عدالة منقوصة.. كيف استُبعد آلاف المصريين من تعيينات النيابة العامة؟

7 أبريل 2022

شتاء 2017، استقل محمود الأمير القطار من أسيوط إلى القاهرة، للتقدم لوظيفة معاون نيابة عامة التي أُعلن عنها في شباط/ فبراير من العام نفسه. كان محمود، خريج كلية الحقوق، ضمن أكثر من 10 آلاف شاب تجمعوا أمام شبابيك دار القضاء العالي لسحب ملفات التقديم.

تخرج محمود من كلية الحقوق بجامعة أسيوط بتقدير عام “جيد جدا” مع مرتبة الشرف، وجاء ترتيبه ضمن العشرة الأوائل في العام 2016 بالكلية، ويقول “لقد كافحت 4 أعوام للحصول على ذاك التقدير أملا في اللحاق بفرصة التعيين بالنيابة العامة”.

اجتاز كل الاختبارات المؤهلة من شراء ملف التقديم بمبلغ 200 جنيه، وإجراء المقابلة الشخصية، انتهاء بالتحريات الأمنية التي تُجرى لمن يتقدمون للعمل بهذه القطاعات، لكنه فوجئ بعدم وجود اسمه بين قائمة المقبولين الواردة في القرار الجمهوري (رقم 166 لسنة 2017) الخاص بتعيينات معاوني النيابة العامة.

ويُكمل الأمير

“كانت صدمة لم أستطع لا أنا ولا أهلي استيعابها”

محمود الأمير واحد من آلاف المصريين الذين حُرموا من حقهم في التعيين بالنيابة العامة لأسباب غير معروفة، بالمخالفة لنصوص الدستور المصري الصادر في العام 2014، إذ تُلزم المادة التاسعة الحكومة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين من دون تمييز، وتؤكد المادة الرابعة عشرة على أن “الوظائف العامة حق للمواطنين على أساس الكفاءة من دون محاباة أو وساطة”.

أو أن بعض هؤلاء حرم من الوظيفة العامة لصالح تعيين المئات من أبناء القضاة، كما يوثق هذا التحقيق “عدالة منقوصة”، الذي كشف عن أن نسبة المُعينيين من أبناء القُضاة بلغت 27 في المئة، خلال السنوات من 2012 حتى 2021 ، إذ عُيِن 1035 معاونًا للنيابة العامة من أبناء وأقارب القُضاة من بين إجمالي 3833 معاونًا جديدًا للنيابة العامة تم تعيينهم، وذلك عبر مراجعات بالأسماء لكل من تم تعيينهم خلال تلك السنوات، هذا ما عدا السهو والغلط.

خريجو كليات الحقوق والشريعة والقانون

4499852897789920203142936192476320182850932017350820161461218984437220144732752342501520122013خريجو كليات الشريعة والقانون/ جامعة الأزهرخريجو كليات الحقوق/التعليم العامالإجمالي

المصدر: بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء من 2012 – 2020

باستثناء جامعات الحقوق في التعليم المفتوح والخاص – تم دمج عامي 2012 و2013 بسبب الفصل السادس الابتدائي

مقابلة التفتيش

يقول محمود الأمير إنه بعد سحب الملف وتقديمه، تُجرى مقابلة يُطلق عليها “التفتيش” ويقوم بها أحد القُضاة المُشرفين، حيث يتأكد من استيفاء ملف المُتقدم للمُستندات والوثائق المطلوبة.

المستندات المطلوبة

– شهادة التخرج المؤقتة مبيناً بها مجموع الدرجات.

– شهادة بتقديرات سنوات الدراسة.

– قيد ميلاد.

– صحيفة الحالة الجنائية.

-صحيفة الحالة الجنائية لوالد المتقدم، وفي حالة سفره يقدم شهادة تحركات من الجوازات، وتعهداً بإرفاق صحيفة الحالة الجنائية عقب وصوله للبلاد وفي حالة وفاته يقدم صورة من شهادة الوفاة.

– قرار من المتقدم بموقفة من التجنيد أو صورة شهادة الإعفاء منه.

– صورة ضوئية من بطاقة الرقم القومي للمتقدم .

– صورة ضوئية من بطاقة الرقم القومي لوالد المتقدم.

– صورة سند الملكية أو بطاقة الحيازة الزراعية إذا كان للمتقدم أو لأسرته أرض زراعية .

– عدد 4 صور “4*6″، حديثة بالملابس الرسمية “البدلة ” بخلفية بيضاء مدون عليها اسم المتقدم .

– شهادة معتمدة من جهة عمل الوالد موضحاً بها وظيفته الحالية والراتب الشهري والمؤهل الدراسي المعين به والمؤهل الحالي إن وجد .

-قيد عائلي لوالد المرشح وللجد لأب والجد لأم وأربع صور من كل قيد .

– الملف، ويطلب من الموظف المختص قبل الموعد المحدد لتقديم الأوراق وذلك نظير سداد 500 جنيها بخزينة مكتب التعيينات .

وظيفة قاضي التفتيش هي التأكد من المستوى المادي والاجتماعي للمُتقدم، من خلال الاطلاع على المؤهل التعليمي للوالد وسندات الملكية ومصادر الدخل، إضافة للمهن التي يعمل بها أخوة المُتقدم ومؤهلاتهم التعليمية، وكذلك الأعمام والعمات والأخَوال والخالات، ثم يُدون كل ما يراه في تقرير يرفعه للجنة المُشرفة، وفيه يُحدد الموقف من المُتقدم إما بالقبول أو بالرفض.

أن يكون متمتعاً بجنسية جمهوري ة مصر العربية وكامل الأهلية المدنية

أن يكون حاصلاً على إجازة الحقوق من إحدى كليات الحقوق بجامعات جمهورية مصر العربية أو على شهادة أجنبية معادلة لها وأن ينجح في الحالة الأخيرة في امتحان المعادلة طبقاً للقوانين واللوائح الخاصة بذلك

اشتراطات التقدم لمعاون النيابة العامة :

أن يكون محمود السيرة حسن السمعة

ألا تقل سنه عن 19 عامًا

ألا يكون قد حُكِمَ عليه من المحاكم أو مجالس التأديب لأمر مخل بالشرف ولو كان قد رُدَ إليه اعتباره

وفقًا للمادة 38 و116 من قانون السلطة القضائية رقم 42 لسنة 1972 وتعديلاته

المقابلة الشخصية

يقول محمود إنه اجتاز تلك الاختبارات الأولية، ثم حُدد له موعد لإجراء الاختبار الثاني “المقابلة الشخصية”، إذ تتم مواجهة المُتقدم بلجنة قضائية، يُطلق عليها “اللجنة السباعية”.

ويُفسر المحامي حازم صبري (يعمل بشكل أساسي على قضايا الاستبعاد من التعيين بالهيئات القضائية)، السبب وراء تلك التسمية قائلاً:” هذه اللجنة تتشكل من 7 مستشارين هم: النائب العام، ورئيس مجلس القضاء الأعلى رئيس محكمة النقض، ورئيسا محكمة استئناف الإسكندرية وطنطا، إضافة إلى أقدم ثلاثة مستشارين بمحكمة النقض”.

ارتدى الأمير في يوم المقابلة الشخصية بذلته السوداء، وربطة عنق اشتراها خصيصًا لهذا اليوم، وانتظر دوره حتى نودي على اسمه ضمن 15 آخرين من المُتقدمين دخلوا جميعًا إلى غرفة ذات إضاءة خافتة.

ثم انتظم المُتقدمون الـ15 صفًا واحدًا أمام طاولة تجمع القضاة السبعة، الذين وجهوا إليهم سؤالا واحدا تم تمريره على الجميع من دون تغيير، يتعلق بأحد المواد القانونية. كل ذلك جرى في غضون دقيقتين أو ثلاث، إذ لا يتخطى الزمن المُحدد للمُتقدم الثواني.

من جهته، يعيب المحامي حازم صبري، على اللجنة السباعية عدم وجود “معايير واضحة” أثناء إجراء عملية الاختيار بين المُتقدمين، قائلاً :”متعرفش التقييم على أساس إيه!”. مدللاً على ذلك بحرمان مُتقدمين ذوي تقديرات مرتفعة من الاختيار، مقارنة بآخرين أقل منهم في التقدير العام وقع عليهم الاختيار.

كما يصف المحامي بمحاكم النقض والدستورية والمُتخصص في قضايا الاستبعاد، غلاب الحطاب، إجراء المقابلة الشخصية وفقًا لذاك النظام المُتبع، في هذه المدة الزمنية القصيرة بأنه “كلام يُجافي المنطق”. قائلا: “لابد من مراعاة فجائية السؤال والموقف، فلا يمكن تقييم شخص حاصل على درجات علمية بتقديرات تتنوع بين امتياز وجيد جدًا، بشهادة أساتذة جامعيين على مدار 4 أعوام في ثوان”.

ويعتقد المحامي غلاب أن لجنة المقابلة الشخصية ليست جهة لتقييم الطالب، فلا هم أساتذة جامعيون ولا أطباء نفسيون للحكم والتقييم، مشيرًا إلى أن كل شاب مُتقدم اجتاز ما يزيد على 20 امتحانا تحريريا وشفويا خلال فترة دراسته، وهذا دليل على تفوقه العلمي.

الاختبار النفسي أو (مرحلة التوريث)

ويستطرد محمود الأمير أنه بناء على نتائج تقارير مقابلة التفتيش والمواجهة الشخصية، يُحدد عدد المقبولين للمرحلة الثالثة في عملية الاختيار وهي “الاختبار النفسي”، التي يُجريها طبيبان متخصصان في المخ والأعصاب. في الاختبار النفسي يُوجّه الطبيبان أسئلة للمُتقدم مثل :”لماذا التحقت بكلية الحقوق؟، ولما تريد أن تكون قاضيًا؟.. وهكذا”.

ويكشف أنه لايصل إلى هذه المرحلة إلا عدد مُحدد، فالاختيارات انتقائية، غالبًا ما تلعب فيها الواسطة دورا، إذ يتم تجاهل أغلب المُتقدمين لصالح أبناء القُضاة والمُستشارين.

ووفقًا لمُراجعات أجريناها لــ3833 اسمًا ورد ذكرهم في قرارات تعيينات النيابة العامة الصادرة عن رئاسة الجمهورية خلال الفترة من 2012 وحتى 2021، اكتشفنا تعيين 1035 شخصا من أبناء وأقارب القُضاة والمستشارين بنسبة بلغت 27 في المئة من إجمالي المُعينيين.

كما أنه خلال المُراجعات التي استمرت لأشهر، ركز معدّ التحقيق البحث عن أقارب المُتقدم من الدرجة الأولى فقط “الأب، والأم، والأشقاء، والأعمام” فقط، تم خلالها توثيق اسم المُتقدم حتى الجد الخامس للتأكيد على روابط الصلة مع القُضاة.

وكان عام 2021 الأكثر في معدل تعيينات أقارب القُضاة بنسبة 34.1 في المئة، أما الأكثر عددا فكان عام 2015 حيث وصل عدد المُعينيين وقتها إلى 182 معاونا جديدا للنيابة العامة، وفقًا لمراجعات معدّ التحقيق.

خريجو كليات الحقوق والشريعة والقانون

13439224.10%12041728.70%0%4718525.40%103426.90%383347115332.48%18279722.80%2021202020182017201620142015201310234130%20192012الإجماليإجمالي المعينين من أبناء القضاة وعائلاتهمالإجمالي العام للمعينين 11147523.30%12548525.70%6027022.20%

من جهته، يعتقد الباحث بالمعهد المصري للدراسات، رجب عزالدين، أن النظرة الوراثية لمسألة التعيين في القضاء تبدو مترسخة في وجدان قطاع كبير من القضاة بشكل لافت حتى صار التصريح بما يدعمها علنيا وبلا مواربة.

ويستدل على ذلك في الدراسة الصادرة عام 2018، بتصريح وزير العدل الأسبق أحمد الزند: ” تعيين أبناء القُضاة سيظل سنة بسنة ولن تستطيع قوة في مصر إيقاف هذا الزحف المقدس إلى قضائها “.

وزير العدل الأسبق أحمد الزند

تعيين أبناء القُضاة سيظل سنة بسنة ولن تستطيع قوة في مصر “إيقاف هذا الزحف المقدس إلى قضائها”

تقول الباحثة في القانون منّة عمر، إن توريث القضاء لأبنائهم وعائلاتهم، لا ينم فقط عن رغبة القُضاة في ضمان وظيفة لذويهم، لكنه إضافة لذلك يعكس رؤية القُضاة لمهنتهم وشعورهم بالعلو والتباهي، ورفضهم أن يُعين بالمهنة كل من هب ودب.

وتُضيف في تقرير لها عبر موقع المفكرة القانونية عام 2014، أن توريث القضاء استقر في منتصف الألفية، حين وجد نظام الرئيس الراحل حسني مبارك رغبة القُضاة في توريث أبنائهم المناصب، وسيلة ناجحة للانقضاض على القضاة “تيار الاستقلال” المُعارضين له، والذين تولوا قيادة نادي القضاة في مصر بين أعوام 2001 و2009.

إذ قام نظام مبارك ردًا على اعتراضات النادي على تعديلات قانون السلطة القضائية عام 2006، بالإضافة إلى مواقفهم المشهورة ضد تزوير الانتخابات البرلمانية عام 2005، باشتراط تقدير “جيد” بدًلا من “مقبول” للتعيين في النيابة العامة، وفقًا للباحثة القانونية.

وتلفت عمر إلى أن تعديل التعيين أتي بثماره، بحيث حمَّل القُضاة، تيار الاستقلال مسؤولية هذا التعديل الماس بمصالحهم في انتخابات النادي عام 2009، ما مهد لفوز المستشار أحمد الزند -من التيار المحافظ- المعروف بتصريحاته حول توريث القضاء بولايته الأولى.

التحريات الأمنية

وبعد اجتياز الاختبار النفسي، يتم إرسال ملف المُتقدم لمديرية الأمن التابع لها، وفقًا لمحمود الأمير. ثم تبدأ مرحلة التحريات الأمنية، حيث تُوضع بياناتك وبيانات أسرتك حتى الدرجة الثانية والثالثة، على جهاز تنفيذ الأحكام للكشف عليها في حال وجود قضايا، وهذا هو الشق الجنائي في عملية التحريات. ثم يأتي دور الأمن الوطني والذي يتحرى عن انتماءات أسرة المُتقدم وميولها السياسية.

لكن المحامي في محاكم النقض والدستورية، غلاب الحطاب، يرى أن النظام المتبع في التحريات الأمنية يُعطيها دورا مُؤثرا، بسبب التوسع فيها، وعدم قصرها داخل نطاق الأسرة الصغيرة “الأب والأم والأخوة فقط”، لأن التوسع في عملية التحريات يضر بالمُتقدم.

ويستند المحامي الحطاب، على الأحكام الصادرة من مجلس الدولة التي أيدت قصر التحريات الأمنية على الأسرة الصغيرة فقط، وعدم الالتفات إلى التحريات الخاصة بالأعمام والأخوال وأبنائهم أو ما يُطلق عليها “الأسرة الكبيرة”.

النهاية.. استبعاد

بعدما اجتاز محمود الأمير كل هذه المراحل، انتظر وجود اسمه ضمن كشوف المقبولين بتعيينات النيابة العامة، لكن اسمه لم يكن موجودًا، وحلت بدلا عنه أسماء أخرى أقل منه في التقدير العام، وفقًا لرواية الأمير.
ويتذكر ميعاد صدور نتيجة القبول، بأنها كانت أحد أيام شهر رمضان، التي لم يستطع إكمال يومه صائما بسبب وقع الصدمة على نفسه. مشيرًا إلى تقدمه بتظلم لمعرفة السبب وراء تخطيه في التعيين، فكان رد اللجنة المشرفة بأنه “لم يجتز المقابلة الشخصية”.

وتتشابه قصة محمود الأمير مع 7 حالات جمعها معدّ التحقيق تم استبعادها من التعيين في الهيئات القضائية “النيابة العامة – مجلس الدولة – هيئة قضايا الدولة”، بسبب عدم اجتياز المقابلة الشخصية، رغم حصولها على تقديرات تتراوح بين جيد جدًا وجيد بنسبة مرتفعة.

يكشف المحامي غلاب الخطاب، أن اللجنة المشرفة على اختيارات النيابة العامة ترفض دوما إطلاع المحامي أو المُتقدم الطاعن على قرار استبعاده على محضر المقابلة الشخصية، مشيرًا إلى أن الرد غالبا ما يكون “المحضر ادشت” أي تم تمزيقه وإتلافه، رغم أن المحامي يطعن خلال 60 يومًا من تاريخ ظهور النتيجة.

أو تدعي اللجنة أحيانا بأن هناك الكثير من الطاعنين الموجودين في المحضر الواحد ولا تستطيع تقديمه لمحامي وحرمان الباقي، وفقًا لغلاب الحطاب، مضيفا: “نطلب منهم نسخ 5 أو 6 صور رسمية من المحضر وختمهم وتقديمهم للطاعنين، لكنها ترفض، وأمام الإلحاح والإصرار، قد توافق هذه اللجنة على إعطاء الطاعن إفادة فقط”.

ويلفت الحطاب إلى أنه خلال السنوات الأربع الأخيرة ابتدع قضاء مجلس الدولة معيارا جديدا للفصل في قضايا الطعن على الاستبعاد من تعيينات النيابة العامة، يقضي بالحكم لصالح الطاعنين إذا كان من أصحاب العشرة الأوائل على دفعته بالكلية سواء الحقوق أو الشريعة والقانون فقط، واستبعاد أي طعن آخر، حتى لو كان صاحبه حاصلا على امتياز مع مرتبة الشرف.

blockquote

فيما ختم محمود الأمير بقوله

مش أرفع دعوى، لأن محدش كسب قضايا خالص، وبالنسبة للتظلمات خدوا عشرة من جامعة أسيوط منهم أربعة أولاد قضاة وستة ضباط شرطة متخصصين