عجز مراكز البحث العلمي بمصر

16 نوفمبر 2011

في مصر‏ 125‏ مركزا بحثيا علميا علي الاقل تابعا لوزارات وهيئات وجامعات رسمية تعمل بدون أدني تنسيق‏,‏ لا يجمعها إلا مكان وهمي اسمه المجلس الأعلي لمراكز ومعاهد البحوث في غياب مظلة جامعة‏,‏ وعدم وضوح في صرف المخصصات المتاحة وهي عشرة أضعاف ماهو مخصص ومعلن‏.‏

في داخل عالم البحث العلمي, الصورة قاتمة, هنا في ضاحية مدينة نصر تجد صروحا بحثية متجاورة, مركز تكنولوجيا الإشعاع والطاقة الجديدة والمتجددة يتبع وزارة الكهرباء, ومعهد بحوث البترول تشرف عليه وزارة البحث العلمي. وحين تهم بالدخول إلي المكان الأخير عليك أن تخفي هويتك كصحفي, وتدعي أنك زائر, حتي لو كان الذي يستقبلك هو الدكتور ماهر السكري المدير السابق لمعهد بحوث البترول, الذي لا يستغرب هذا السلوك. 

حين تسأله عن التكرار والازدواجية في البحث العلمي يضحك بأسي قائلا:’ البحث العلمي الذي قاد دولا مثل ماليزيا والبرازيل للأمام, هو الذي يقودنا للخلف. فليس هناك خطة للمحاسبة أو التوجيه, والباحث يضع نفسه فوق المساءلة’. ويضيف د. السكري:’ لا توجد خطة قومية لمراكز الأبحاث أو للدولة ذاتها في هذا المجال, ناهيك عن رفض الباحثين الالتزام بخطط بحثية وعدم المحاسبة عن مدي تحقيق الأهداف, بل إن الجميع يتباري في تبرير عدم تحقيقها بحجج من قبيل نقص الكيماويات تارة والتمويل تارة أخري والأجهزة تارة ثالثة, وهي كلها حجج واهية’.

ويستطرد قائلا:’ لدينا بالمعهد جهاز أشعةx-ray, ثمنه مليون ونصف المليون دولار, لتحليل التربة والفلزات, وكذلك في المركزين المشار إليهما, وفي المراكز البحثية الأخري. تجري علي الجهاز عينة أو عينتان شهريا, ما يجعل كلفة إجرائها من3 أو4 آلاف دولار, وبالتالي, فإجراؤها في دولة مثل إنجلترا أفضل وأوفر.

نتسلل سريعا لنلتقي بأحد كبار الباحثين في معهد بحوث البترول, فيستقبلنا الدكتور سامي الفرماوي الأستاذ بالمعهد, بابتسامة هادئة.’ مصر ليست دولة غنية حتي تتكرر فيها الأجهزة بهذا الشكل. فالتكرار علي سبيل المثال واضح جدا بين هذا المعهد ومعهد التبين والمركز القومي للبحوث. فجهاز كـxri مثلا يتكرر بالمعهد وبالمراكز القريبة منا, وفي الغالب جهاز واحد هو الذي يعمل بعض الوقت’.

هكذا أوضح الرجل مؤكدا أن’ مشكلة مصر لم تكن أبدا في نقص الإمكانيات, وإنما في إدارتها’, مشيرا إلي أن أحد أسباب نهضة الهند العلمية يتمثل في عدم إهدار الإمكانيات بتكرار الأجهزة.

كاتب هذا التحقيق أثبت في بحثه الميداني نتائج دراسة لوزارة التنمية الإدارية وجدت أن تفرق مسئولية المراكز والمعاهد العلمية بين عدد من الوزارات والهيئات, أفرز ازدواجية في خطط مراكز ومعاهد البحوث’. هذه الدراسة لفتت إلي ظاهرة أخطر, ألا وهي’ أن نظام التقييم في البحث العلمي تحول إلي نظام للحصول علي الترقيات فقط, كما بات يعتمد علي الأبحاث النظرية أو العملية شكلا من دون المضمون, ناهيك عن تفشي ظاهرة الفردية في البحث العلمي’.

وفي استبيان وزعته الأهرام علي عينة شملت127 باحثا بالمركز القومي للبحوث ومعهد بحوث البترول أرجع73% من المستجيبين أزمة البحث العلمي إلي سوء إدارة التمويل المتاح, فيما رأي72.6% منهم أن الموازنة تبدد في أمور لا تفيد الباحثين, و96.4%من العينة أنه لا يوجد تكامل في البحث العلمي, وأكد70.2% غياب التنسيق. وعن مناخ البحث العلمي رأي8.10% أنه معقول و55% في حاجة إلي إعادة هيكلة, و.342% رأوا أنه محبط, وعن التنسيق بين شعب المركز الواحد رأي25% انه يوجد تنسيق, بينما35.7% رأوا أنه لا يوجد تنسيق, فيما40.3% رأوا أنه يوجد تنسيق أحيانا, وعن التشابه في الأبحاث رأي35.7% عن أنه كبير, و43.5% النسبة متوسطة, و20.8% النسبة صغيرة, وعبر57.3% عن وجود أكثر من جهاز في المركز يؤدي نفس الغرض, كما رأي49% منهم أنه يتم إنفاق الكثير من الموارد لشراء أجهزة مكررة.

الاحتكار السبب

في مدينة برج العرب(40 كلم غربي الإسكندرية) يستيقظ د. رضا أبو شنب مبكرا كعادته, يطمئن علي أولاده قبل ذهابهم إلي المدرسة, يتناول إفطارا سريعا, يتأبط حقيبة أوراقه وأبحاثه, وفي دقائق يصل مدينة الأبحاث العلمية( مبارك سابقا). يبدأ يومه كالمعتاد من معمله, يوجه طلابه, يفحص ما تم من تجارب, ثم يصعد إلي الدور الثالث حيث مكتبه, يتابع مشروعه البحثي مع فريق عمل في أكثر من دولة من بينها باكستان والهند وكوريا وأمريكا.

د. أبو شنب, الحائز علي درجتي ماجستير ودكتوراه في الولايات المتحدة وصاحب براءة اختراع دولية منها والذي نال جائزة الدولة التشجيعية هذا العام في العلوم المتقدمة يتألم بشدة من ظاهرة إهدار الموارد بتكرار الأجهزة في مصر:’ معاملنا أفضل كثيرا من معامل دول أوروبية زرتها, ولكن الأولوية هناك لجوهر العمل واستخدامات الأجهزة قبل الاهتمام بتعددها حتي لو كانت نسخا مكررة’.

يرجع أبو شنب تكرار الأجهزة وضعف الإنجاز العلمي إلي’ احتكار باحثين ومراكز للأجهزة العلمية والمعامل’. ويستذكر كيف’ كان المشرف علي أبحاثي في الولايات المتحدة يوجهني للأجهزة سواء كانت في جامعة أو مركز أبحاث, والاثنين ليسا بعيدين عن متناولي’. إلي ذلك يؤكد’ إمكانية تطبيق الآلية ذاتها هنا’.

عشوائية الإدارة

روايات عدة لباحثين ومسئولين حاليين وسابقين, كلها اتفقت علي ظاهرة واحدة, ألا وهي التكرار. ففي مكتب فخم, إلا إنه يقع في مبني طاله القدم ونال منه الإهمال- كحال مبان كثيرة بالمركز رغم أنه يعد أكبر مركز بحثي في الشرق الأوسط- يجلس الدكتور هاني الناظر الرئيس السابق للمركز القومي للبحوث بقلب القاهرة متحدثا:’ لا أحد يدير وهي ماشية بالبركة- أي بعشوائية’, والدليل أن الوزارة التابع لها هي وزارة دولة أي أنها بلا مخصصات في الموازنة. وهذا يعكس محدودية إيمان الدولة بالعلم’. ويستطرد قائلا:’ الأنكي أنه تمت إحالتها إلي مسئولية وزير التعليم العالي, وبالتالي, فهي من وجهة نظر الدولة لا تستحق وزيرا خاصا بها’.

وكأن ما أثاره الناظر لم يكن كافيا لرسم صورة سلبية عن واقع البحث العلمي في مصر, إذ مضي يستكمل هذه الصورة قائلا:’ مراكز البحوث في مصر مبعثرة علي الوزارات المختلفة, ولا يوجد بينها تنسيق أو تكامل إلا فيما ندر, والدليل أننا نجد بحثا في مركز البحوث الزراعية قام به أيضا المركز القومي للبحوث. كما أننا نجد جهازا ثمنه6 ملايين جنيه( فيمتو سكند ليزر) اشتراه المركز القومي للبحوث مع أن نظيرا له موجود بأحد المراكز البحثية الأخري التابعة لإحدي الوزارات( مركز البحوث الزراعية), ولذلك يتم إهدار الملايين نتيجة غياب التنسيق’

د. أيمن الدسوقي رئيس هيئة الاستشعار عن بعد, سبق له العمل بمعهد بحوث الإلكترونيات ثم رئيسا لمعهد بحوث المعلوماتية وهي كلها تابعة لوزارة البحث العلمي. يقول أنه حين يتم إنشاء مركز جديد لا يؤخذ في الاعتبار المراكز الأخري من حيث وظائفها وسد نقص الاحتياجات أو منع تكرارها. الدسوقي يضرب مثالا علي الازدواجية بتلك القائمة بين معهد الإلكترونيات ومعهد المعلوماتية بما يهدر ميزانية البحث العلمي, وهو التكرار الذي يلتهم التمويل.

تشتت الإدارات داخل الوزارة الواحدة

كان السؤال الذي يشغلني وقت إجراء التحقيق هو من أين يأتي التكرار؟!

في مكتبه البسيط بمركز البحوث الزراعية وببشرته الجنوبية يؤكد دكتور محمد عيد عبد المجيد أن:’ عدم التنسيق من الرأس حتي القدمين’. الدكتور عبد المجيد الذي تولي إدارة المشروعات بالمركز منذ شهرين يري أن المشروعات تتعدد وتتكرر, كما تتعدد مصادر تمويلها, ولكن’ تتبدد فاعلية هذه المصادر لثلاثة أسباب: تكرار المشروعات, وعدم وجود جهة تحدد أهمية المشروع من عدمه, وأخيرا, عدم متابعة وزارة التعاون الدولي القائمة علي مسألة التمويل- للمشروعات الممولة, لتعدد الإدارات بالوزارة’.

نتيجة لهذه الازدواجية, فإن باحثا يحصل علي تمويل لمشروع عبر إحدي الإدارات بالوزارة, قبل أن يأتي آخر ليحصل علي تمويل للمشروع ذاته عبر إدارة أخري, وباحث ثالث يحصل علي التمويل عبر إدارة ثالثة, وهو ما اشتكي منه الاتحاد الأوروبي. فمثلا حصل باحث علي تمويل لمشروع إنتاج شتلات خالية من الفيروس بـ6 ملايين جنيه من إيطاليا, وحصل علي تمويل آخر بـ980 ألف جنيه من الاتحاد الأوروبي لنفس المشروع. أما مشروع تحسين إنتاج الذرة الشامية فحصل علي تمويل من الاتحاد الأوروبي بـ900 ألف جنيه, ومشروع آخر لتحسين إنتاج الذرة الشامية حصل علي تمويل بـ4 ملايين جنيه من فرنسا.

وطبقا لتشخيصه, فإن الدكتور عبد المجيد يحدد العلة ليس في نقص التمويل ولكن في غياب الإدارة البحثية والقائمين عليها الذين ليسوا بالضرورة علماء; فأحد مديري وكالة ناسا الأمريكية, جوان هاردن مورجان, كان خريج إدارة أعمال.

ما ينفق عليه عشرة أضعاف ما يعلن عنه!

ميزانية البحث العلمي في مصر تأتي من جيوب مواطنيها متمثلة في نحو0.3% من ميزانية الدولة, أي حوالي506.3 مليون جنيه لعام2011-.2011 نحو85.92 مليون دولار بالإضافة إلي ذلك, هناك عشرات مصادر التمويل الخارجية الأخري التي لا تذكر في الميزانية–10.973.6 مليار جنيه نحو1.844 مليار دولار حجم المنح والهبات من بينها المشروعات البحثية والتعاون العلمي. لذلك يؤكد د. عبد المجيد أن ما يردده البعض عن ضعف ميزانية البحث العلمي هو مجرد’ ضحك علي الدقون تارة, ومحاولة بعض الباحثين للضغط علي الدولة لزيادة مخصصات البحث العلمي تارة أخري’. فالمتاح عشرة أضعاف ما هو مخصص ومعلن’. ويطالب ب’ محاسبة الباحثين علي ما يتم إنفاقه, قبل المطالبة بزيادة الإنفاق’.

سباحة ضد التيار

يقر الدكتور أشرف شعلان رئيس المركز القومي للبحوث بمشكلة تكرار الأجهزة وثقافة العمل عليها. فحين يتسلم باحث جهازا يعتبره أقرب ما يكون ملكا شخصيا له. هذه الممارسات تفضي إلي الإهدار وتآكل ميزانية البحث العلمي في شراء أجهزة غالية وإجراء أبحاث مكررة.

في وزارة البحث العلمي ووسط ضجيج الاعتصامات الفئوية ومطالب الحاصلين علي الماجستير والدكتوراه بالتعيين في الجامعات, التقينا الدكتور ماجد الشربيني رئيس أكاديمية البحث العلمي( أنشئت عام1972 بوصفها الهيئة القومية المسئولة عن العلم والتكنولوجيا في مصر) ومساعد الوزير للبحث العلمي. لا ينفي د. الشربيني تأكيدات كبار الباحثين علي غياب التنسيق وتعدد المرجعيات,ويعترف بأن التكرار موجود منذ زمن, نتيجة أن كل مكان يعمل بمفرده, ووصل الأمر أن الجهاز يوجد مرتين بمعملين متجاورين, مؤكدا أن التكرارعلي مستوي المشروعات والأجهزة العلمية الكبيرة, ويضرب مثالا بمنطقة الدقي, حيث تجد في كل مكان جهاز ألكترون ميكروسكوب وفي هذه الأماكن لا يعمل إلا10% من الوقت, والسبب أن لكل مركز ومعهد ميزانية مستقلة. إلا إنه يجادل بأن الوزارة لا يمكنها التدخل في عمل المراكز البحثية بفرضها نظاما معينا لأن مهمة الوزارة تنحصر بالتنسيق بين المراكز والمعاهد البحثية.

وهو ما يدفعنا لضرورة إعادة النظر في اختصاصات وزارة البحث العلمي وحدود ولايتها علي المراكز البحثية, بحسب ما يقول.

الشاهد, أن هذه القضية التي لم يعرها أحد انتباها علي مدار عشرات السنين كان من بين نتائجها التراجع الشديد في مجال البحث العلمي, وذلك رغم توافر الإمكانيات سواء في التمويل أو الكوادر البشرية والبحثية. فغياب التنسيق والإدارة الرشيدة للموارد أدي ذلك إلي تراجع المشروعات التي نجح باحثوها في تأمين أكثر من مصدر تمويل لها, ناهيك عن تحول العديد منها إلي مجرد وسيلة للحصول علي ترقيات وظيفية.

وبحسب علماء باحثين قابلهم كاتب التحقيق فإن الحل كما تفعل الدول المتقدمة هو وضع المراكز البحثية كلها داخل منظومة تقوم علي إدارتها جهة واحدة, وذلك كي يتحول البحث العلمي إلي مشروع قومي بأهداف استراتيجية بعيدة المدي يتم تحقيقها علي مراحل محددة. ولكن الأخطر هو تخلف مصر في هذا المجال الذي لا يمكن لأي دولة في العالم أن تحتل مكانة مقدرة فيه من دونه

 التحقيق نُفِذ بدعم من شبكة أريج – اعلاميون من اجل صحافة استقصائيه عربية www.arij.net بإشراف الزميل يحيى غانم


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *