العلاج المستحيل

16 نوفمبر 2021

صحة اللبنانيين ضحية أخرى للأزمة الاقتصادية

تحقيق: شربل الخوري ونور مخدر

أم بلال، لبنانية تعيش في طرابلس. زوجها مصاب بسرطان الدماغ، وابنها يعاني من شلل كلي منذ الولادة. تضطر أم بلال لتوقيف العلاج الكيميائي عن زوجها، إلى أن تجمع له المبلغ الكامل للجلسة التي يحتاجها مرتين في الشهر. قبل الأزمة كان سعر الجلسة 450 ألف ليرة لبنانية، والآن أصبحت 750 ألفا.

أقوم بجلستين كيميائيتين لزوجي على حسابي، وجلسة على حساب وزارة الصحة، وفي جلسة الوزارة أدفع 350 ألف ليرة، أي حوالي نصف المبلغ

“أم بلال”، مثال على معاناة اللبنانيين في الحصول على الرعاية الصحية في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة منذ عام 2019. أزمة تضاعفت معها تكاليف العلاج والدواء، وأدت إلى تقليص زيارات المرضى للأطباء.

كشفيات الأطباء تقفز الضعف

يتشارك طالبو الرعاية الصحية في هم وحيد: الحصول على معاينة جيدة بسعر معقول. هذه المعاينة باتت مرهونة بالدولار، في حين أن غالبية اللبنانيين يتقاضون رواتبهم بالعملة المحلية (الليرة). ومن كان في الماضي يقصد العيادات الخاصة، بات اليوم عاجزاً عن دفع رسوم كشفيات الأطباء في المستشفيات.

تملك محافظة بيروت أعلى معدل تسعيرة في كشفيات الأطباء قبل الأزمة الاقتصادية. وقد تضاعفت بعد الأزمة بنسبة زيادة 100 في المئة. تليها محافظتا جبل لبنان والبقاع بنسب تغير (107 في المئة و102 في المئة).A Flourish chart

التغير في التسعيرة عكس نفسه على عدد زيارات المرضى لأطبائهم. هذا ما أشار إليه استبيان عشوائي أجراه معد التحقيق شمل 498 شخصاً. 42 في المئة من عينة الاستبيان قالت إن عدد زياراتها قد تناقص بعد الأزمة الاقتصادية. 41 في المئة من هؤلاء يتعالجون في محافظة بيروت، و28 في المئة منهم في جبل لبنان. تفسير ذلك هو أن التسعيرة الطبية مرتفعة بالأصل في هاتين المحافظتين، فهما يملكان أعلى معدل تسعيرة قبل الأزمة (108 آلاف ليرة و72 ألف ليرة) وتضاعفت بعدها.A Flourish chart

“القصة فلتانة”

ما كانت تشهده العيادات الخاصة من زحمة في المواعيد والاستشارات والمراجعات لم يعد موجوداً اليوم. أصبحت تسعيرة المعاينة فيها تتراوح بين 200 إلى 300 ألف ليرة، ما دفع بكثيرين للجوء إلى المستوصفات أو المراكز الرعاية الصحية، التي لا تتعدى تسعيرة المعاينة فيها 20 ألف ليرة.

في المركز الطبي بالجامعة الأميركية في بيروت، ارتفعت المعاينة لأطباء الاختصاص إلى 400 ألف ليرة للزيارة الأولى و225 ألفا للمراجعة بعدما كانت 150 ألفا. في حين تصل المعاينة عند الطبيب النفسي إلى 600 ألف.

لكل طبيب تسعيرته الخاصة والقصة “فلتانة”، يصف رئيس اللجنة الصحية النيابية د. عاصم عراجي. وليس هناك تقيّد بتسعيرة نقابة الأطباء التي تتراوح بين 100- 150 ألف ليرة لبنانية، لذلك تختلف كلفة المعاينة الطبية بين منطقة وأخرى بنظر عراجي. يقول: “الكلفة في المدن وضواحيها مرتفعة أكثر منها في القرى. وعليه، تتراوح التسعيرة في القرى بين 50 – 75 ألف ليرة، في حين أنها ترتفع بشكل مطرد في المستشفيات الجامعية والعيادات الخاصة في المدينة إلى 350 ألف تقريباً”.

“هروب” من المشافي إلى المستوصفات


في منطقة فسوح بالأشرفية بشارع المطران غفرائيل، تقطن سيدتان في بيت يلملمُ آثار انفجار مرفأ بيروت، حيث كُتبت لهما الحياة من جديد. وحيدتان، تحاولان تأمين قوتهما اليومي. تواجه باسكال سعد صعوبة في تأمين أدويتها وأدوية شقيقتها في ظل انقطاعها أو مضاعفة أسعارها عما كانت عليه سابقاً، قائلة: “تعاني شقيقتي البالغة 45 عاماً من مرض الضمور العضلي الذي لا علاج له. يصعب عليها النطق بشكل مفهوم، ونظرها ضعيف، ويصعب عليها ابتلاع الطعام، تتحرك بصعوبة، لكنها ما زالت قادرة على العمل يوم أو يومين في الأسبوع”.

باسكال (51 عامًا) تعاني من مرض الربو الذي زادت حدّته بعد انفجار المرفأ، ما أدى إلى إصابتها بالتهابات رئوية. كانت مسألة تلقي العلاج في إحدى المشافي الخاصة مستحيلة، بعد طلب الإدارة مبلغ 10 مليون ليرة (نحو 6600 دولار).

زاد من الصعوبة، تأخر الوزارة في دفع المستحقات وتسعير فواتير المعاينة ب “الفريش” دولار (دولار نقدي غير محول من حساب يسبق تشرين الثاني/ نوفمبر 2020)، أو غلائها لتصل في عيادات المتخصصين إلى 350 ألف ليرة. في وقت بلغ فيه راتب باسكال 1.7 مليون ليرة شاملة المواصلات. أما عن تحصيل الدفوعات من الجهات الضامنة، فتملك شقيقتها بطاقة شؤون اجتماعية، لكنها لا تعوض كشفية الطبيب، ولا تكفي لدخول المشفى.

إلى جبل لبنان تروي لنا المرأة السبعينية ورد الشامي معاناتها مع السكري والضغط. قبل 5 سنوات، بدأت بتلقي الأدوية. كان الوضع طبيعياً حتى تغير مساره في الأشهر الأخيرة، وسرعان ما فُقد الدواء من الأسواق.

لم تقصد الشامي مركز الرعاية الصحية الأولية في منطقة رأس المتن (قضاء بعبدا) إلا مرة واحدة في الماضي، بسبب اعتيادها على المراجعة في العيادات الخاصة. لكن بعد أن أُقفلت الأبواب بوجهها، وخاصةً في تأمين الدواء، لم يكن أمامها سوى هذا المركز لإنشاء ملف صحي يسمح لها بالحصول على الدواء.

كذلك الحال بالنسبة لابنتها “ربيعة”، إذ توقفت عن تلقي علاجها من “الربو” منذ 6 أشهر بعد تعذر إيجاد الدواء (البخاخ) في الصيدليات .

تفسر رئيسة دائرة الرعاية الصحية الأولية في وزارة الصحة العامة رندة حمادة، تزايد أعداد قاصدي المستوصفات بأنّ تعرفة الخدمات فيها ما زالت شبه رمزية (تتراوح بين 5 إلى 18 ألف ليرة)، ولأن معظمها مدعوم من منظمات دولية. ويستفيد من هذه المراكز -بحسب حمادة- نحو 1.8 مليون شخص سنوياً (بينهم 1.2 مليون لبناني، و600 ألف سوري)، بواقع 6.5 مليون خدمة موزعة بين معاينة ودواء وفحوص طبية.

مركز صحي تابع لجمعية المقاصد – بيروت

مركز صحي تابع لجمعية المقاصد - بيروت
مركز صحي تابع لجمعية المقاصد - بيروت

في مركز الحرج التابع لجمعية “المقاصد” في منطقة البربير (بيروت)، يأتي المرضى باكراً لحجز أدوار لهم، وسط خوف من مغادرة الاختصاصي من دون معاينتهم. مشهدٌ تصفه مديرة المكتب الصحي الاجتماعي المقاصدي، رانيا الزعتري بأنه يدق ناقوس الخطر مع ازدياد في الزيارات يفوق 300 في المئة، “كنا نشوف في الشهر 200 مريض، صرنا نوصل 800 مريض”. يكفي أن يدفع المريض 3 آلاف ليرة لبنانية للاستفادة من المعاينة والدواء. مبلغٌ لا يساوي بعض السنتات لمعاينة طبيبة في عيادة خاصة، بحسب الزعتري.

تقدر القابلة القانونية والممرضة مروة حرب، وصول عدد زائري المستوصف إلى 100 فرد كحدّ أدنى يومياً، ما يرتب معاناة على المركز نتيجة هجرة الأطباء وصعوبة تغطية الفروقات المادية مع الجهات المانحة التي تغطي المعاينة والمستلزمات الطبية.

لا يختلف المشهد في مستوصف انطلياس الطبي (جبل لبنان)، حيث يؤكد صاحبه عصام ميلان أنّ “نسبة توافد الناس إلى المركز زادت بنسبة 3 إلى 4 مرات”. فيما ازداد بواقع 1000 – 1500 شخص في مركز الرعاية الصحية برأس المتن، إذ يكفي الشخص أن يفتح ملفا ليحصل على معاينة من طبيب عام والاستفادة من الخدمات، بحسب رئيسة المركز منى غزال.

246 مستوصفا في لبنان

46تابعة للقطاع الأهلي10تابعة للبلديات4حكومية4تابعة لمؤسسات أكاديمية

مشهد معقد


استنادا لاستبيان أجراه معد التحقيق شمل 82 طبيبا في تخصصات مختلفة ومن شتى المحافظات اللبنانية، فإن 65 في المئة من العينة تؤكد أن عدد مرضاها تناقص في ظل الأزمة الاقتصادية. خصوصا في جبل لبنان، ولبنان الجنوبي، وبيروت، وهي ذات المحافظات التي سجلت أعلى معدل تسعيرة طبية.A Flourish chart

26 في المئة من الأطباء الذين تناقص عدد مرضاهم هم اختصاص أمراض داخلية. فيما 22 في المئة منهم أطباء أطفال، أي حوالي نصف الأطباء في عينة الاستبيان. ما يؤشر إلى أن جزءا من اللبنانيين أصبح يتخلى عن الرعاية الطبية الأولية، بسبب غلاء التسعيرة.

كانت زيادة تعرفة الأطباء غير مقبولة بالنسبة للمرضى، وهذا من أكثر الأشياء التي تزيد من هجرة الأطباء، بسبب استحالة الحصول على المردود السابق الذي كان يجنيه الطبيب، يوضح اختصاصي الطوارئ السابق في مستشفيات لبنانية عدة فراس حلاق.

لا توجد أرقام دقيقة عن هجرة الأطباء، إلا أن شرف أبو شرف، نقيب الأطباء في بيروت يقدر عدد المهاجرين (منذ بداية الأزمة قبل عامين حتى أيلول/ سبتمبر) بنحو 2000 طبيب من أصل 15 ألفا في لبنان، أغلبهم من اختصاصات مهمة، ما يؤدي أحيانا -بحسب أبو شرف- إلى توقف أقسام كاملة عن العمل في المستشفيات بسبب هجرة الأطباء المسؤولين عنها.

ويضيف أن “الدولة ترفض زيادة التعرفة الرسمية للأطباء المتعاقدين معها، وهي 42 ألف ليرة، (كانت تساوي قبل الأزمة نحو 25 دولارا)، فيما لا تساوي اليوم سوى دولارين اثنين”.

خلفية عن الأزمة الاقتصادية

كان سعر الدولار ثابتا لسنوات -وفق سياسات اعتمدها مصرف لبنان مع الحكومات السابقة- على سعر صرف 1515 ليرة للدولار الواحد. بدأت قيمة الليرة بالتغير في السوق السوداء منذ آب/ أغسطس 2019، حيث بلغ الدولار 1530 ليرة، وظل يزداد بوتيرة بطيئة إلى أواخر عام 2019.

شهدت سنة 2020 التدهور الأكبر، إذ ازدادت قيمة الدولار بالنسبة لليرة في هذه السنة حوالي 4 أضعاف. إلى اليوم ما تزال العملة الوطنية تفقد يومياً من قيمتها، ما أدى إلى مشاكل في الصحة والبنى التحتية والنقل، لصعوبة تأمين العملة الصعبة لاستيراد المحروقات والمستلزمات الطبية والأدوية على سبيل المثال.A Flourish chart

هذا الانهيار المالي أثر على الفرد بطريقة مباشرة عبر خسارته أضعاف قدرته الشرائية، فإذا أخذنا مؤشر متوسط دخل الفرد السنوي في لبنان، نجد أنه انخفض من 7,660 دولاراً في عام 2019 إلى 2,745 دولارا في 2020.

معدل التضخم السنوي قفز إلى 84.9 في المئة سنة 2020 بعدما كان 2.9 في المئة في 2019، بحسب دراسة مؤشر أسعار الاستهلاك الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي، أي إنه زاد أكثر من أربعين مرة.

معطيات رشحت أزمة لبنان لأن تكون من بين أكثر عشر أزمات اقتصادية مرت في العالم، وربما تكون من أقوى ثلاث أزمات منذ القرن التاسع عشر، بحسب دراسة للمرصد الاقتصادي اللبناني -تابع للبنك الدولي- في حزيران/ يونيو الماضي.

وترجح الدراسة أن يصبح أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، خصوصاً الأشخاص الذين يقبضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، وهم يشكلون الأغلبية الساحقة من القوى العاملة.

وبينما تحكم الأزمة خناقها على أعناق اللبنانيين، تبدي أم بلال حالة من اليأس إزاء توفير علاج زوجها: “عند كل جلسة أحبط وأقول أريد أن أوقف الجلسات، لكن ضميري لا يطاوعني، لن أوقف له العلاج إلا عندما يقول الطبيب ذلك”.

وبالنسبة لابنها الذي يعاني شللا كليا، فهي تعتمد على التبرعات بعد توقف إحدى المنظمات غير الحكومية عن تزويده ب “الحفاضات”، وتختم حديثها: “سوف أبقى أعالجهم قدر ما استطعت، حتى ولو اضطررت إلى النوم أمام المسجد لجمع النقود اللازمة”.