في غياب الرقابة .. عطارون يتحولون إلى أطباء وصيادلة !!

7 أبريل 2008

ايمن الشوفي

حين تخلّص عبد الله (51 عاما) المصاب بسرطان البروستات من آخر وساوسه بأنه سيحيا أكثر من المقدّر له، كان قد صرف 3 أشهر من حياته دون طائل..تناول خلالها دواء يركّبه احد العطارين داخل مطبخه المنزلي مستخدما ذات الأواني المعدّة لأغراض الطهي في عمل يجرمه القانون.

الدواء العشبي الذي يباع تحت مسمى “للشفاء من كل الأمراض” هو نفس الدواء الذي شرعت “فاديا” المرأة الأربعينية المواضبة عليه لأنها تريد خلاصاً حقيقياً من مرض التصلّب اللويحي (مرض عصبي تناكسي لا علاج شافي له) الملازم لها كظلها.

بحسب العطار الذي تحول من بيع الملابس عام 1997 إلى تركيب الأدوية العشبية مستعيناً بكتب علم النباتات فإن العبوة الكبيرة التي يبيعها ” تحوي 5 أنواع من الأعشاب، والصغيرة 12 نوع من الأعشاب ونوع من العسل وثمنهما 5000 ليرة (100 دولار) تنتهيان بعد 33 يوم من استعمالهما”.

أراد لمطبخه الصغير، عديم التهوية والإضاءة، قليل النظافة كمطبخ أي عازب، أن يصير مصنع دواء ..! فأصبح كذلك.

أما عبد الله وفاديا فهما اثنين من الذين لا يزالون يلقون بمصائرهم إلى 9 محال في البزورية التي تحولت مع الزمن وغفلة الرقابة وضعف التشريعات من بيع البهارات والسكاكر والأعشاب إلى تصنيع أدوية نباتية المنشأ، وصرفها كما لو أن من يفعل ذلك طبيب أو صيدلاني مع أن القانون يمنع ذلك.

وبرأي مدير الشؤون الفنية في وزارة الاقتصاد عبد اللطيف بارودي فإن العمل الذي يقوم به فاروق يندرج ضمن لائحة المخالفات التي يجرمها القانون و”أننا في الوزارة لم نتلّق أي شكاوى بهذا الخصوص لنقفل تلك المحلات وأن ضبط هذه العملية سيتم تنظيمه أكثر حال إنشاء الهيئة الوطنية للغذاء والدواء”. البارودي يعتبر أن: “أي إنسان يعمل في بيته على تركيب الأدوية النباتية يرتكب مخالفة واضحة لجهة غياب الترخيص التجاري والصناعي والإداري والصحي كما ينص القانون 21 لعام 1958″.

ومن بين محلات البزورية التسع التي تبيع أدوية نباتية المنشأ محل واحد فقط يديره منذ سنوات احد خريجي كلية الصيدلة، الذي يقول:” لقد استشرت هذه الظاهرة لدرجة أن 70 % من مبيعات تلك المحلات هي خلطات ومساحيق ذات ادعاءات طبية “.

لكنه يقدّر بأن تلك المحلات تنتج نحو 10 طن سنوياً من الأدوية النباتية ذات الإدعاءات الطبية بقيمة تقريبية قد تصل إلى 13 مليون ليرة (260 ألف دولار).

داخل السوق المقبب.. وخارجه

لا ينعتق سوق البزورية من العتمة المتأتية من سقفه منذ أنشأه والي دمشق مدحت باشاعام 1878 حسب ما يذكر كتاب مرآة الشام لمؤلفه عبد العزيز العظمة. داخله نما سوق مزدهر لبيع الأدوية نباتية المنشأ مع أن القانون يمنع ذلك. وهو أكبر سوق شعبي لتلك الأدوية العشبية المركبة يدويًا كما أنها تنتشر أيضا في محلات قليلة (3 فقط) داخل منطقة الشاغور القريبة من البزورية.

إحدى البزوريات تقدّم تركيبة مؤلفة من كيلو عسل وثلاث ملاعق حبة بركة (الحبة السوداء) ورأس ثوم متوسط الحجم يتم تذويب ملعقة صغيرة من الخليط في كأس حليب بارد تضاف إليه قطعة بحجم حبة البن من المرمكي أو الحتيتة ويواظب على استخدامها ثلاثة أشهر كوصفة ناجعة للشفاء من السرطان، بكلفة 3100 ليرة ( 62 دولار) تتوزع بين 2500 ليرة سعر نصف كيلو عسل و200 ليرة سعر وقية مرمكي و400 ليرة سعر وقيّة الحتيته.

ويقلل د. فواز زند الحديد نقيب صيادلة سورية كثيراً من أهمية هذه الوصفة حيث يقول: “أنه لم يثبت علمياً نجاعة هذه التركيبة في علاج السرطان، وعموماً فإن مريض السرطان في مراحله المتقدمة وبعد أن يثبت له غياب فائدة الأدوية الكيميائية قد يلجأ إلى الطب الشعبي ويقع في فخ الدجالين” ، ومثله يقول د. أحمد قاسم نقيب أطباء سورية: ” ليس لهذه الوصفة خصائص استطبابية لعلاج السرطان، وربما يجربها عن جهل من فقد الأمل بالشفاء”. كما لا يذكر كتاب معجزات الشفاء لمؤلفه محمد عزت محمد عارف (باحث في علم الأعشاب ومنافعها) أي خواص فعالة لمادة العرق السوس في معالجة السرطان.

د. عدنان قشلان الرئيس السابق لقسم النبات في كلية العلوم بحلب كان قد ألقى محاضرة في عيادة الطب الصيني التخصصي بدمشق حول النباتات الطبية والسامة يقول أن: “التجارب والأطباء لم يؤكدوا بعد وجود نباتات فعالة تعالج مرض السرطان”.

بزورية أخرى بدأت منذ سنة تقريباً تبيع دواء تدعي أنه يشفي مرضى السكري حيث تعبئ مسحوقاً نباتياً دون أن تذكر محتواه في “كبسولات طبية” فارغة. في حين تشرح بزورية ثانية لزبائنها مكونات دواء مماثل تبيعه منذ 3 سنوات و هو مؤلف من 12 مادة من بينها الحنظل والترمس لمعالجة السكري وعموماً يتراوح سعر الحبة الواحدة من (3-4) ليرات.

إحدى البزوريات تبيع 100 حبة من دواء علاج السكري معبأ في كبسولات طبية بـ 350 ليرة (7 دولار)، ويقول صاحبها “زبائني من الفقراء ودواء السكري الذي أبيع أرخص من الأنسولين وأنا أعمل مثل الصيدلي حين أضيف كميات محددة من كل عشبة”. وتشدد د. ميسون نصري معاون وزير الصحة على أنه من غير المسموح لمعامل الدواء ومستودعات الأدوية بيع الكبسولات الفارغة للناس العاديين.

وبتاريخ 1162007 قامت مديرية الرقابة الدوائية بتحرير الضبط الوحيد في سجلاتها وكان عن حيازة وبيع بعض مستودعات الأدوية في منطقة باب مصلى وسط دمشق كبسولات طبية فارغة. فيما يصل سعر (فيال) الأنسولين من نوع (هملاين) إلى 730 ليرة (15 دولار) ومتوسط دخل الفرد حسب أرقام هيئة تخطيط الدولة هو4411 ليرة سورية (88 دولار). ونظرياً تدعم الدولة مرضى السكري والتلاسيميا بأن تقدم أدوية هذين المرضين مجاناً. غير أن الحاصل هو انتظار طويل على أبواب المراكز الصحية للحصول مرّة واحدة في الشهر على حقنة أنسولين مجاناً كما تقول ندى (43 عام) إحدى مرضى السكري والتي تراجع المركز الصحي في منطقة “الدويلعة”. نزار (51 عام) وهو مريض سكري ايضاً يضيف :” نضطر أحياناً لشراء الأنسولين من الصيدليات كحل أفضل من انتظار الدور في المركز الصحي والحجة الدائمة لديهم في التأخير هو عدم توفر الكميات المطلوبة من الأنسولين”.

أصولاً لدينا 6 معامل فقط:

وفق القرارات التنظيمية أرقام 5/ت لعام 1998، و40/ت لعام 1998 و17/ت لعام 1997 فإن 6 معامل في سوريا فقط تصنع أدوية نباتية المنشأ بصورة قانونية وتنتج 85 صنف منها، ما عداها فهو غير قانوني وتحت طائلة المساءلة بحسب معاون وزير الصحة. لكن المرسوم التشريعي رقم 12 لعام 1970 يحدد في مادته 49 على نحو دقيق المسؤولية الرقابية وتنص المادة على أن “كل من زاول عملاً طبياً أو صيدلانياً دون أن تتوفر فيه الشروط القانونية التي تخوله الحصول على رخصة بمزاولة هذا العمل يغلق محله ويصادر ما فيه من أدوات وآلات ومواد تتعلق بمزاولة هذا العمل بقرار من وزير الصحة ينفذ فوراً بواسطة النيابة العامة ويعاقب فوق ذلك بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات مع غرامة تتراوح بين 500-1000 ليرة، ويعود لوزير الصحة تحديد جهة النفع العام التي تصرف إليها الأشياء المصادرة”.

وتحصي الصيدلانية نهى زريقي المسؤولة عن الأعشاب والأدوية النباتية في وزارة الصحة 3 معامل مرخص لها لتصنيع أدوية نباتية المنشأ ( أوغاريت والهلال والسلام) جميعها في حلب و3 معامل تصنع أدوية كيميائية ونباتية المنشأ في آن ( البلسم والقنواتي وآسيا).

معمل آسيا بدأ منذ 5 سنوات بإنتاج 5 أصناف من أدوية نباتية المنشأ .”انتكست” ، “تيبون” اثنين منها ، وتذكر عليا الجزائري في إدارة المعمل بأن ” أغلب الأدوية النباتية تكون أسعارها أغلى من الأدوية كيميائية المنشأ بسبب ارتفاع كلف تصنيع المادة النباتية الفعالة مقارنة بكلف تصنيع المادة الفعالة لأدوية كيميائية لها الاستطباب ذاته “. لذا يبيع معمل آسيا شراب “هوستجيل” كمضاد للسعال ب 125 ليرة (2.5 دولار) ، وهو مرخص من شركة ” دنتي نوكس” الألمانية، وتوضح الجزائري بأن المادة الدوائية الفعالة في “الهوستجيل” تكون خلاصة الزعتر وترسلها الشركة الألمانية الأم . فيما تغيب مثل هذه المنهجية والدقة عن عمل العطارين في تركيب أدويتهم وتصف الجزائري ما يبيعونه من أدوية ” بالظاهرة السيئة ” والتي تستوجب معالجة سريعة، وتقدر الجزائري أن إنتاجهم من الأدوية النباتية يبلغ حوالي 10 % من إنتاج الأدوية الكلي للمعمل ربعه يصّدر والباقي يذهب للاستهلاك المحلي، وحسب د.زهير فضلون الأمين العام للمجلس العلمي للصناعات الدوائية فأن حجم الإنتاج المحلي من الدواء يبلغ 500 مليون دولار ينتجها 60 معمل دواء في سوريا أي أن وسطي إنتاج كل معمل يبلغ نحو 8،3 مليون دولار سنوياً، وبالتالي يكون إنتاج معمل آسيا من الأدوية النباتية بحدود 830 ألف دولار سنوياً. وبصورة تقريبية يكون إنتاج المعامل الست المرخصة لتصنيع أدوية نباتية نحو 5 مليون دولار. أي 20 ضعف حجم السوق غير النظامية لتصنيع الأدوية النباتية، وإذا استثنينا رقم التصدير التقريبي والبالغ ربع الانتاج تصبح قيمة ما تنتجه المعامل الست حوالي 4،8 مليون دولار تباع في السوق المحلية وهذا الرقم يمثل 18 ضعف ما تنتجه المحال التي تبيع أدوية نباتية في البزورية .

د. هند سباعي مديرة الشؤون الصيدلية في وزارة الصحة تقول أن: “معامل الأدوية النباتية يتم إنشاؤها كما معامل الأدوية الكيميائية وفق شروط جي أم بي (أسس وممارسات التصنيع الجيد للدواء) لضمان الجودة ولا يسمح بتصنيع الأدوية النباتية إلا بامتياز من شركات عالمية “.

ويحدد القرار التنظيمي رقم 5/ت لعام 1998 نواظم تصنيع وتداول المستحضرات الطبية النباتية، وتشير المادة الثامنة منه إلى أنه: لا يحق لأي فرد أو مؤسسة أن تستورد أو تصدر أو تحضر أو تخلط أو تصنع أو تبيع أو تقدم للبيع أي مستحضر طبي نباتي إلا بعد أن يتم تسجيله لدى وزارة الصحة تبعاً لأحكام هذا القرار. وتنفي د . نصري أن يكون أيّ من العطارين أو سواهم ممن يدعي اكتشاف أدوية نباتية بأنه سجّل دواءه لدى الوزارة. وتكشف المادة العاشرة من القرار التنظيمي رقم 40/ت لعام 1998 الصادر عن وزارة الصحة الحالات المخالفة للشروط العامة والفنية لصناعة وتخزين المستحضرات الصيدلانية النباتية فتشمل عدم توفر المعلومات المطلوبة على العبوة أو عدم تطابقها مع التسجيل والترخيص وعدم تطبيق الشروط الصحية الواردة في القرار رقم 17 لعام 1997 وكذلك عدم تطبيق قواعد الممارسة الجيدة في تصنيع وحفظ المستحضرات الصيدلانية النباتية. يرد احد العطارين بانهم “ليسوا مصانع أدوية كي يسجلوا هذه البيانات على عبواتهم ، بل أن ما يبيعونه هو دواء شعبي”.

هل ثمة رقابة فعلاً؟

وزارة الاقتصاد والتجارة لا تعترف بأنها شريك مبادر في رصد هذه الظاهرة وتلقي الملامة كاملة على وزارة الصحة.

عبد اللطيف البارودي مدير الشؤون الفنية في الوزارة يقول: “طالما هناك جهة مختصة ممثلة بوزارة الصحة ومنعاً لحدوث تداخل بين مهام الوزارتين لا نبادر بهذا الشأن إلا إذا طلبت وزارة الصحة ذلك رسمياً، وعموماً موضوع التداوي بالأعشاب محصور بالصحة ولا تمانع وزارة الاقتصاد من إرسال ضابطة عدلية لرصد أي مخالفة إن طلبت وزارة الصحة ذلك”.

ولا يذكر على أي حال د. أنور علي مدير حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد أي شكوى تلقوها من أي مواطن تضرر من تناول أدوية نباتية غير مرخصة .

ويؤكد أنهم لم يقفلوا أي محل في البزورية يبيع أدوية نباتية غير مرخصة أو أنهم حتى أحالوا أحداً إلى القضاء بهذه المخالفة. وهذا لأن وزارة الصحة لم تطلب منهم ذلك في الكتب الرسمية التي ترسلها لهم والتي لا تتعدى إعلامهم بوجود “بابونج وقرّاص و بذر عنب وثوم” لإحدى الشركات غير المرخصة التي يملكها القطاع الخاص (الكتاب رقم 3316316 تاريخ 1422007)، أو إعلامهم بوجود خلطات ذات صفة دوائية غير مسجلة في وزارة الصحة (الكتاب رقم 63795063د تاريخ 5112006).

أكثر من تقصير

يبدو أيضاً أن وزارة الصحة الآن عاقدة العزم على إصدار قانون للدراسات الدوائية يتضمن ,كما توضح د. نصري معاون وزير الصحة, كيفية دراسة أي مستحضر دوائي (كيميائي أو عشبي) ابتداءً من اللجنة المشرفة وصولاً إلى المكان المعتمد للدراسة الأمر الذي سيشجع الابتكار والاختراع لكن على أسس علمية.

وحالياً لا تبادر وزارة الصحة وتتحرك بجولات تفقدية إلى الأسواق كي تتيقن من وجود مخالفات لأن د. نصري تقول: “نحن لا نفعل شيئاً إلا إذا اشتكى مواطن أصولاً في وزارة الصحة (بعد وقوع الضرر عليه) فنتابع حينها الشكوى عبر لجان رقابية مختصة وتصادر تلك الأدوية المخالفة بموجب ضبط ثم تسحب وتتلف أصولاً”.

هذه الشكاوى تتلقاها حصراً مديرية الرقابة الدوائية في وزارة الصحة والدوائر التابعة لها. وتبرر د. رجوة جبيلي مديرة الرقابة الدوائية التقصير في ضبط مخالفات الأدوية النباتية غير المرخصة لتداخل عملهم مع وزارة الاقتصاد (التموين سابقاً) ولقلة عدد عناصر لجان الرقابة (4-5) في كل دائرة. أي أن وزارة الصحة تراقب سوق الدواء النظامي وسواه في دمشق بأربع عناصر بشرية فقط، ولا تظهر سجلات الشكاوى في مديرية الرقابة الدوائية خلال الأعوام الثلاث الماضية أي شكوى من أي مواطن تضرر جراء التداوي بأدوية نباتية غير مرخصة.

وتتفاءل د. ميسون نصري معاون وزير الصحة أكثر من أي وقت مضى اذ تتحدث الآن عن مراسلات بين الوزارة و كلية الطب والصيدلة ونقابة الأطباء والصيادلة لتشكيل لجنة مشتركة تنظم مزاولة مهنة التداوي بالأعشاب.. الآن فقط. فيما أنفقت “فاديا” نحو 45 ألف ليرة (900 دولار) لشراء 9 عبوات من إحدى البزوريات دون أن تتحسن، لم تفعل طيلة العام الماضي شيئاً أفضل من كونها اشترت الوهم وبهذا المبلغ.

أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) www.arij.net


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *