تحقيق: يونس البياتي
واي نيوز– تخسر الطفلة النازحة دعاء فرصتها في الحياة، مع كل شمس تشرق على مخيم علياوة المحاذي للحدود العراقية الإيرانية، ففي هذا المخيم المنسي، المبني من أقمشة وشوادر بلاستيكية، لم تحصل دعاء ذات الـ11 عاماً على أي نوع من الرعاية الصحية، منذ نزحت مع عائلتها من مدينة الموصل صيف عام 2014، هرباً من تنظيم داعش.
حال دعاء المصابة بتلف حاد في خلايا الدماغ، لا يختلف كثيراً عن حال الطفلة سمر، فهي الأخرى باتت شبه عاجزة عن المشي منذ أن نهش أصابع يديها وقدميها، مرض جلدي نادر أصيبت به بعد وقت قصير من وصولها الى هذا المخيم.
دعاء وسمر ومعهما نحو 640 معاقا ومريضاً بالشلل الرباعي، يتشاركون مع عوائلهم وقرابة 8 آلاف نازح، محنة العيش على حافة الحياة في هذا المخيم النائي، ويواصلون حياتهم بصمت في ظل غياب الخدمات الأساسية مثل الطبابة ومياه الشرب الصالحة للشرب، والتغذية، وانتشار أمراض انتقالية خطيرة مثل حبة بغداد، احمرار العين، والجرب الذي فتك بالمئات من النازحين، رغم ذلك، فهم يفضلون البقاء تحت الخيام المهترئة على الانتقال للعيش في مجمعات الكرفانات “الغرف مسبقة الصنع من الصفيح” التي أقامها محافظ ديالى، أواخر العام 2014.
لا يتعلق الأمر هنا فقط، بإصرار محافظة ديالى على حشر كل عائلتين في كرفان لا تتعدى مساحته 40 متراً فقط، بل أيضا، بفقدان كل مجمعات الكرفانات للخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء، وإنشاء الطرق وشبكات تصريف المياه الثقيلة، برغم مرور أكثر من تسعة أشهر على انتهاء العمل بهذه الكرفانات، وتسلم الشركات المنفذة كل مستحقاتها.
تورط
يتعقب هذا التحقيق، حجم الفساد الذي رافق مشروع إنشاء كرفانات لايواء الآف النازحين العراقيين الفارين من داعش إلى محافظة ديالى، والذي تحول إلى شبهة فساد، تورط فيها مسؤولون كبار في الحكومة العراقية.
أولى هذه الشبهات التي يكشفها التحقيق بالوثائق، إحالة محافظ ديالى عامر سلمان يعقوب المجمعي لمشاريع انشاء 600 كرفان للنازحين، بأسعار تعادل ضعف الأسعار المطروحة في السوق المحلية، ففي حين تصل قيمة الكرفان الواحد بمساحة 40 متراً مربعاً في الإحالة إلى 14 مليون دينار عراقي (12 الف دولار)، بحسب وثائق إحالة المشاريع المعروضة في هذا التحقيق، يؤكد عضو لجنة النزاهة في مجلس النواب العراقي عمار الشبلي، أن التحقيقات التي أجرتها لجنة النزاهة البرلمانية من خلال الاتصال مع شركات متعددة – لم يسمها – عبر المخاطبات والاتصالات الهاتفية والبريد الإلكتروني، وثبت أن الحد الأقصى لأسعار الكرفانات، وبمواصفات كاملة، يتراوح بين 6 إلى 8 مليون دينار عراقي (5 إلى 6.7 الف دولار).
الأمر ذاته يؤكده قائمقام قضاء الخالص عدي الخدران، فقد رفض تسلم الكرفانات المخصصة لمدينته، بعد أن أثبتت لجنة خاصة من مهندسين وخبراء شكلتها الإدارة المحلية، أن الكرفانات لم تكن مطابقة للمواصفات المذكورة في عقود الإحالة، ولا تصلح للسكن، وأن القيمة الحقيقة للكرفان الواحد لا تتعدى خمسة ملايين دينار عراقي (4200 دولار).
يكشف رئيس لجنة النزاهة في مجلس محافظة ديالى، عبد الخالق السعدي، أن مجلس المحافظة تلقى في الفترة التي سبقت إحالة العروض، عروضاً متعددة من شركات أجنبية تتضمن تجهيز المحافظة بكرفانات مؤثثة ومجهزة بخدمات إنارة وتدفئة وتبريد كاملة، بسعر 4.8 مليون دينار عراقي (4 آلاف دولار) للكرفان الواحد.
السعدي يؤكد أن هذه العروض قدمت لمحافظ ديالى عامر سلمان المجمعي، والذي كان مخولاً من قبل الحكومة الاتحادية مع باقي المحافظين العراقيين بإحالة مشاريع الكرفانات مباشرة، لضمان سرعة التنفيذ، لكنه “رفضها”، وأحال المشاريع إلى شركات تابعة لأفراد من أقاربه، وبضعف السعر المعروض.
وتشير الوثائق التي حصل عليها معد التحقيق، أن المجمعي، أحال عقود إنشاء 600 كرفان في محافظة ديالى، إلى ثلاث شركات محلية، يثبت هذا التحقيق أن اثنتين منها، يمتلكها أو يديرها ثلاثة من أبناء أشقاء المحافظ.
أوراق مزورة
أحال المجمعي، وفق كتاب محافظة ديالى المرقم (20347) والمؤرخ في 11/11/2014، عقداً لتجهيز 200 كرفان بقيمة 2 مليار و83 مليون دينار (1.7 مليون دولار)، إلى شركة (سما بعقوبة للمقاولات العامة).
وتشير الوثيقة الصادرة من دائرة تسجيل الشركات في وزارة التجارة العراقية، والمرقمة 28241 والمؤرخة في 23/11/2014، أن كل أسهم شركة سما بعقوبة والبالغة مليار سهم، وبقيمة إجمالية بلغت مليار دينار عراقي (833 الف دولار)، هي مملوكة بالكامل للمدير المفوض للشركة وسام صكبان سلمان، وهو ابن شقيق المحافظ عامر سلمان المجمعي، وأنه بيعت من قبل مالكها السابق عبد الله علوان حسين إلى ابن شقيق المحافظ، في 15/10/2013.
رئيس لجنة النزاهة في محافظة ديالى يبين أن الآلية التي تم من خلالها حصول شركة سما بعقوبة على عقد التجهيز دون ربط ملكية الشركة بابن شقيق المحافظ، هي عن طريق تقديم “أوراق مزورة”، باسم عبدالله، وليس باسم مالكها الحقيقي وسام صكبان سلمان.
غير أن الصكوك التي تم صرفها لصالح الشركة، تثبت ارتباط الشركة بمالكها الحقيقي وسام، فبحسب الصك الصادر من مصرف الرافدين في 21/12/2014، فقد تسلّم علاء صكبان سلمان، شقيق وسام مالك الشركة، والابن الثاني لشقيق المحافظ، الدفعة الأولى من قيمة عقد الكرفانات، والبالغة مليار و725 مليون دينار (1.43 مليون دولار)، وقام بتحويله إلى حسابه المرقم 15508، بعد تجييره من قبل المالك القديم للشركة في اليوم ذاته.
لم يكن وسام وعلاء صكبان لوحدهما من حصلا على عقود لتجهيز الكرفانات من عمهما السيد المجمعي، ففي اليوم ذاته، أحال المجمعي عقدا آخر إلى شركة أجنحة الرامس للمقاولات، والتي يتولى منصب الوكيل الخاص فيها، ابن شقيقه عدنان داود سلمان يعقوب، لتجهيز 200 كرفان، وبقيمة اجمالية بلغت 2 مليار و889 مليون دينار (2,4 مليون دولارا).
وتكشف الوثائق التي حصل عليها معد التحقيق، أن الوكيل الخاص بالشركة، عدنان داود سلمان يعقوب، هو المخوّل بتمثيل الشركة في دخول المناقصات، وإبرام العقود وتوقيعها، وتنفيذ الأعمال الخاصة بهذه العقود، حسب كتاب دائرة الكاتب العدل في مدينة خانقين بمحافظة ديالى، والمؤرخ 8342 في 13/8/2014.
وتؤكد الوثائق، أنّ عدنان تولى مهمة الحصول على خطاب الضمان للمشروع من (مصرف الاقتصاد للاستثمار والتمويل)، وبقيمة 174 مليون دينار (145 الف دولار)، وقام بدفع المبلغ كاملاً من حسابه في المصرف الزراعي التعاوني المرقم 5461، وبموجب صك حمل اسمه الكامل “عدنان داود سلمان يعقوب”.
لم تقتصر شبهة الفساد في ملف كرفانات النازحين، على أبناء اشقاء المحافظ وحدهم، بل شملت أيضا نجله مروان، فبحسب رئيس لجنة النزاهة عبد الخالق العزاوي، كان مروان ضالعاً في ملف الكرفانات بشكل مباشر، عبر تخويله من قبل والده بمتابعة المشاريع.
يؤكد العزاوي أن المحافظ عامر المجمعي، هو من اختار ولده مروان للمسائل المتعلقة بعقود الكرفانات، ويكشف أنه عرض على المحافظ عرضاً تقدمت به شركة محلية لإنشاء الكرفانات بنصف السعر الذي أحيلت بموجبه مشاريع الكرفانات، “لكن السيد المحافظ”، كما يؤكد العزاوي “قال لي إن الموضوع بيد مروان”.
يعترف رئيس لجنة النزاهة العزاوي، وهو ينتمي للكتلة السياسة ذاتها التي ينتمي إليها المجمعي، أنه أبلغ الاخير بأن نجله مروان “ليس موظفا في المحافظة، وفي حال كان موظفاً في المحافظة فهو ليس مهندساً، فكيف تقول لي أن أحكي مع مروان”، ويتذكر العزاوي أنه قال للمحافظ وقتها “يمكنك أن تطلب مني التعامل مع مهندسين أو مسؤولين في المحافظة أو مع مدراء أقسام مسؤولين، أو مع التخطيط أو قسم العقود أو مع لجان فنية تشرف على تلك الكرفانات، أما أن تقول لي أذهب إلى مروان، فأنا لست مستعداً للتعامل مع مروان”.
خارج العراق
طوال مدة إنجاز التحقيق، والتي قاربت الأربعة أشهر، حاول فريق العمل مقابلة عامر سلمان يعقوب المجمعي، لمواجهته بالحقائق التي توصل إليها فريق التحقيق، على الرغم من موافقته على إجراء المقابلة لأكثر من مرة، لم يحضر المجمعي إلى مكتبه في أي من المواعيد التي حددها لفريق التحقيق.
في المرة الاخيرة، أبلغ مدير مكتب المجمعي معد التحقيق، أن المقابلة ألغيت” بسبب انشغال المحافظ”، ووثق فريق التحقيق بتسجيل الفيديو، عملية الغاء موعد المقابلة.
كما لم يتسن لفريق التحقيق، مواجهة نجله مروان عامر المجمعي، ولا أي من أبناء عمومته الثلاثة، بسبب تواجدهم خارج البلاد، وعدم توفر أي وسيلة اتصال متاحة، خصوصاً خلال بدء إجراءات استجواب المجمعي على خلفية الاتهامات بالفساد في مشاريع الكرفانات وإقالته لاحقاً، خلال فترة إنجاز هذا التحقيق.
يؤكد المستشار الحقوقي عماد حسين السامرائي، أن القوانين الخاصة بالسلوك الوظيفي لموظفي الدولة العراقية، تمنع استخدام السلطة الوظيفية لتحقيق مكاسب للمسؤول أو أي من أفراد عائلته حتى الدرجة الرابعة، مستشهدا بأحكام قانون الخدمة المدنية رقم 24 لسنة 1960 المعدل وساري المفعول، وقانون انضباط موظفي الدولة رقم 14 لسنة 1991 بتعديله الجديد بالقانون رقم 5 لسنة 2008.
ووفقا للفقرة (د) من المادة الخامسة من القانون، لا يجوز للموظف العام التدخل، في أي معاملات مالية تدخل ضمن واجباته الوظيفية أو له شأن بأعدادها او إحالتها أو تنفيذها أو استخدام المعلومات الرسمية لأغراض شخصية، وعدم المساهمة شخصياً في المسائل الرسمية التي لها تأثير مباشر أو متوقع في مصالحه المالية أو مصالح (زوجه- زوجته) أو أحد اقربائه إلى الدرجة الرابعة. فيما تشير الفقرة (ط) من المادة ذاتها إلى عدم قبول الهدايا أو طلب المنافع التي يكون غرضها التأثير في حيادية الموظف أو نزاهته والتي تؤثر على أداء واجباته أو الامتناع عنها أو التي تصب في مصلحة أحد أفراد عائلته أو اقربائه إلى الدرجة الرابعة.
وينتقد أمين سر مجلس المحافظة خضر عبد مسلم، إجراءات الحكومة الاتحادية التي منحت المحافظين صلاحية ابرام عقود مباشرة مع الشركات لتجهيز الكرفانات، فهو يرى أن عملية إعطاء الصلاحيات إلى المسؤول أو المحافظ ستدفعه إلى استغلالها، ويتساءل هنا عن السبب الذي يدفع الحكومة إلى عدم تحديد هذه الاجراءات وفقا للقوانين النافذة بشأن احالة العقود الحكومية واعطاء صلاحيات يمكن أن يستغلها المسؤول كيفما يشاء.
يؤكد عضو لجنة النزاهة في البرلمان العراقي عمار الشبلي، أن الأموال التي سرقها الفاسدون، “هي قطعاً خارج العراق”، لكنه يعول على إمكانية استعادة جزء من هذه الأموال مستقبلاً.
يبرر الشبلي، أسباب استشراء الفساد في العراق وعدم ملاحقة الفاسدين خلال السنوات الماضية، بسببين رئيسيين، الأول هو أن تحريك ملفات الفساد قضائياً أو جزائياً، يتم عادة تفسيرها على أنها استهداف للشخصية التي يتم تحريك ملف الفساد ضدها، وأيضا، للمكون الذي ينتمي إليه، إضافة إلى أن قلة القضاة المختصين بقضايا النزاهة – وهم ستة فقط – قياساً إلى الآلاف من ملفات الفساد التي تحال للقضاء سنوياً، وبعضها بملايين الدولارات، يساهم في افلات المتورطين بقضايا الفساد.
يكشف النائب الشبلي، أن كل قاضٍ يتابع سنوياً قرابة 500 دعوى قضائية، فإذا كان الأمر يتعلق بدعوى قضائية “كقضية مفسدي ديالى”، كما يقول الشبلي، فان الموضوع “سيحتاج إلى خبراء، والخبراء سيحتاجون إلى أموال لكي يعرفوا بأن هذه المادة مطابقة أو لا … وربما يأخذ الأمر وقتا طويلاً”.
العدالة تحتاج إلى وقت طويل، هكذا يرى عضو لجنة النزاهة في البرلمان العراقي، الجهة الرقابية الأعلى في البلاد، لكن النازحين في المخيمات يفسرون مطلح “الوقت الطويل” بطريقة مختلفة تماماً، فالوقت بالنسبة لهم يعني المزيد من الشتاءات القاسية ومواسم الحر القاتلة، ومعها المزيد المزيد من العذابات والحرمان والامراض وضياع الحقوق والانتهاكات.
أنجز هذا التحقيق بدعم شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية “اريج”، وبالتعاون مع شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية “تقصي”، وتحت إشراف الزميل محمد الربيعي.
Leave a Reply