لمحافظة ريف دمشق مكبُّ قمامة في منطقة الغزلانية، يعتبره كثيرون اليوم كارثة على محيطه، فهو يتوسط تجمعات سكانية يقطنها عشرات آلاف البشر، وحوله مراكز حكومية، ومزارع عامة وخاصة، ولا تفصله عن مطار دمشق الدولي غير كيلو مترات قليلة.
يقول مدير المركز الثاني لهيئة الطاقة الذرية الذي لا يعبد سوى أمتار قليلة عن المكب “يسبب الدخان المنبعث من حرق المخلفات العضوية في المكبّ أضراراً صحية جدّية لمن يستنشقه بصورة دائمة، فغالباً ما تحوي المخلفات مركبات سامة كالدايوكسين والفورونات المسببة للتسرطن.. إن أعمدة الدخان المتصاعدة من المكبّ لا تتوقف حتى في الأيام الماطرة”.
ويتهم مدير المركز، المهندس فاطر محمد، في شكوى رفعها إلى رئاسة مجلس الوزارء “الجهات الوصائية بأنها بعيدة كل البعد عما يحدث في المكبّ” الذي يشكل المحطة الأخيرة لنحو 1200 طن من قمامة تصله يوميا من 35 مدينة وقرية في محافظة ريف دمشق، حتى بات ينوء تحت جبال من نفايات متخمرة، تنتشر على مساحة خمسمئة دونم.
كما يروي أبو محمد، مختار قرية دير الحجر الملاصقة للمكبّ، قصة طائرة كانت تقل وفداً طبياً فرنسياً، اضطرت مرة إلى تأخير هبوطها بسبب غمامة سوداء كانت تغطي مطار دمشق الدولي، ناتجة عن حرائق المكبّ.
هذه القصة، التي يتناقلها كثير من أهالي التجمعات السكانية المحيطة بالمكبّ، لا يستبعدها المدير السابق لمطار دمشق الدولي، ومدير الطيران المدني حاليا، وفيق حسن. يقول “قد يكون لهذه الحادثة وغيرها أساس من الصحة، فعندما تكون الرياح جنوبية تخيّم ضبابة كثيفة من دخان حرائق المكبّ فوق منطقة المطار، وتشكل خطورة لا يستهان بها على حركة الطيران أثناء عمليتي الهبوط والإقلاع، حيث تسوء رؤية المهابط”. ويضيف “رغم أنه لم تسجل إلى الآن أية كوارث، يجب أن تعالج هذه المشكلة بالسرعة القصوى لما لروائح حرق القمامة من تأثير منفّر على زوار المطار، عدا الأضرار الصحية التي قد تصيب العاملين فيه”.
ولكن إذا كان مرتادو مطار دمشق الدولي يعايشون الآثار السلبية لمكب نفايات الغزلانية ساعات معدودة، فهو “يشكل خطراً دائماً على صحة قرابة خمسين ألف شخص يعيشون في القرى المجاورة للمكب، إضافة إلى العاملين في المزارع المجاورة ومحطات الأبحاث”، بحسب المختار أبو محمد، ومنها محطتي أبحاث الإبل والأبقار الشامية، ومركز قرحتا لتحسين الماعز الشامي، ومركز دير الحجر الزراعي، ومزارع الإدارة الإنتاجية للجيش.
ويؤكد المختار أن كل همِّه خلال السنوات الأربع الأخيرة تركز على متابعة “كارثة” مكبّ الغزلانية لدى الجهات الحكومية المسؤولة.
قصة موت غير معلن
يلاحظ الدكتور عمار الرفاعي رئيس مركز قرية “جديدة الخاص” الصحي المجاورة للمكب “زيادة في حالات السرطان وخاصة سرطانات الجهاز التنفسي بين أهالي القرية خلال السنوات الأخيرة، إضافة إلى ارتفاع في عدد المصابين بالأمراض التنفسية كالربو والتهاب القصبات”، ويقول “الذباب الذي يحط على القمامة يسبب الملاريا واللشمانيا للعديدين، ولدينا عدد متزايد من الأشخاص الذين يتعرضون لعضات الكلاب الشاردة حول المكبّ”.
وفيما يؤكد الرفاعي أن ملاحظاته العملية “تعكس الواقع إلى حد كبير” إلا أنه يقر بعدم “إجراء المركز إحصاءات سريرية دقيقة حول تطور الحالات المرضية لزواره”.
ويحذّر الرفاعي في إحدى شكاواه المرفوعة إلى مديرية صحة ريف دمشق أن “الدخان الناتج عن حرق القمامة في المكب “يسبب أمراضا صدرية ومسرطنة”، ويقول “يجيبوننا بأن نقل المكبّ من مكانه مكلف ماديا، لكننا نتساءل بدورنا: كم يكلف مريض السرطان الحكومة من مال؟”.
وفي ظل غياب أية إحصائيات رسمية حول الأثر الصحي للمكب على السكان، دل استبيان تم توزيعه في القرى المحيطة به أن 77 % من المستطلعة أراؤهم يرون أن الأمراض زادت بشدة بعد إقامة المكب، وجاءت الأمراض التنفسية مثل الربو والخناق في الدرجة الأولى، تلتها السرطانات وخاصة سرطان الرئة، ثم بعض الأمراض الجلدية والهضمية. وذكر مئة شخص من المستطلعة آراؤهم أسماء 22 حالة وفاة بسبب السرطان، بينهم ثلاثة أطفال ماتوا في أقل من سنة.
وكما الدكتور الرفاعي، يلاحظ المراقب الصحي في مركز الغزلانية الصحي فؤاد عوض أن “نسبة الإصابات السرطانية بين السكان ازدادت كثيراً بعد إقامة المكبّ، خاصة في قريتي تل مسكن وجديدة الخاص المجاورتين”.
ويروي عوض، المكلّف من قبل بلدية الغزلانية بالإشراف الصحي على المكبّ حادثة “العثور في إحدى المرات على نحو أربعمائة علبة سردين فاسدة لدى بائعين في قرية دير الحجر، باعها لهم بسعر بخس نباشون ناشطون في المكبّ.
والنباشون في مكب الغزلانية نفر من رجال ونساء وأطفال، لا يندر أن توجد بينهم امرأة حامل، يتسلقون ويغوصون في القمامة، يتزاحمون لملئ أكياسهم بما تجود به القمامة عليهم من بلاستك أو حديد.. . يعملون ليلاً نهاراً، وإذا أنهكوا ناموا في المكان، بل ثمة بينهم من يسكن المكبّ أو جواره.
“إنهم ينقبون عن أشياء ذات قيمة ويعثرون على بعضها، فيشكلون حلقةً دنيا في سلسلة “بزنس” ناشط تعلوهم فيه حلقات” كما يقول المختار أبو محمد، وهم “يعانون حالات مرضية عديدة لكنهم لا يراجعوننا بسبب الجهل، وبينهم نساء حوامل يجب أن يلقحن خمس مرات ضد الكزاز، لكن هذا لا يحصل”، كما يقول الدكتور الرفاعي.
وبال على الحيوان والنبات
يتعدى التأثير السلبي للمكبّ صحة الإنسان ليطال الحيوان والنبات أيضاً.
حيث يشير مدير إدارة بحوث الثروة الحيوانية المجاورة للمكبّ إلى تضرر “عشرات آلاف رؤوس الأغنام والأبقار والإبل والماعز الشامي وأبناء العواس في مراكز ومحطات الأبحاث الحيوانية والنباتية المجاورة”.
وبحسب المدير عدنان الأسعد فإن “أكل الحيوانات أكياس النايلون المتطايرة من السيارات غير المشدَّرة التي تنقل القمامة إلى المكب يسبب لها مرض النفاخ (انسداد الأمعاء) ويؤدي إلى نفوقها”.
ويقول الطبيب البيطري محمد زهير سلام رئيس قسم الصحة الحيوانية في الإدارة ذاتها “أكثر ما يضر الحيوانات هنا انتشار الذباب والتلوث الناتج عن مخلفات القمامة. إنه يصيبها غالباً بالسالمونيلا التي تسبب لها إسهلات حادة وقد تؤدي إلى نفوقها، إضافة إلى الالتهابات الكبدية والمعوية والديدان الشريطية وغيرها”.
ويتحدث رئيس وحدة الارشاد الزراعي في قرية “جديدة الخاص” المهندس الزراعي جمال شماط عن “الدخان المنبعث عن حرق القمامة الذي يسبب اختناقاً للأشجار، فعندما تترسب نواتج الاحتراق على الأشجار وأوراقها تتسبب بتسممها”.
ويشير شماط إلى “مزارع عامة وخاصة في منطقة المكب، كلفت ملايين الليرات، هجرها أصحابها بعد أن ماتت مزروعاتها”.
الرواية من البداية
قبل عام 2006 كان المكبّ عشوائيا، إلى أن تم تنظيمه بموجب دراسة أجرتها شركة تريفالور الفرنسية، ثم عهدت محافظة ريف دمشق منتصف العام ذاته بإدارة المكب إلى شركة ” Ever Clean ” بموجب عقد استثمار لخمس سنوات، يلتزم المتعهد بموجبه بإدارة المكب وفق أسس صحيّة وبيئية سليمة مقابل حصوله على 49 مليون ليرة، إضافة إلى نواتج فرز القمامة.
ولم تمضِ غير أشهر قليلة على توقيع العقد وبدء العمل حتى راحت تظهر وتتفاقم الآثار السلبية الخطيرة للمكب. واليوم يتبادل كل من الشركة المتعهدة والجهات الحكومية المعنية الاتهامات حول المسؤولية عن كل ذلك.
شركةEver Clean .. “كل شيء نظيف”!
وفيما تنص المادة 21 من العقد المذكور أن المتعهد يتحمل جميع الأضرار الناجمة جراء سوء تنفيذ العمل والتعويض عنها، يقول الدكتور يحيى عويضة نائب رئيس مجلس الإدارة في شركة “إيفر كلين” إن شركته “التزمت بكافة شروط عقد استثمار المكب”.
لكنه يضيف “بعد خمسة أشهر من توقيع العقد ومباشرة العمل تزايدت كميات النفايات المرسلة من محافظة ريف دمشق إلى المكب من 530 طناً، كما يرد في العقد، إلى 1600 طن يومياً حتى امتلأ المكب خلال أقل من سنتين. ثم أن هذه النفايات لم تكن منزلية فقط، بل احتوت نفايات صناعية وطبية تحتوي أعضاء بشرية صغيرة ودم وسرنكات”.
ويتهم الدكتور عويضة الحكومة بـ “عدم دعم تطبيق القانون 49 الخاص بالنظافة والذي ينص أحد بنوده على منع النباشين من استخلاص المواد ذات القيمة من القمامة”، ويقول “هذا أيضا حرمنا من وصول أي مادة تأتي إلى الفرز في المحطة التي كلفتنا نحو 65 مليون ليرة سورية ما دفعنا إلى إيقاف العمل فيها”.
ويطالب الدكتور عويضة في كتب رفعها إلى محافظ دمشق ، ورئيس بلدية الغزلانية ، برفع قيمة العقد، وبمنحه فرق سعر المازوت الذي تستهلكه الآليات العاملة في المكبّ بعد أن تضاعف سعر هذه المادة أربع مرات.
ويرى الدكتور عويضة أن الشكاوى من آثار المكب على صحة الإنسان والحيوان والنبات ليست إلا “حالات فردية”، إلا أنه يقر في كتاب ترويسته “عاجل وخطير جدا” أنه لم يعد بإمكان شركته “السيطرة على الحرائق (..) التي باتت مشكلة تواجهنا بشكل يومي، حيث احترقت محطة الفرز، إضافة إلى تأثير الحرائق على مطار دمشق الدولي والقطاعات العسكرية القريبة من المكب والقرى المجاورة والعاملين في المكب”.
وحول الاتهامات بحرق القمامة عمداً تجنبا لتحمل تكاليف طمرها، يقول الدكتور عويضة إن هذا ليس من مصلحته، “فأنا خبير بيئي وأعلم أن هذا النوع من الحرائق يلوث البيئة، ويضر بالمطار والأهالي، لكن ليس باليد حيلة”، ويبرر الحرائق التي تحدث بالقول إنها ناجمة عن “أشعة الشمس أو عن فحم الأراكيل غير المطفأ القادم مع القمامة حيث يشتعل الحريق ويأتي على كامل المكبّ، وكل حريق في المكب يكلفني بين 300 إلى 400 ألف ليرة لإطفائه، وحتى بعد إطفائه يبقى الدخان مدة أسبوع”.
وحول الوضع الحالي للمكب يقول د. عويضة إنه “يضر بسمعتي، فأنا عملت على تأسيس وزارة للبيئة في سورية ثم عملت معاوناً لوزير البيئة نحو عشر سنين. وأنا كرجل بيئة أول في سورية والمنطقة العربية وأدرس علوم البيئية في الجامعة، لا أقبل بهذا الوضع!”.
الرسميون يعيدون الكرة لملعب المتعهد!
بالمقابل يتهم المهندس عبد الكريم جبرا رئيس بلدية الغزلانية، ورئيس لجنة الإشراف المباشر على المكبّ، شركة “Ever Clean” بـ “ارتكاب تجاوزات تسببت وتتسبب بآثار كارثية للمكبّ، وقد تم توجيه أكثر من ثلاثين إنذارا لها”.
من ذلك “إنذار سحب أعمال” بناء على طلب من محافظة ريف دمشق محوّل من مديرية شؤون البيئة فيها حول تعديات الشركة على البيئة. كما أخبرت البلدية محافظة ريف دمشق في كشف تشرين الأول 2008 أن “الشركة لم تقم بتنفيذ الأعمال وفق الشروط المطلوبة”، ووجهت البلدية إنذاراً إلى المتعهد نهاية ذلك الشهر بتنفيذ الشروط الفنية الواردة في العقد، وخاصة “تنفيذ الطمر اليومي لكامل النفايات، وتطبيق الشروط البيئية الخاصة بالمكبّ، وعدم السماح بدخول النباشين إلى المطمر”. ثم رفعت البلدية كتاباً إلى محافظة ريف دمشق بشأن الإجراءات المتخذة بحق شركة “Ever Clean”.
كما يتهم نضال العوايدة رئيس دائرة النظافة في محافظة ريف دمشق الشركة المتعهدة بـ “سوء الإدارة”. ويقول “كذلك على الوحدة الادارية في بلدية الغزلانية مسؤولية في هذا الصدد… نحن لا نتهجم لا على المتعهد ولا على الوحدة الادارية وإنما نحث على تطبيق دفتر الشروط الفنية بحذافيره” .
حيث تنص المادة الأولى من دفتر الشروط على أن “يقوم المتعهد بإنشاء وتشغيل مطمر صحي… على أن يقوم بفرز النفايات قبل طمرها من خلال محطة فرز نظامية مع المحافظة على الشروط البيئية لمنطقة المشروع والمنطقة المحيطة به”، كما تنص المادة السادسة على أن “يقوم المتعهد بتسوير منطقة المشروع بحيث يمنع دخول الآليات والأشخاص والحيوانات إليها”، وأن يتقدم المتعهد بدراسة وتقييم الأثر البيئي للمكب والمحطة، وأن يلتزم بتشجير الموقع”.
وبحسب العوايدة فإن “شيئا من ذلك لم يتحقق”، ويطالب المتعهد بـ “تشغيل محطة الفرز لأنها تخفف أكثر من 30% من حجم القمامة”.
وأقر العوايدة أن “كميات القمامة المرسلة إلى المكب زادت بسبب النمو السكاني، وتحويل قمامة بعض المكبات الأخرى إلى هذا المكب أحيانا”، لكنه أكد أن “إدعاءات المتعهد بعدم حصوله على فروقات الكميات والمازوت باطلة”.
وأشار إلى أنه نتيجة الأوضاع السيئة لمكب نفايات الغزلانية، وجَّه محافظ ريف دمشق بـ “عدم تسليم أعمال النظافة لمتعهدين بعد الآن وتأهيل الوحدات الإدارية للقيام بأعمال جمع القمامة ونقلها والتخلص منها بطرق صحيحة”.
في انتظار فرج الله (غودو)
في كتاب بتاريخ 16 نيسان 2009 تقر وزارة الإدارة المحلية بـ “العديد من الشكاوى حول سوء الإدارة لمكبّ نفايات الغزلانية المستثمر من قبل شركة “إيفر كلين”… ما يتسبب بوجود مشكلة بيئية خطيرة في الموقع”.
وتطلب الوزارة إلحاق المكب بمحافظة دمشق، وتأهيل الموقع كاملاً قبل نهاية النصف الأول من عام 2009 ومعالجة مشكلة الحرائق والدخان في الموقع بشكل دائم.
ومع انقضاء النصف الأول من عام 2009، يرى اسماعيل الجابي مدير مدرسة دير الحجر أن “مكب نفايات الغزلانية لا زال يشوِّه كل أسباب الحياة من حوله، حيث يرزح أبناء آدم من الدراويش في منطقة المكبّ تحت أطنان زبالة غيرهم، وفيما يعلو فوق رؤسهم ضجيج المسؤولين والمتعهدين، فإنهم، ومعهم الحيوان والنبات، ما زالوا يعانون، وبعضهم يموت بصمت”.
Leave a Reply