تَلقيح على بياض

29 نوفمبر 2022

خياران كلاهما مر، أجبرا رانيا عصام* على الاختيار بينهما. فطبيعة عملها كمعلمة بإحدى المدارس الخاصة، حتمت عليها تلقي لقاح كورونا، لتتمكن من ممارسة عملها، وهو ما اعتبرته تهديدا لحلمها وفرصتها في أن تصبح أما.

وبموجب القرار الوزاري الذي بدأ تطبيقه منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، لا يسمح بدخول أي موظف حكومي لم يتلق لقاح كورونا إلى مقر عمله. تزامن هذا مع تحذير من وزارة التربية والتعليم باتخاذ الإجراءات القانونية ضد أي معلم يعمل في مدرسة حكومية أو خاصة، لم يأخذ اللقاح.

وبالتزامن مع صدور القرار وبداية تطبيقه ثار جدل حول تطعيم السيدات اللائي يخططن للحمل، مثل رانيا، والحوامل والمرضعات، خاصة أن بعض الدول، مثل الإمارات، أعفت الحوامل من تلقي اللقاح في المراحل الأولى لوفوده.

وهو ما تسبب في عزوف رانيا عصام وزوجها عن أخذ لقاح كورونا، خشية حدوث أي أضرار صحية أو مضاعفات قد تؤثر على الحمل الذي يخططان له.

ولم يكلفها قرار الامتناع عن تلقي اللقاح فقدان عملها، فمقابل 600 جنيه فقط (40 دولارا وفق سعر الصرف وقتها)، حصلت رانيا على شهادة تفيد بتلقيها اللقاح، ومارست عملها من دون عائق.

يكشف التحقيق عن لجوء رانيا و10 حالات أخرى، إلى سماسرة، لإصدار شهادات تلقيح صورية من الوحدات الصحية بمقابل مادي، تحايلا على قرارات إلزامية اللقاح داخليا وخارجيا.

في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، أصدر مجلس الوزراء المصري، قرارا بمنع أي موظف حكومي من ممارسة عمله، ما لم يكن قد حصل على اللقاح المضاد لفيروس كورونا المستجد، كما اشترط القرار تقديم المواطنين ما يفيد بتلقيهم اللقاح للسماح لهم بدخول المنشآت الحكومية.

قبل هذا القرار، دار الكثير من الجدل حول مدى أمان وفاعلية اللقاح، خاصة أن بعض الأطباء امتنعوا عن تلقيه، ولكن بعد القرار الوزاري أصبح التطعيم إجباريا.

دفع هذا القرار بأعداد متلقي جرعتي اللقاح من نحو 11 مليونا في نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر إلى 15 مليونا في نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، ليصل الرقم الرسمي لمن حصلوا على اللقاح حتى نهاية شهر تشرين الثاني من عام 2022 إلى أكثر من 40 مليون مواطن، ما يشكل نحو 38.5 في المئة من إجمالي المواطنين.

على الرغم من أن كريم شاهر* ليس موظفا حكوميا، وبالتالي لم تطلب جهة عمله شهادة اللقاح، فإن طبيعة عمله تضطره إلى التردد على المصالح الحكومية التي لن يسمح له بدخولها من دون إشهار كارت “متابعة لقاح كورونا المستجد”.

لجأ شاهر إلى أحد السماسرة للحصول على كارت مختوم يفيد بأنه حاصل على لقاح، ودون عليه بياناته، ليدخل بعدها إلى المصالح الحكومية، وكأنه تلقى اللقاح بالفعل.

رصد معد التحقيق تداول 4 كروت عليها أختام وإمضاءات رسمية، ولكن من دون بيانات مدونة داخلها، أي “على بياض”. وترجع بيانات أختام اثنين منهما إلى وحدة صحية في محيط قصر العيني، بوسط القاهرة، والآخران إلى وحدة صحية في محيط مدينة نصر (شرقا).

وهذه الكروت التي تباع مقابل 200 جنيه (13 دولارا وفق سعر الصرف وقتها)، تتيح لحامليها النفاذ إلى المصالح الحكومية داخل مصر.

وهذا هو السبب نفسه الذي جعل مجرد حمل كارت متابعة لقاح، لا يجدي نفعا في حالة جمال أيوب*

انضم أيوب إلى صفوف العائدين من دول الخليج، إثر تفشي وباء كورونا، وظل طوال عامين يتحين الفرصة ليعود إلى عمله، ولكن آماله اصطدمت بشرط حصوله على اللقاح، ليتاح له السفر مجددا.

تعقدت الأمور في وجه أيوب، إذ أدرج طبيبه حالته ضمن المصابين بحساسية تمنع من تلقي اللقاح، وبالتالي فهو مستثنى من الحصول عليه في مصر، إلا أن شكا راوده في أن ينطبق بهذا الاستثناء على الدولة الأخرى، وبالتالي يفقد فرصته في العودة.

وفرضت كل الدول الخليجية والأوروبية على كل الوافدين تقديم ما يفيد تلقيهم جرعتين من اللقاح الأمريكي أو البريطاني، قبل السماح لهم بدخول أراضيها، مع إلزامية تقديم شهادة فحص PCR في بعض الدول.

في كانون الأول/ ديسمبر 2021، دفع جمال 500 جنيه (33 دولارا وفق سعر الصرف وقتها)، إلى أحد العاملين بمراكز تلقي اللقاح مقابل حصوله على شهادة تؤكد حصوله على لقاح “استرازينيكا”، ووفقًا لجمال، بعد مرور 20 يوما سُجل على منظومة التسجيل التابعة لوزارة الصحة، باعتباره حاصلا على الجرعة الثانية من نفس اللقاح، ليتمكن بعد ذلك من استخراج شهادة الـ QR المعتمدة دوليا، مقابل 200 جنيه (13 دولارا وفق سعر الصرف وقتها)، وهي القيمة الرسمية المعلنة من قبل وزارة الصحة، ليمر بها من المطار من دون أن يشك أحد في أنه لم يتلق اللقاح.

على الرغم من أن بعض هذه الشهادات سليمة شكلا وليست مزورة، فإنه ينطبق عليها ما ينطبق على تزوير المحررات الرسمية، بحسب المحامي المختص في قضايا التزوير عبد الرازق مصطفى، بل تمتد الجريمة أيضا لتشمل الطرفين، الموظف ومن يعاونه ومستخدم الشهادة الوهمية.

ويرى مصطفى أن المادة (116) من قانون العقوبات 58 لسنة 1937 تطبق على الموظف. وتنص المادة أن “كل موظف عام كان مسؤولا عن توزيع سلعة أو عهد إليه بتوزيعها وفقا لنظام معين فأخل عمدا بنظام توزيعها يعاقب بالحبس، وتكون العقوبة السجن إذا كانت السلعة متعلقة بقوت الشعب أو احتياجاته أو إذا وقعت الجريمة في زمن حرب”.

ولا يستثنى حامل الشهادة من العقاب، فيذهب مصطفى إلى أن حامل الشهادة وهو يعلم أنها صدرت بطريقة غير قانونية، يعاقب بالسجن المشدد مدة تتراوح ما بين ثلاث وعشر سنوات، لانطباق المادة (214) من القانون عليه.

المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة، الدكتور حسام عبد الغفار، أكد في تصريحات إعلامية، منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2021، أن ما ضبطته الأجهزة الرقابية من تزوير شهادات تطعيم لقاح كورونا، حولتها الوزارة إلى النيابة العامة للتحقيق فيها باعتبارها جريمة جنائية.

وعلى الرغم من هذا، استمرت إعلانات إصدار شهادات تلقيح صورية، على المجموعات المغلقة على فيسبوك. وهو ما دفع معد التحقيق، لمصاحبة حالة ترغب في إصدار شهادة لقاح صورية، لمعرفة المزيد عن طريقة عمل سماسرة شهادات اللقاح.

تسجيل في غضون دقائق

تواصلت الحالة مع واحد من السماسرة عبر الرقم المنشور في إعلاناته على فيسبوك، مبدية رغبتها في التسجيل على منظومة التسجيل بوزارة الصحة، لإصدار شهادة تتيح لها السفر.

كل ما طلبه المعلن، صورة جواز السفر، مطمئنا الراغبة في إصدار الشهادة، بأن بإمكانها الحصول على الشهادة خلال نصف ساعة فقط من المكالمة، على أن ترسل له 1000 جنيه (52 دولارا)، بعد إجراء العملية.

بعد مرور نصف ساعة، أرسل السمسار رسالة، بها رقم التسجيل على البوابة التابعة لوزارة الصحة، وصورة من قاعدة البيانات الداخلية لوزارة الصحة تظهر أن الاسم مسجل بالفعل، باعتبار أن الحالة قدمت طلب الحصول على اللقاح في 23 آب/ أغسطس 2022، وتلقت لقاح “جونسون آند جونسون”، يوم 4 آب/ أغسطس.

أن يسبق تاريخ تلقي اللقاح تاريخ تقديم طلب الحصول على اللقاح، هو ما أثار الشك، فتواصلت الحالة مع الخط الساخن لوزارة الصحة، ليؤكد صحة المعلومات التي أرسلها السمسار.

وبهذا، بالإمكان التوجه إلى أحد المراكز الصحية لإصدار شهادة QR معتمدة، والسفر بها.

ووفق مصدر داخل وزارة الصحة، لم يتعرض موقع الوزارة المختص بتسجيل المواطنين الراغبين في تلقي لقاح كورونا، لأي اختراق منذ إطلاقه، وكل البيانات المدونة عليه أدخلها موظفو الوزارة.



هذه المعلومة أكدها المتحدث باسم وزارة الصحة الدكتور حسام عبد الغفار قائلا: “الموقع غير قابل للاختراق”.

وعندما طلبنا من عبد الغفار التعليق على ما رصدناه من إصدار السماسرة شهادات صورية للمواطنين بمقابل مادي، وتعاون موظفين في وزارة الصحة مع سماسرة لإصدار شهادات تلقيح، رفض التعليق قائلا: “ليس لدي أي معلومة عن هذا”.

الإخلال بالمنظومة الصحية

تصنف مصر من الدول الآمنة فيما يخص اللقاح، إذ تتوفر 95 جرعة لقاح لكل 100 مواطن.

واشتركت وزارة الصحة في الدراسات التي اختبرت لقاح “سينوفارم” الصيني على 45 ألف حالة من أربع دول، من ضمنها مصر، لتخلص الدراسة إلى فاعلية اللقاح بنسبة 86 في المئة.

بعدها تلقت مصر أول شحنة لقاحات “سينوفارم” في كانون الأول/ ديسمبر 2020، ولكن جدلا كبيرا تنامى حول العالم بشأن فاعلية اللقاح، ووصلت أصداء هذا الجدل إلى مصر.

من هنا تأتي خطورة التسجيل الوهمي لأفراد غير حاصلين على اللقاح، باعتبارهم حاصلين عليه، فوفق الدكتور أمجد الخولي، استشاري الوبائيات بمنظمة الصحة العالمية، فهم معرضون أكثر من غيرهم للإصابة بالفيروس وإصابة المخالطين لهم الذين يحسبون أنهم تلقوا اللقاح، وبالتالي تتضاءل الثقة في اللقاحات.

الأكثر خطورة من هذا، كما يبين الخولي، أن التسجيل الوهمي لتلقي اللقاح، مقابل استمرار تصاعد منحنى الإصابة بكورونا، يعطي مؤشرا مغلوطا لدى متخذي القرار بشأن فاعلية اللقاح.

وينعكس هذا على إحصائيات منظمة الصحة العالمية التي تشير إلى أن أعداد المصابين بكورونا في الأشهر الثلاثة التي تلت تاريخ إلزامية اللقاح في مصر، بلغت ذروتها، بإجمالي 103 آلاف إصابة ما بين كانون الأول/ ديسمبر وآذار/ مارس 2022، وهو ما يشكل نحو 20 في المئة من إجمالي عدد الإصابات في مصر منذ ظهور الفيروس.

يمتد التأثير أيضا إلى مخصصات الدولة المالية لمواجهة الوباء، فقد اقترضت مصر 2.77 مليار دولار أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2020، من صندوق النقد الدولي، لتستطيع التصدي لفيروس كورونا.

واعتمدت وزارة المالية ثلاثة مليارات جنيه، لشراء اللقاحات منذ طرحها حتى آب/ أغسطس 2021، مع رصد ميزانية مفتوحة للقطاع الصحي بحد أدنى 275.6 مليار جنيه في السنة المالية 2022/2021.

وبلغ إجمالي الإنفاق على شراء لقاحات كورونا أكثر من 500 مليون دولار حتى كانون الأول/ ديسمبر الماضي، لتلقيح نحو 52 مليون مواطن.

لذا، فإن نصيب الفرد أكثر من 10 دولارات، ترصد لتلقي اللقاح فعليا وليس وهميا، إلا أن رانيا وكريم وجمال، وغيرهم، قرروا ألا يستفيدوا من حصتهم في اللقاحات، لأسباب متنوعة دفعت سماسرة اللقاحات لاستغلال الوضع والعبث بمنظومة تسجيل اللقاحات.

*أسماء مستعارة