وجود رقابة حقيقية على أقسام الطوارئ والمستشفيات عند إصدارها التقارير الطبية، وتحقيق نوع من تنظيم هذا القطاع، حتى لو اضطر الأمر إلى زيادة الكادر، مبينة أن الطبيب يواجه جرم إصدار تقارير مصدقة كاذبة يعاقب عليها بموجب قانون العقوبات، عند إصداره هذه التقارير.
تنص المادة رقم 266 من قانون العقوبات الأردني على أن من أقدم حال ممارسته وظيفة عامة أو خدمة عامة أو مهنة طبية أو صحية أو أية جهة أخرى على إعطاء مصدقة كاذبة معدة لكي تقدم إلى السلطات العامة، أو من شأنها أن تجر لنفسه، أو لغيره، منفعة غير مشروعة، أو تلحق الضرر بمصالح أحد الناس، ومن اختلق بانتحاله اسم أحد الأشخاص المذكورين آنفاً أو زور تلك المصدقة أو استعملها، يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة. وإذا كانت التقارير المصدقة الكاذبة قد أعدت لتبرر الإعفاء من خدمة عامة، أو لتبرز أمام القضاء، فلا ينقص الحبس عن ستة أشهر، وفي الحالة الأخيرة لا يجوز للمحكمة استعمال الأسباب المخففة أو وقف تنفيذ العقوبة. وإذا ارتكب هذه الجريمة أحد الناس خلاف من ذكر في ما سبق فيعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر.
|
التقارير بعد تصديقها من الجهات المختصة (العربي الجديد) |
3 دنانير للتصديق الطبي
قامت معدّة التحقيق بتصديق أربعة تقارير طبية كاذبة في نقابة الأطباء، تفيد التقارير بوقوع اعتداء على معدّة التحقيق، ودُفع مبلغ قدره 12 ديناراً أردنياً (17 دولاراً أميركياً مقابل تصديق التقارير الأربعة)، ولم يكترث الموظف الذي يصادق على التقرير لتقارب تواريخ استصدار التقارير للشخص نفسه أو اختلاف العمر للشخص نفسه، في كل واحد منها، بعد ذلك توجهت معدّة التحقيق إلى مديرية صحة العاصمة عمّان، التي صادقت على التقارير الكاذبة بعد ختم النقابة من دون إلقاء نظرة على مضمونها.
“اكتفت وزارة الصحة بالرد بالقول إنها (لا تصادق على المعلومات الواردة في التقرير، وإنما تصادق على أن الجهة التي منحته مرخصة من قبل الوزارة)”
|
اكتفت وزارة الصحة بالرد على ذلك بالقول إنها “لا تصادق على المعلومات الواردة في التقرير، وإنما تصادق على أن الجهة التي منحته مرخصة من قبل الوزارة، أما المعلومات الواردة في التقرير الطبي فتتحمل مسؤوليتها الجهة المانحة له”. وبحسب رد وزارة الصحة على طلب حق الحصول على المعلومة المقدم من قبل موقع وصحيفة “العربي الجديد”، فإنها لم تستقبل شكاوى تتعلق ببيع أطباء تقارير كاذبة منذ عام 2010 إلى تاريخ كتاب الرد الموافق 24 مايو/أيار 2015، وردت الوزارة عن استفسار حول اللجان التفتيشية من قبل الوزارة على المراكز الصحية والمستشفيات للتأكد من التزامها بالقانون أو تصحيح أوضاع سابقة تخص الأمر، بالقول: “اللجان تشكل وفقا للحاجة”.
وقال مسؤول مديرية ترخيص المهن والمؤسسات الصحية في الوزارة، قاسم رحاحلة، لـ”العربي الجديد”: “ملايين من المراجعين يستصدرون تقارير طبية، ونحن كوزارة لا نستطيع متابعتهم يومياً وملاحقتهم، لكننا لن نتهاون في حال وصلتنا شكاوى عن قيام أطباء بهذا الفعل، ونحن مستعدون للتحقق من التقارير بطرقنا وتحويل الطبيب للنائب العام والقضاء حال ثبت تزييفه الحقائق بالتقرير”.
و”تتمثل رقابة وزارة الصحة بالتفتيش الدوري لضمان الالتزام بشروط الترخيص الممنوحة والمتطلبات الفنية للمؤسسة المرخصة، والتفتيش على المؤسسات الصحية غير المرخصة، إضافة إلى متابعة التفتيش، للتأكد من تنفيذ التوصيات في الزيارات السابقة، لتلافي المخالفات، وتصويب الأوضاع، والتفتيش بناء على شكاوى مقدمة بحق أية من المؤسسات الصحية في القطاع الخاص، أو على المزاولين للمهن الصحية”، بحسب كتاب الرد.
قدمت كاتبة التحقيق طلبا مكتوبا إلى نقابة الأطباء الأردنيين للرد على الحقائق، التي كشفها التحقيق، وبعد وقت طويل من الاتصال مع نقيب الأطباء الدكتور، هاشم أبو حسان، وتقديم الاستدعاء تلقت معدّة التحقيق اتصالا من النقابة، وطلب منها الحضور لعرض استفساراتها على مجلس النقابة، والاتفاق على موعد لأخذ ردهم إزاء مسؤوليتهم من قيام أطباء ببيع تقارير، ودور اللجان التفتيشية.
التقت معدة التحقيق باثنين من مجلس نقابة الأطباء الأردنيين. طلبا في البداية أسماء الأطباء والوثائق، رفضت معدة التحقيق التزاما بأخلاقيات المهنة، مما جعلهم يقولون:” إن أعطيتِنا أسماء الأطباء ممن منحوكم تقارير كاذبة سنجيب، بالإضافة إلى التسجيل الخاص بالأمر، وإن لم يكن فإن التحقيق كذب وغير حقيقي وتشويه للجسم الطبي”.
أحدهما، وهو الطبيب باسم كسواني، عضو مجلس نقابة الأطباء، قال لـ “العربي الجديد”: “كل من يتعدى على الجسم الطبي الأردني سنقاضيه، وخاصة الصحف والمواقع غير الأردنية”. وقد رفضا الإدلاء بادعاءاتهما أمام الكاميرا، ونحتفظ بالتسجيل الصوتي الذي ورد به هذا الرد. تعلق المحامية، لين الخياط، بالقول إن سهولة الحصول على تقارير طبية مزورة، تساعد على فتح المجال لغايات الافتراء على الأشخاص، فيما شدد كل من الطبيبين العبدالات والقطاونة على ضرورة توخي الأطباء الصدق والموضوعية، وتحمل نتائج أية شهادة كاذبة.
Leave a Reply