القَبو السِّري للبضاعة "إكس"

19 مارس 2023

انتشار مُنفَلت للعلامات المُقلَّدَة في اليمن

في ضاحية نائية عن العمران شرق مدينة صنعاء، يجثم مبنًى مستطيلٌ ضخم من الطوب المُصْمَت، يعلوه سقفٌ مثلثٌ من الصفيح، وفي الواجهة ينتصب بابٌ معدني، يبدو من بعيد كأنه يبتلع مركبات الشحن التي تدخل المبنى ثم يوصد في إثرها، بينما تخلو جميع الواجهات الخارجية من أي لافتة أو لوحةٍ تعبر عن هوية الكيان المبهم، عدا ما يمكن أن تستشفه بمحض الاقتراب وسماع هدير الآلات، لتعرف أن مصنعًا بالداخل.
كان هذا المكان، مُنتهى الخيط الذي قادنا إليه بحثنا عن مصدر إنتاج أحد منتجات التعقيم المنتشرة في السوق المحلية باسم ديتولز (dettols)، يتم إنتاجه في هذا المصنع التابع لشركة يمنية تدعى “أريج اليمن لصناعات المنظفات المحدودة”، وهو منتج مقلد عن العلامة التجارية الأصلية “ديتول” (dettol) المملوكة للشركة البريطانية ريكيت بنكيزر، مع فارق زيادة حرف (s) نهاية الاسم المقلَّد.

بالتحرِّي عن العلامتين في سجلات وزارة التجارة والصناعة اليمنية التي سُمِحَ لنا بالاطلاع عليها (شرط عدم تصويرها)، وجدنا أن اسم علامة ديتول تم تسجيله رسميًا عام 2014، كما تم تسجيل شكل العلامة عام 2020، عبر مكتب أبو ستة وشركاه (بيانات للملكية الفكرية حالياً)، لصالح الشركة الأصلية المالكة للعلامة، في حين لا وجود لأي توثيق رسمي للعلامة المقلدة ديتولز.

يحدث هذا في الوقت الذي يعيش فيه اليمن حربًا طاحنة منذ عام 2015، طالت تبعاتها مجمل الميادين الحياتية لليمنيين، بما فيها النشاط التجاري الذي غَلَب عليه طابع الانفلات، على نحو انتشرت معه التجاوزات غير القانونية، وفي القلب منها تقليد العلامات التجارية.

معاذ الأغبري، مندوب مكتب “بيانات للملكية الفكرية”، قال -ردًا على سؤالنا عن موقفه حيال تقليد العلامة المُسجَّلة عبر مكتبه- إن تكرار التعدي على علامة ديتول بشكل مستمر؛ جعل الأمور تخرج عن السيطرة، “استمرار التعدي على العلامة اكسبها طابع التداول؛ حاليا نلجأ لحماية الاسم التجاري، أما بالنسبة لديتولز فيعد تقليدًا واضحًا للاسم والعلامة التجارية معًا”.

يُوْضِحُ الأغبري أنَّه من الممكن أن تمارس بعض الشركات أشكالًا من التقليد المشروع، شرط أن يتوفر لها حق الانتفاع بالمنتج من قبل الشركة الأم، لكن حتى اللحظة لا يوجد مصنع يمني مُنِحَ حق الانتفاع بعلامة ديتول، مُبينًا أن نظيرتها المُقلِّدة (ديتولز) غير مسجلة لدى وزارة الصناعة والتجارة، وغير حاصلة على امتيازات من الشركة الأم، حد قوله.

إلى هنا، صارت مهمتنا تقتضي التركيز على معرفة الكيفية التي تتم بها عملية التقليد؛ لذا كان لا بد من إيجاد طريقة للوصول إلى داخل مكان الإنتاج (المصنع)، وبالفعل نجحنا بعد ثلاثة أيام من المحاولة في إقناع مدير المصنع، الذي وافق على السماح لنا بالدخول بوصفنا صانعي محتوى، كما سمح لنا بأخذ جولة داخل المصنع للتعرف على عملية الإنتاج شرط عدم التصوير.

عوضًا عن ذلك، لجأنا إلى طريقة لا تخلو من المخاطرة، وهي التصوير السري باستخدام كاميرا المحمول. كان المصنع مجهزًا بكامل خطوط الإنتاج من آلات مزج المواد الأولية، وصولًا إلى التعبئة والتغليف، ما يعني أن جميع عملية التقليد تتم داخل المصنع الذي تبيّن لنا أنه ينتج عشرات الأنواع من المنظفات غير ديتولز.

خلال حديثنا مع مدير المصنع عن تقليد الاسم والتصميم الصناعي الخاص بعلامة “ديتول”، قال إن المصنع لديه ترخيص رسمي، وعلامة “ديتولز” مسجلة لدى وزارة الصناعة والتجارة، وحين طلبنا أن يعرض علينا الترخيص الذي بحوزته، رفض بشكل قاطع، واكتفى بالتأكيد على أن كل ما يخص الإنتاج في المصنع يتم بشكل قانوني وسليم.

حديث مدير المصنع عن سلامة أموره القانونية رغم وجود تقليد واضح يتعارض مع القانون، كان يَحْتَمِل فرضية وجود تواطؤٍ ما من جانب الجهة الرسمية المختصة بإصدار التراخيص؛ الأمر الذي حَمَلنا على العودة مجددًا للبحث بشكل أوسع حول كل ما يتعلق بشركة “أريج اليمن لصناعات المنظفات المحدودة” في سجلات وزارة الصناعة والتجارة، مع التركيز أكثر على قسم العلامات التجارية.

في هذه المَرَّة عثرنا على العلامة الخاصة بمصنع “أريج اليمن لصناعات المنظفات المحدودة”، ضمن طلبات تسجيل العلامات التي قُدمِت إلى الوزارة وتم رفضها، أي أن المصنع يمارس عمله دون ترخيص، وهو ما يفسَّر خلو واجهاته الخارجية من أي اسم أو علامة تعبر عنه. عثرنا فقط على علامة تجارية تدعى “مايسترو” ، ملكيتها مسجلة بالاسم الشخصي لمدير المصنع، لكن لم يسمح لنا بالتصوير كما في المرة السابقة.

صُنِع في القبو!

العلامة المقلّدَة “ديتولز”، لم تكن سوى واحدة من أصل 61 علامةً تجارية مقلدة عملنا على رصدها خلال تسعة أشهر من العمل على هذا التحقيق؛ الذي يكشف الغطاء عن ظاهرة تجارية غير قانونية، تتعلق بقيام شركات ومعامل داخل اليمن بتقليد علامات تجارية مملوكة لشركات محلية وأجنبية أكثر شهرة، على نحوٍ يهدد التنافس السوقي، ويخدع المستهلك بمنتجات مشكوك في جودتها، وبمعدل انتشار متصاعد.

ما يميز التقليد عن التزوير، أن التقليد لا يجنح للتطابق الكامل، بقدر ما يتعلق بالتعديل الجزئي في هيئة العلامة الأصلية بالمقدار الذي يخلق تضليلًا لدى المستهلك، أي أنَّ فكرة التقليد تتعلق في معظمها بالشكل الخارجي للمنتج، وتحديدًا في الغلاف أو العبوة.

التحريات التي قام بها مُعدا التحقيق حول هذه الجزئية، كشفت عن وجود مصانع ومطابع كبيرة توفر خدمة إنتاج الأغلفة للمقلدين بالشكل المرغوب دون تحفّظات من كونها مقلدة أم أصلية، أي أن العملية قد تتم بالكامل في مكان واحد بالنسبة للمصانع التي تملك خط إنتاج متكامل شأن مصنع “أريج اليمن لصناعات المنظفات المحدودة”، أو قد يشترك فيها أكثر من طرف بالنسبة لأي تاجر هاوٍ يملك رأس مال بسيط ومعملًا في قبوٍ ما.

لبرهنة ذلك، قَادنا البحثُ إلى ناصية في حي الزبيري، جنوب أمانة العاصمة، تُعرف راهنًا بـ”شارع المطابع”؛ تعدُّ إحدى أهم الوجهات التي يقصدها صغار المقلدين وأصحاب المعامل من أجل طباعة الأغلفة.

بزعم كوننا نملك معملًا لإنتاج الشوكولاتة، وقع اختيارنا -بشكل عشوائي- على إحدى تلك المطابع؛ طلبنا تصميم وطباعة ستة آلاف غلاف مطابق لغلاف شوكولاتة (Galaxy)، مع إجراء تعديل بسيط على العلامة الأصلية -لمقتضيات التقليد المضلل وليس التزوير الكامل- بوضع الحرف (F) محل الحرف (G) بنفس نمط ولون الخط.

كان الرد علينا بالإيجاب دون طلب أي ترخيص يثبت ملكيتنا للعلامة، رغم كون العلامة الأصلية مشهورة وقَصَد استغلال رواجها بالتقليد واضحًا.

اتساع البدائل أمام المقلدين في ما يخص التغليف والتعبئة، قد يتعدى الحيز المحلي إلى استعانة قسم من المنتجين/التجار بشركات صينية تقوم بصناعة الرولات والعبوات وفق التصاميم المطلوبة ثم شحنها إلى اليمن، وفقًا لـ صالح سعد المختص في إدارة قسم المنافسة والغش التجاري بوزارة الصناعة والتجارة بصنعاء.

يُلفت سعد إلى وجود عملية تقليد من نوعٍ مختلف تتعلق بقيام أكثر من شركة بالاستحواذ على وكالة ما، وقيامها جميعًا باستيراد نفس المنتج، دون أن تكون العلامة مسجلة باسم أيٍ من تلك الشركات لدى الجهة الرسمية، مع ذلك يمكن للمستورد المسجل للعلامة أولاً، أن يحوز حق احتكارها ولو كان مقلدًا.

وافدون من اقتصاد الحرب

منذ عام 2008، يعمل المحامي عبد الناصر ردمان، نائب مدير مكتب “أبو غزالة” للملكية الفكرية” في اليمن، وهي شركة ربحية مهمتها التدقيق في حقوق الملكية الفكرية، وتقديم اعتراضات قانونية بالوكالة عن شركات أجنبية تعرَّضت علاماتها التجارية للتعدي أو التقليد من جانب تجار أو شركات محلية.

يقول “في السابق كنا نقدِّم إلى القضاء اعتراضين أو ثلاثة على أكثر تقدير في الشهر، لكن منذ 2017 تقريبًا أصبحنا نقدّم شهريًا عشرة اعتراضات على الأقل”.

يعزو ردمان تلك الطفرة المفاجئة إلى التجار الجدد، الذين دخلوا السوق من بوابة اقتصاد الحرب، أو من تهريب المشتقات النفطية وغسيل الأموال وتجارة السلاح؛ بدافع رغبتهم في تنويع نشاطهم المالي دون فهم أو خبرة سابقة لأبجديات العمل التجاري، عدا هاجس تحقيق الربح السريع في فترة أقصر.

البيانات التي وقفنا على رصدها خلال هذا التحقيق، تشير فعلاً إلى زيادة لافتة في عدد قضايا العلامات التجارية التي عُرضت على القضاء التجاري بصنعاء، خلال الفترة ما بين عام 2018 حتى بداية يناير من العام الجاري 2023، بمجموع 1309 قضايا. تم البت في 541 قضية منها فقط، بينما ظلت 768 قضية عالقة في انتظار الحسم.

2018

رُفعت 272 قضية. تم البت في 150 قضية منها، وترحيل البقية لعام 2019.

2019

رفعتْ 272 قضية. تم البت في 91 منها، بينما تم ترحيل بقية القضايا لعام 2020.

2020

رُفعت 306 قضايا. تم البت في 141 قضية، وترحيل البقية لعام 2021.

2021

رفعت 256 قضية تم البت في 108 قضايا بينما تم ترحيل البقية لعام 2022

يناير 2022 حتى بداية يناير 2023

رُفِعَتْ 203 قضايا، تم البت في 51 قضية فقط، بينما ما زالت البقية محل نظر من قبل المحكمة التجارية.

التداول المنفلت للبضائع المقلدة في الأسواق اليمنية، يفصح عن مدى الانفلات الرقابي الذي يترافق مع الواقع الذي أفرزته الحرب الدائرة في البلاد منذ مارس/آذار 2015، وهو ما يُقر به عبد الله شرف مدير عام مكتب نائب وزير الصناعة والتجارة بصنعاء، كما يقر بوجود تَرَخُّص من قِبَل الموظفين في الوزارة إزاء تسجيل بعض العلامات التجارية رغم تشابهها مع علامات أخرى، نظير مقابل يحصل عليه الموظف “من تحت الطاولة”.

في ذات الوقت، يرى أنه من غير المنصف النظر إلى ما يحصل من تجاوزات دون الأخذ في الاعتبار انقطاع مرتبات الموظفين في القطاع العام (منذ أغسطس 2016)، وغياب الميزانية التي توفر للموظف مقابلًا مريحًا، يعصمه من اللجوء إلى قبول الرشوة تحت ضغط الحاجة.

“لو أردنا حل المشكلة بالشكل الصحيح، ينبغي منع تسجيل أي علامة تحمل حتى نسبة 1% من التشابه، لكن ليس من المنطق أن تطلب من موظف أن يداوم في المكتب طوال اليوم دون مستحقات؛ هو يحتاج في المتوسط إلى سبعة آلاف ريال يمني، في اليوم، في حين أن المقابل الرسمي المخصص له أقل من خمسمائة ريال يمني”.

المشكلة ذاتها تنسحب على مندوبي النزول الرقابي، إذْ إن مهمة إيفادهم إلى الأسواق تقتضي -بحسب شرف- دفع مستحقاتهم، بينما لا يتوفر لدى الوزارة الميزانية الكافية “نحن مثلا في الإدارة الجديدة مر علينا أربعة أشهر دون أي مستحقات، وأغلب الإيرادات التي نعتمد عليها تأتي من المجلة (مجلة التجارة)، الممولة من رسوم مسجلي العلامات”.

قانونٌ متين وهامشٌ رخو!

قانونيًا، يُعدُّ الاستخدام غير المصرَّح به لعلامة مسجلة، أو تقليد العلامة ووضعها على البضائع، أو استخدامها بالنسبة للخدمات في نفس الصنف، وبيع البضائع التي تحمل علامة مزورة، أو حيازتها بقصد البيع، أو عرضها للبيع أو استعمال علامة مسجلة أصولا من قبل شخص آخر خلاف المالك؛ بقصد الترويج غير المصرح به لبضائع أو خدمات في نفس الصنف، جرائم يُعاقب مرتكبها بمقتضى المواد 47 و48 و49 و50 من “قانون رقم 23 لسنة 2010 بشأن العلامات التجارية والمؤشرات الجغرافية”.

أحمد اليوسفي، المحامي المتخصص في المرافعات التجارية، قال إن تقليد أي علامة تجارية مسجلة لدى الجهة الرسمية، يعد جرمًا جنائيًا، يُعاقب مرتكبه بالحبس مدة لا تزيد على سنتين، وبغرامة مالية لا تزيد على مليون ريال يمني، أو بإحدى هاتين العقوبتين، وتُضَاعَف هذه العقوبة حال تكرار المخالفة.

يفيد اليوسفي أن القضايا من هذا النوع تندرج في إطار المنافسة غير المشروعة، ولِمالك العلامة الخيار في تقديم الدعوى إلى القضاء الجنائي أو القضاء التجاري.