التعفنات "الإستشفائية" في تونس: قاتل مسكوت عنه

24 يوليو 2012

“Realities” مجلة الحقائق الناطقة بالفرنسية

يتعرض مرضى لدى زيارتهم للمستشفى إلى تعفنات تسببها مكروبات شديدة المقاومة للمضادات الحيوية، قد تودي بحياتهم. مع ذلك ثمّة صمت مطبق حيال مخاطر هذه التعفنات المسماة “بالإستشفائية”. ومن الواضح أن مواصلة تجاهل المشكلة هنا يؤدي إلى تفاقمها في ظل اكتظاظ المستشفيات، ضعف إجراءات النظافة والتعقيم وعدم نجاعة الرقابة الحكومية على هذه المستشفيات.

أواخر أيار/ مايو 2011 في مصّحة سكرة.. الأرضية لامعة، رائحة المطهّر (المعقمات) تملأ المكان. كل شيء يوحي بالنضارة والنظافة بحيث لا يمكن للمرء تخيل أن مريضة توفيت هنا قبل أسبوعين نتيجة إصابتها بتعفن استشفائي.

 الضحية امرأة متزوجة في الثالثة والثلاثين من عمرها تدعى إيناس بن نجيمة، توجّهت إلى المصحة لتخضع إلى عملية تجميل في بطنها انتهت بوفاتها، تاركة طفلين عمرهما سنة و خمس سنوات وزوجا في السابعة و الثلاثين من عمره.

وزارة الصحة أجرت تحقيقا على خلفية تلك الحادثة، خصوصا أن الزوج تقدم بشكوى بهذا الخصوص. وثبت وجود جرثومة  “مثسلين المكورات العنقودية المتعايشة” التي كانت سببا في حصول صدمة إنتانية عند المريضة أدت لوفاتها بعد أسبوع على إجرائها عملية التجميل. تقرير الطب الشرعي، الذي تحصلنا على نسخة منه، أكد هذه النتيجة أيضا. ومن المنتظر أن تسجل قضية في هذا الشأن قريبا.

 شباط 2012 في أحد مخابر التحاليل الطبية في العاصمة.. تطّلع سندة المصمودي، عالمة أحياء، على نتيجة التحليل الذي أحضره  لها أحد معاونيها. وفيه أن مريضا دخل المصحة لعلاج مشكلة في القلب فأصيب بجرثومة معندة هي الكلبسيلة الرئوية، ما تسبب له بتعفن في الدم.

حالة المريض خطيرة الآن، إذ أصيب بالتعفن الإستشفائي منذ أسبوع، وبات مهددا بالموت لأن الأطباء لم يتخذوا الإجراءات اللازمة لإنقاذه بإعطائه المضادات الحيوية اللازمة وعزله.

 ما إن تتطلع سندة على التحليل البيولوجي حتى تسارع للاتصال بالطبيب المعالج الذي لا يجيب نتيجة وجوده في غرفة العناية الحثيثة. فتهاتف زميله شارحة له الموضوع وتطلب منه التدخل بسرعة قبل فوات الأوان.

مثل هذه الحالات من التعفنات الإستشفائية تعترض سندة يوميا، في المصحات التي تتعامل معها أو من خلال العينات التي تصل مخبرها للتعرف على الجراثيم المتسببة.

 يزيد من حنقها، رؤية أناس يوشكون على الموت جرّاء تلك الجراثيم، دون أن يبادر أحد لإطلاعهم على تفاصيل وضعهم، إعلام ذويهم بما يحدث أو حتى اتخاذ الإجراءات اللازمة بالسرعة القصوى لإنقاذهم.

 للتدليل على ذلك تروي سندة قصة شاب كان في الحادية والعشرين حين خضع لعملية استئصال ورم في النخاع الشوكي في فرنسا ثم أرسل إلى مصحة في تونس للنقاهة. هناك أصيب بتعفن استشفائي بسبب القسطرة البولية التي ركّبت له. كان قد خرج من المصحة ولكنه سرعان ما أعيد اليها. “كشفت التحاليل الطبية أنه مصاب بتعفن في الدم وأن حياته في خطر إن لم يتم التصرف بسرعة”، تؤكد سندة التي تواصل روايتها: “أرسلت النتائج بالفاكس وأشرت إلى خطورة حالته، مع توضيحات بخصوص المضادات الحيوية الواجب استخدامها. إلا أن الأطباء لم يأخذوا بعين الإعتبار كل ذلك ولم يتفاعلوا بالسرعة المطلوبة. المصيبة أنني وجدت بعدها ذلك الفاكس ملقى في سلة المهملات”! توفي الشاب هذا الشاب بسبب صدمة انتانية.

التعفنات الإستشفائية : “وباء المستشفيات”

ولكن فيم تتمثل هذه التعفنات الإستشفائية التي تأخذ شكل الوباء من حيث وتيرتها المتكررة وقوة تأثيرها؟ ولماذا لا يتم الحديث عنها؟

 هي تعفنات  يصاب بها المريض في المراكز الإستشفائية بعد 48 ساعة من دخوله إليها (أقل من تلك الفترة لا يمكن اعتبارها تعفنات استشفائية). تنتج تلك التعفنات عن وجود جراثيم مقاومة للمضادات الحيوية تزدهر في أماكن الرعاية الصحية، ويمكن أن تلتصق بالمعدات الطبية، الأرضية، الهواء وبملابس وأيدي العاملين في المستشفى أو حتى بالمرضى أنفسهم. تنتقل العدوى من مصاب إلى آخر أو عبر الطاقم الطبي الذي يتحول إلى ناقل للجراثيم. ورغم أن الإنسان محاط باستمرار بالمكروبات لكن دخوله المستشفى يقلّل من مناعته لتصبح بعض الجراثيم خطيرة بالنسبة له.

 يبين الدكتور رضا حمزة المسؤول عن المصلحة الجهوية لحفظ الصحة ببنزرت في مقالة علمية بعنوان “علم أوبئة الأمراض المرتبطة بالرعاية الصحية” (يناير2010)” أن التعفنات الإستشفائية تستهدف اساسا المسالك البولية والجهاز التنفسي ومضاعفات ما بعد الجراحة”.

مشكلة التعفنات الإستشفائية لا تنحصر في تونس. فبحسب منظمة الصحّة العالمية: “في كل لحظة، يعاني  أكثر من 1.4 مليون شخص في العالم من مضاعفات ناتجة عن التعفنات الإستشفائية”. ولذلك أعدّت المنظمة خطة كاملة لمقاومة هذا الخطر على نطاق عالمي.

الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية هو أصل الداء

 الوعي بخطورة التعفنات الإستشفائية على المستوى العالمي يعود إلى ما يقارب 30 عاما. لكن المشكلة تفشت في السنوات الأخيرة نتيجة الإستعمال المفرط للمواد الكيميائية والمضادات الحيوية في الزراعة وتربية الماشية”، ما يساهم في تغير تركيبة الجراثيم ويجعلها اكثر مقاومة لهذه المضادات”، على ما يوضح الدكتور علي الشريف رئيس قسم التخدير و العناية المركزة في مستشفى الرابطة بالعاصمة.

هذا الوضع يدفع “مصانع المستحضرات الصيدلانية في العالم إلى تزويد الأسواق بمضادات حيوية أكثر قوة “. وفوق ذلك، فإن الوصفات المتكررة لهذه الأدوية وسهولة حصول المستخدم التونسي عليها في الصيدليات يؤدي إلى الاستهلاك المكثف ويزيد من قدرة الجراثيم على المقاومة. لذلك ينتقد الطبيب العام سامي العلاقي “السهولة التي يمكن بها للمستخدم الحصول على المضادات الحيوية لأن الصيدليات تبيعها بكل حرية”. ويقول: “لن تجد شيئا مماثلا في فرنسا، على سبيل المثال، حيث يحظر بيعها دون وصفة طبية”!

لقياس خطورة التعفنات الإستشفائية في تونس، أجريت سنة 2005 دراسة وطنية شملت 7065 مريضا في 66 مؤسسة استشفائية (54  مستشفى حكومي و12 مصحّة خاصة). وأظهرت الدراسة أن معدل انتشار التعفنات الإستشفائية يبلغ 6.9 ٪، ما يعني أن مريضا من كل سبعة مستهدف بهذه التعفنات. ولكن تبقى هذه النسبة ضمن المعدل العالمي الذي يتراوح بين 5 إلى 10٪.

تلك كانت الدراسة الوحيدة التي أجريت على الصعيد الوطني. لا توجد لسوء الحظ إحصائيات حديثة تمكننا من معرفة مدى تفشي الظاهرة (ستجرى دراسة مماثلة هذه السنة). من المفروض أن مثل هذه الإحصائيات تنجز من قبل لجان مكافحة التعفنات الإستشفائية والتي يجب أن تكون موجودة في كل مؤسسة استشفائية. لكن الواقع مخالف لذلك تماما. كما أن الإعلان عن وجود تعفنات استشفائية في المستشفيات والمصحّات الخاصة ليس ملزما للأطباء بحسب القانون.

إضافة لذلك لا توجد أي أرقام عن معدل الوفيات نتيجة التعفنات، في حين يؤكد لنا الأطباء وقوعها؛ فعلى سبيل المثال أجريت سنة 2008 في مركز الأمومة والرضع بتونس العاصمة، دراسة قدمت في نطاق أطروحة طبية أعدّها ماهر بن لعايبة بعنوان: “وفيات الرضع لسنة 2008: الأسباب وعوامل الخطر”. أثبت الدراسة التي نشرت عام 2010 وقوع 322 حالة وفاة منها 151 حالة بسبب التعفنات الإستشفائية بما يعادل 43 ٪   من إجمالي 14914 ولادة في هذا المركز.

 حتى وإن لم تكن التعفنات الإستشفائية السبب الرئيسي للوفاة بين الأطفال الرضّع في تونس فإنها تمثل أحد العوامل التي تساهم في ذلك إذا لم تتوافر شروط حفظ الصحة في المستشفيات.

قاعدة الصمت

 لكن الأسوأ هو إصابة المريض بالتعفن الإستشفائي أو حتى موته دون أن يعلم هو أو عائلته بحقيقة ما أصابه، لأنه لا احد يكلف نفسه مشقّة اعلامهم في كثير من الأحيان.

درة تروي لنا قصة والدها الذي أجريت له عملية بسبب كسر في عظم الفخذ: “بقي يعاني لأسابيع من المضاعفات ويتردد باستمرار على المصحة دون أن نفهم مما كان يعاني بالضبط. حاولنا نحن عائلته نقله إلى مصحة أخرى أملا في تحسن حالته، لكن دون جدوى. خلال كل تلك الفترة كان يتلقى مضادات حيوية قوية. علمنا من باب الصدفة أنه يعاني من تعفن استشفائي أصيب به إثر الجراحة، وذلك بعد أن اطلعت على تحاليله  أبنة عمي الطبيبة… للأسف لقد انتهى الأمر بوفاته”.

 لماذا هذا الصمت؟ هل هو نوع من التضامن بين الأطباء؟ هل هو خوف المصحات الخاصة على سمعتها بخاصة وأنه في حالة إصابة شخص بتعفن استشفائي فإن المؤسسة الصحية هي أول من يتحمل المسؤولية؟

نعم كل ذلك.  ولكن لا شيء يبرر عدم توفير معلومة شفافة للمريض. فذلك هو حقه المشروع.

دفع ثمن أخطاء الآخرين

 لا تكتفي بعض المستشفيات بعدم إطلاع مرضاها على حقيقة إصابتهم بالتعفن الاستشفائي، بل تلزمهم بدفع تكاليف إضافية ناتجة عن تمديد فترة العلاج في المؤسسة الصحية واستخدام مضادات حيوية باهظة التكاليف.

يقول الدكتور سامي العلاقي :”شاهدت مرضى يدفعون بين 300-400 دينارا في اليوم الواحد (بين 184 و245 دولار يوميا) تكاليف إضافية للمصحات الخاصة، وذلك بسبب التعفنات الإستشفائية. واضطر مريض في مصحة خاصة بصفاقس إلى دفع 7000 دينار (4288 دولارا) بسبب اصابته بتعفن استشفائي!”.

 إن الاعتراف بوجود  تعفنات استشفائية خاصة في صورة حصول مضاعفات خطيرة أو حالات وفاة يعني التعويض المادي للمصابين، وهو ما يسعى مسؤولو المؤسسسات الإستشفائية وبخاصة المصحات الخاصة إلى تفاديه بأي ثمن. وبينت الدراسة الوطنية أن معدل انتشار التعفنات الإستشفائية في المصحات الخاصة يبلغ 10.1 ٪ في حين لا يتجاوز 7.4 ٪ في المستشفيات الجامعية الحكومية.

لكن بعض أسر المرضى تنجح، رغم كل هذا التعتيم، في التنبه بطرقها الخاصة لوجود التعفنات الإستشفائية وإجبار إدارات المصحات الخاصة على الإعتراف بتقصيرهم في احترام شروط حفظ الصحة في مؤسساتهم.

 يحدثنا الكتور سامي العلاقي عن مريضة (56 عاما) أجريت لها عملية جراحية لاستئصال الزائدة الدودية. على إثرها  انتقلت إليها جرثومة المكورات العنقودية ما تسبب بدخولها في غيبوبة دامت أكثر من شهرين. إلا أن اختها الطبيبة كانت من الفطنة بحيث أخذت عينات من المواد المستخدمة في غرفة العمليات (القفازات، الحقن، النفايات …) وأرسلتها إلى مخبر لتحليلها والتعرف على طبيعة الجرثومة. ثم ذهبت لمقابلة إدارة المصحة رفقة هذه الأدلة مهددة برفع قضية، فما كان من الإدارة أن وافقت على دفع تعويضات لها لتجنب هذا السيناريو. أما المريضة فقد تحسنت حالتها تدريجيا.

نقص الإمكانيات: عقبة حقيقية

 لكن ما الذي يفسر وجود التعفنات الإستشفائية بكثرة في المؤسسات الصحية التونسية؟ ولماذا لا يتم التصدي لها بالشكل الكافي؟

 النقص في الإمكانيات المالية والبشرية هو السبب الأول الذي ذكره لنا العاملون في مجال الصحة. فمكافحة هذه التعفنات يتطلب وضع نظام جودة خاص بحفظ الصحة في المؤسسات الإستشفائية. يتحقق ذلك على مستويات عديدة، كما يبين الدكتور لمين دحيدح، رئيس قسم حفظ الصحة في المستشفى الجامعي سهلول بسوسة، وهو من أوائل المشتغلين على التعفنات الإستشفائية في تونس.

هذه المستويات تشمل اختيار موقع المستشفى وهندسته المعمارية بحيث يتم فصل مسالك نقل المواد الغذائية عن مسالك نقل النفايات، ضمان نظافة صارمة ومنتظمة  للهواء، الماء،  الغذاء والأرضيات، حسن التصرف في نفايات المستشفيات والمراقبة المستمرة لمدى التزام الطاقم الطبي بمعايير حفظ الصحة.

كل هذا يتطلب الكثير من الإمكانيات في الوقت الذي تعجز فيه بعض المشافي عن توفيرها فيما تبدو مشاف أخرى غير راغبة بذلك.

أول مشكل يعترض وضع نظام الجودة هذا هو تركيبة قسم حفظ الصحة  في المؤسسات الإستشفائية. ففي حين تبين وثيقة داخلية نشرتها وزارة الصحة بتاريخ 25 يناير 1990 عناصر هذه التركيبة  التي  يجب أن تضم عشرة أشخاص من مختلف الإختصاصات (رؤساء أقسام الجراحة، طب الأطفال، أمراض النساء، التغذية، حفظ  الصحة…) فإنها تقتصر في الواقع على أربعة أو ثلاثة أشخاص وأحيانا على شخص واحد، خصوصا في المصحات الخاصة، حيث تجد أخصائيا في حفظ  الصحة، وقد لا تجد أحدا البتة.

علاوة على ذلك، فإن وتيرة عمليات مراقبة حفظ الصحة التي يقوم بها المراقبون العاملون تحت إشراف إدارة حفظ صحة الوسط وحماية المحيط في وزارة الصحة، لا تزال أقل من المطلوب لخلق نظام جودة حقيقي. إذ يبين السيد محمد الرابحي مدير هذه الإدارة أن هناك “نقصا فادحا في الإمكانيات البشرية من الضروري تجاوزه”.  فقد أجريت 31524 عملية مراقبة سنة  2010 للمؤسسات الإستشفائية، من قبل 584 مراقب على مستوى كامل الجمهورية في حين انخفض العدد إلى 24482 عملية سنة 2011. وتتراوح  وتيرة عمليات المراقبة بين زيارة كل أسبوع وزيارة كل شهر حسب  الحاجة لمجموع 172 مستشفى حكوميا و 118 مصحة خاصة.

هذا النقص في الإمكانيات  البشرية و المادية تؤكده أيضا قلة وجود الحنفيات لتمكين الأطباء والإطار شبه الطبي من غسل أيديهم بصفة مستمرة. إذ أثبتت الدراسات أن اليدين هما أول وسيلة لانتقال الجراثيم وأن الحرص على نظافتهما هو من أهم التوصيات التي تؤكد عليها كل استراتيجيات الوقاية.

“من الصعب غرس ثقافة غسل اليدين عند الطاقم الطبي. انا أجاهد يوميا من أجل ذلك في وحدة العناية المركزة التي أشرف عليها في مستشفى الرابطة”، يؤكد الدكتور علي الشريف مضيفا، أن هذا الوضع يفسر من جهة بالنقص في الموارد، ومن جهة أخرى بقلّة التوعية.

 دراسة استطلاعية أجريت خلال النصف الثاني من كانون الثاني 2009، في المستشفى الجامعي فرحات حشاد بسوسة، حول مدى التزام الطاقم الطبّي في أربع أقسام مصنفة بأنها ذات مخاطر بكتريولوجية عالية بمعاييرغسل اليدين، أثبتت أن الإلتزام بغسل اليدين لا يتجاوز نسبة 16.1 ٪.

لا شك أن هناك جهد حقيقي يجب بذله على مستوى توعية العاملين في المجال الطبي وتدريبهم إذ يوجد نقص في تنظيم الدورات التدريبية حول الوقاية من التعفنات الإستشفائية. كما أن تحديد عدد هذه الدورات ووتيرة تنظيمها يبقى رهن قرار إدارات المؤسسات الصحية.

اكتظاظ المؤسسات الصحية: مدخل لكل التجاوزات

يفتح اكتظاظ المؤسسات الصحية الباب لعديد تجاوزات فاضحة لقواعد حفظ الصحة. من بينها عدم المواظبة على غسل اليدين، تكرار استعمال معدات طبية من المفروض أنها تستعمل لمرة واحدة  وقلة تعقيم غرف العمليات. في هذا السياق يؤكد السيد محمد الرابحي من إدارة حفظ صحة الوسط أن “عمليات المراقبة التي تجريها وزارة الصحة أثبتت انه يتم استعمال معدات غير معقمة في حالة اكتظاظ المؤسسات الإستشفائية”.

ويتسبب الإكتظاظ أيضا في نقص قاعات العزل لفصل المصابين بالتعفنات الإستشفائية عن بقية المرضى. فعند ارتفاع درجة حرارة المريض بسبب التعفن يلجأ الطبيب عادة إلى عزله لتفادي انتقال العدوى وذلك في انتظار التعرف على الجرثومة المتسببة في ذلك. لكن هذا الإجراء يصبح غير ممكن في حال وجود نقص في غرف العزل. كشفت الدراسة الوطنية لسنة 2005 عن أن مجموع 66 مؤسسة صحية شملها المسح هناك 76 غرفة عزل أي بمعدل غرفة واحدة في كل مؤسسة وهي نسبة ضئيلة جدا.

وتعد غرفة العمليات أكثر مكان تنتقل فيه عدوى التعفنات الإستشفائية ويعود ذلك إلى عاملين أساسيين: أولا  أجراء كل أنواع الجراحة دون تمييز أو فصل في ذات المكان. فحسب الدكتور خليل عبد العزيز، أخصائي في جراحة العظام: “لا يمكن الجمع في غرفة الجراحة ذاتها بين ما يطلق عليه بالجراحة “النظيفة” (عمليات التجميل، جراحة العظام…) و الجراحة “الوسخة” (الجهاز الهضمي،  جراحة الأنف والحنجرة …). ولكن مع الأسف فإن ذلك يحصل باستمرار بخاصة في المصحات الخاصة مما يزيد من خطر العدوى”. كما أن الإستعمال المفرط لغرفة العمليات الذي قد يصل إلى 20 و25 عملية في اليوم الواحد (خصوصا في بعض المصحات الخاصة) لا يمنح الفرصة الكافية لعمال حفظ الصحة لتعقيمها مما يساعد على انتقال الجراثيم، رغم أنه من المفروض أن يحصل هذا بعد كل جراحة. إلا أن الواقع يختلف تماما و ذلك بهدف كسب الربح.

في موازاة ذلك عقّد قدوم الليبيين بأعداد كبيرة إلى تونس خلال ثورتهم الوضع الصحي في البلاد. فتوافد جرحى الحرب خلق ضغطا إضافيا على المستشفيات والمصحات الخاصة التونسية. تقول سندة المصمودي، عالمة الأحياء: “اكتشفنا جراثيم معندة وخطيرة لم نعرفها قبلا في تونس وقد جلبها المرضى الليبييون”، مضيفة أن ” المصحات الخاصة كانت تعمل ليل نهار، وقد اضطرت لإضافة أسرة داخل المكاتب الإدارية لإستقبال العدد الهائل من المصابين. وانعكس ذلك على ظروف حفظ الصحة و زاد من وتيرة الإصابة بالتعفنات الإستشفائية”.

 عبئ اقتصادي ثقيل  يتجاوز 50 مليون دينارا سنويا

 إن مكافحة  التعفنات الإستشفائية  أصبحت حاجة ملحة، خصوصا أن هذه المشكلة تنطوي على تكاليف  بشرية و اجتماعية و اقتصادية ثقيلة جدا. فبحسب دراسة 2005 فإن معدل إصابة المرضى على المستوى الوطني يبلغ 6.7 ٪، أي ما يعادل حوالي 33500 مصابا سنويا. كما يبين الدكتور لمين دحيدح أن تكلفة كل مريض بالتعفنات الإستشفائية تصل إلى 1700 دينار أي ما يعادل اكثر من 50 مليون دينار سنويا (حوالي 30.7مليون دولار). هذا المبلغ يساوي 5.6 ٪ من ميزانية وزارة الصحة لسنة 2007.

اليوم في تونس بدأ الوعي بضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة تزايد المشكلة، إذ قام عدد من الخبراء والمختصين في حفظ الصحة في المستشفيات بإعداد استراتيجية وطنية تشرف عليها خلية مكافحة التعفنات الإستشفائية التي تم استحداثها في وزارة الصحة سنة 2011. وتبين الدكتورة نوال الفقيه رئيسة هذه الخلية أن الإستراتيجية ستتمحور حول خمس مستويات أساسية: المستوى التنظيمي من خلال إعداد قانون شامل و نصوص تطبيقية حول مكافحة التعفنات، المستوى التدريبي من خلال تحسين التكوين الأساسي و المستمر للعاملين في قطاع الصحة، مستوى تحسين محيط العلاج و ذلك من خلال ضمان بيئة صحية سليمة في المؤسسات الصحية إلى جانب تحسين نظام تصريف نفايات المستشفيات، مستوى المراقبة عبر خلق نظام وطني يمكن من متابعة تطور التعفنات الإستشفائية و مساعدة الطاقم الطبي على تحسين ادائهم في مجال الوقاية ومستوى معايير حفظ الصحة إذ سيتم توحيدها في  كامل المؤسسات الإستشفائية. دخلت هذه الإستراتيجية حيز التنفيذ هذه السنة ومن المنتظر أن تنجز الدراسة الوطنية الثانية حول التعفنات الإستشفائية خلال خريف هذا العام.

يؤمل في أن تحد هذه الاستراتيجية من وتيرة الإصابة بالتعفنات الإستشفائية في المؤسسات الصحية خصوصا وأنه لم يعد من الممكن الاستمرار في تجاهل هذا الخطر أو عدم الحديث عنه لا سيما أنه يعصف بحياة الكثيرين.

أنجز هذا التحقيق بالتعاون مع شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) www.arij.net  و تحت إشراف مارك هنتر


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *