أحلام منقوصة في "أبو ساعد"

7 نوفمبر 2017

تحقيق: صفاء عاشور

الدستور– داخل منزل من الطوب الأحمر مكون من دور واحد، بقرية عرب أبو ساعد التابعة لمحافظة الجيزة، تأملت أم محمد طفلها “البكري”، بعينيه الذابلتين، وجسده الضامر، بما لا يتناسب مع سنوات عمره السبع المدونة فى شهادة ميلاده. وتؤكد التقارير الطبية عجزه عن الحركة وإصابته بتأخّر عقلي.

تقيم عائلة محمد بجوار 633 مصنعا، معظمها تتسبب في تلوث الهواء بفعل انبعاثات الأسمنت والطوب والفحم، حسبما يكشف هذا التحقيق الاستقصائي.

“أول فرحتي دايما يحسّسني بالعجز، عكس أخويه مسعد وحسين”، تشكو أم محمد. بكرها حبيس مرضه لا يعرف غير الصراخ وسيلة للتعبير عن احتياجاته التي يهتز لها جسده الضعيف، وقلب أمه المكلومة.

تتذكر أم محمد فقدها لحملها الأول ثم ولادة محمد بتشوهات جسدية، ما دفعها خلال حملها الثالث والرابع، إلى الخروج من القرية، والبقاء فى منزل والدتها بمدينة السلام، شرق القاهرة، لضمان إنجاب طفلين سليمين؛ بحسب ما عاينت معدة التحقيق.

أما محمد خالد فكان له قصة أخرى. “اتجوزت من المنطقة، ولما مراتي سقطت أربع مرات طلقتها”. تزوج خالد بعدها بامرأتين، وتركهما بعيدا عن المنطقة، فأنجبت كل منهما أربعة أطفال، وهو الآن فى انتظار طفله التاسع.

على مدى ستة أشهر، وثّقت معدّة التحقيق تأثّر قرابة 50 ألف نسمة في هذه المنطقة بغبار ومخلفات المصانع المصنّفة ضمن الفئة (ج)؛ صناعات خطرة، وفقا لدليل وزارة البيئة. ووجد مسح نفّذته معدة التحقيق على 50 سيدة، أن سيدة من كل سيدتين تعرضتا للإجهاض وواحدة من كل أربع انجبت طفلا بتشوهات منذ الولادة.

غالبية هذه المنشآت تندرج ضمن قائمة المصانع التي توصي وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية بنقلها خارج التجمعات السكانية، في دراسة لها عام 2014. وتعد شكوى أهالى أبو ساعد الموثقة فى التحقيق، من ضمن الحقوق التى كفلها الدستور المصري، وفقا للمادة 46، التي تمنح لكل شخص الحق فى التمتع ببيئة نظيفة، وتلزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليها.

يفاقم الحال انتشار ظاهرة الإجهاض المتكرر في المنطقة، والتي تعد سببا لهذا التلوث، بحسب تقارير لمنظمة الصحة العالمية ووفق عينات أخذت من التربة على مدى أشهر كما يظهر خلال هذا التحقيق.

سماء رمادية

أدخنة ملوثة تتصاعد من عشرات المداخن فترسم سماء رمادية غائمة دائما، هذا ما يعلق بذهنك عند زيارة منطقة العرب، بينما يرحب بك الأهالي بفضول وحذر. تتساءل: “إذا كانت المنطقة حقا تتبع محافظة الجيزة أو إحدى المناطق الصحراوية”.

طبيعة المجتمع المحافظ، تفرض على النساء نمط حياة لا يتضمن أحلاما خارج جدران المنزل، حتى أنهن يمنعن من استكمال تعليمهن الجامعي، فيصبح الحصول على زوج جيد، وبناء أسرة، مطلبهن الوحيد في الحياة.

فى مبنى مكون من دورين، تسكنه ثلاث نساء، هن نوسة ونادية وهبة، مع أزواجهن، وهم ثلاثة أشقاء. جميعهن لهن حكايات مع الإجهاض المتكرر، وولادة أطفال بنمو متأخر.

الحزن المكتوم فى جو البيت ينتشر كغلالة رقيقة تطوف فى فضاء المنزل، تقطعها تنهيدات حماتهن، التي تعزّي نفسها بحكايات الجيران عن الإجهاض، والأطفال المرضى، حتى تستطيع تحمّل قدر زوجات أبنائها.

تقول نوسة: “أجهضت ثلاث مرات متتالية، وآخرها توأم فى الشهر التامن”. تشير نوسة إلى شهادتي ميلاد فى يدها، مؤكدة أنها اضطرت لاستخراجهما باسم طفليها اللذين لم يريا النور، بهدف إثبات الوفاة، والحصول على شاهدي قبرين لهما.

نادية سمحت بتصوير ابنتها، التي لم تصل عامها الثالث، وتعاني من تأخر فى النمو، لا يفلح معه الاقتطاع من موارد الأسرة، لإعداد وجبات صحية لها.هبة بدورها كانت أكثرهن حزنا على الإطلاق، بعد تعرضها للإجهاض أربع مرات، وعجزها عن تحقيق حلم الأمومة.

تشكو هبة في همس: “مش عايزة غير واحد بس”. هبة كانت تتحدث من وراء باب نصف مغلق، بينما تمتلئ عيناها بالرجاء، في أن يصل نداؤها إلى المسؤولين، علهم يجدون حلا لما يحدث للنساء فى المنطقة.

حكاية النساء الثلاثة، تكررت خلال الجولة الميدانية بالمنطقة. أغلب النساء يفضلن عدم البوح عن تجربتهنّ المريرة مع حالات الإجهاض و/أو ولادة أطفال مشوهين، حتى لا يتعرضنّ للهجر من أزواجهن.

أرقام مقلقة

في استبيان شمل 50  سيدة من سكان العرب، توصلت معدّة التحقيق إلى أن سيدة من كل اثنتين تقريبا تعرضت للإجهاض، وسيدة من كل أربعة أنجبن أطفالا بإعاقة أو تشوه. (21 من 50/ إجهاض و 13 من 50/ أمراض وتشوهات في الولادة). ووفقا للاستبيان، تعدّدت مرات الإجهاض لدى النساء فى عدد من الحالات، وصلت إلى ست مرات، وأحد عشر مرة.

كما أثبتت فحوص خمس عينات تربة احتواءها على نسب مرتفعة من المعادن الثقيلة، بما يؤثر على حياة الأجنة وصحتّها وكذلك الإنتاج الزراعي.

تكرار إجهاض السيدات لفت انتباه أطباء في قرية أبو ساعد، فباتوا يتعاملون مع الحوامل فى تلك المنطقة، بوصفهن حالات خاصة، حتّى أن استشاري أمراض النساء أحمد النشار، نشر تقريرا طبيا نهاية عام 2011، رصد خلاله تكرار ظاهرة حالات الإجهاض لسيدات العرب.

 

شمل الاستبيان أسئلة حول سن السيدة، عدد مرّات الإجهاض وحالات تشوه الأجنة. وتم استبعاد النساء المتزوجات من أقاربهن، وأيضا اللاتي تعدين سن ال35، إذ تكثر حالات الإجهاض التلقائي وتشوه الأجنة، وفقا لدراسات علمية مثبتة.

شكوى دون جدوى

خلال السنوات العشر الماضية سعى سكان المنطقة للاحتجاج على انتشار المصانع بين منازلهم واتهموها بالتسبب بانتشار الأمراض الصدرية وتزايد حالات الإجهاض المتكرر في بيوتهم.

وصل الأمر إلى رفع أحد المصانع دعوى قضائية ضد تجمهر الأهالى أمام بواباتها، الأمر الذي  الاحتجاجات ، خوفا من نفوذ المصنع.

يقول حمدي سليمان، أحد سكان المنطقة، “لمن نشكو، ولا أحد يسمع”، مؤكدا أن أغلب الأهالي من الفقراء، ممن لا صوت لهم.

 

“الخوف يسيطر علينا بعد إدانة عدد من الأهالي فى قضية تجمهر، رفعها مصنع سماد حلوان، عندما حاولنا الاحتجاج ضده”. يؤكد سليمان: “أن إجهاض الحوامل وجد طريقه إلى  كل عائلة فى القرية، بمن فيهن نساء من عائلته، كان آخرها زوجة ابن أخيه، التي أجهضت مرتين متتاليتين.

وتقتصر سبل الشكوى المتاحة الآن للسكان بالاتصال بالخط الساخن لوزارة البيئة، أو اللجوء إلى الجمعيات الحقوقية البيئية. لذلك أجرت معدة التحقيق اتصالا للإبلاغ عن مخالفة بيئية، تكرارا لشكاوى أسر بانبعاث رائحة نفاذة من أحد المصانع عند منتصف الليل. تجاوب الموظف المسؤول عن الرد وطلب بيانات المتصل كاملة، والعنوان، لإبلاغ اللجان الخاصة بالمنطقة ببحث الشكوى، إلا أن تتبع مسار الشكوى لم يكن بالأمر المتاح، بسبب عدم وجود آليات واضحة لدى الوزارة لذلك.

وصدر قرار من مجلس الوزراء رقم (615) لسنة 2009، لنقل الصناعات الملوثة خارج منطقة حلوان وبخاصة مصنع الحديد والصلب، ومصنع أسمنت القومية.

لكن الأمر لم ينفذ، بل أن مجلس الوزراء وافق بداية العام الحالي على السماح لشركة أسمنت القومية باستخدام الفحم كوقود، وذلك رغم تأكيد وزارة البيئة، فى تقريرها السنوي الأخير، أن المصنع المشار إليه، يساهم فى إجمالى 6%، من المواد الصلبة الملوثة فى الهواء، الصادرة عن الشركات الصناعية.

ومازالت وزارة البيئة تتقاعس عن تنفيذ قرارها بتغير أبواب الأفران الخاصة بمصنع النصر لإنتاج فحم الكوك 30، القريب من أبو ساعد، بغرض تقليل الانبعاثات.

أحمال بيئية

تقع عرب أبو ساعد بمركز الصف، وحدة الشوبك، بمحافظة الجيزة، يحدّها من الشمال مدينة التبيين الصناعية. تتراوح أنشطة تلك المنشآت الصناعية بين مصانع رخام، أحجار ومطاحن، من ضمنهم 412 مصنع طوب “قمائن الطوب”، بالإضافة  إلى مصنع سماد، ومصنع لإنتاج فحم الكوك.

وجميع المصانع السابق ذكرها تفصل بينها وبين الكتلة السكنية العشوائية أقل من مئة متر.. (البناء عشوائي ليس لها حدود يمكن القياس عليها)

إلى ذلك تنتشر مسابك معادن تخالف شروط وزارة البيئة، من حيث عدم وجود مداخن عالية، والالتزام بثماني ساعات محدّدة للعمل.

وعلى حدود المنطقة تظهر مداخن مصنعي أسمنت القومية، ومصنع الحديد والصلب، أقدم مصانع المنطقة الصناعية بالتبيين.

تضارب في المسؤوليات

العقيد عبد التواب محمد، رئيس مركز الصف يؤشر إلى إشكالية حول أرض منطقة “أبو ساعد”؛ فهي تتبع إداريا المركز، لكن ملكيتها مقسمة بين أملاك الدولة وهيئة التنمية العمرانية والآثار؛ وهي الجهات التي لها حق رصد المخالفات وتبليغ المركز بها، للتنفيذ وتطبيق قرارات الإزالة.

ويقع على وزارة البيئة الشق الخاص بالانبعاثات البيئية، فالمركز ليس لديه الإمكانيات الخاصة بالرصد البيئي، والشكاوى التي تصل من الأهالي بشأن الانبعاثات الملوثة لا تكتمل بغير تقرير وزارة البيئة.

رئيس مركز الصف يؤكد أن الحكومة لم تخصّص أبو ساعد كمنطقة صناعية، رغم ما رصدته معدة التحقيق من استمرار بناء مصانع جديدة عليها، وبيع الأراضي برخص صناعية.

الموقع الإلكتروني لمحافظة الجيزة  يشير إلى سعي المحافظة للحصول على قرار من وزارة التنمية الصناعية، لتخصيصها كمنطقة صناعية، وأن إجمالي مساحة المنطقة حاليا تصل إلى 1800 فدان، مقام عليها 300 مصنع. يذكر الموقع أيضا تخصيص إمدادات مستقبلية صحراوية لأبو ساعد، تصل إلى عشرة آلاف فدان، ذلك دون الإشارة لمستقبل المنطقة السكانية.

أما الأراضي المعروضة للبيع بالمنطقة، فيتراوح سعر مترها بين 500 إلى ألف جنيه، وفقا لطبيعتها، حيث ترتفع سعر الأراضي المسجلة بالشهر العقاري، عن مثيلتها التابعة لأملاك الدولة.

وفي خمس مكالمات هاتفية مع ثلاثة من أصحاب الأراضي المعروضة للبيع، أكدوا أن بعض الأراضي تباع برخص صناعية، مع قانونية بناء مصانع عليها فور استلامها، وبعضها يباع بدون رخصة بسعر أقل.

من بين الدراسات حول الربط بين حالات الإجهاض المتكرر وبين ارتفاع نسبة الانبعاثات الملوثة، أصدرت مؤسسة اليونيسف 11 ورقة بحثية حول تأثير تلوث الهواء على صحة الأطفال.

وربطت الدراسة بين تلوث الهواء والإجهاض المتكرر، الولادة المبكرة، إنجاب أطفال بوزن أقل من الطبيعي وغير مكتملي النمو، وكذلك ارتفاع نسبة الوفيات بين الأطفال، أقل من 5 سنوات، لتصل إلى واحد من بين 10 أطفال، علما أن معدل الإجهاض عالميا يقدّر بامرأة واحدة لكل عشر، وفقا لموقع طبي أمريكي، مختص بصحة النساء الحوامل.

كما أشار بحث اليونيسف أيضا إلى إحدى الدراسات التي أجريت على عدد من النساء الحوامل فى مدينة دلهى بالهند، بمناطق ملوثة، وكشفت عن زيادة ارتفاع نسبة معدل الإجهاض بنسبة تصل إلى ثلاث أضعاف، نسبة الإجهاض الطبيعي.

 

تشوهات وتشخيص طبي

حالات تشوه المواليد شملت شفاه أرنبية، ضمورا فى الأطراف، نقصا في النمو، حالات التأخر العقلي، ولادة أطفال بثقب في القلب والإصابة بسرطان الدم، قبل إتمام العام الأول، حيث رصدت معدة التحقيق 13 حالة، من بين أطفال النساء ال50 الذي شملهم الاستبيان، السابق ذكره.

عرضت الشهادات الصحيّة التي جمعت من النساء ونتيجة الاستبيان على أخصائية أمراض النساء والتوليد إيمان يوسف، التي أوضحت أن نسبة الإجهاض المتكرر تقدر بسيدة بين كل 500 أو 300 سيدة، وفقا للظروف الصحية والبيئية. واستندت د. يوسف في تقديراتها إلى مخرجات المرجع المتخصص الأشهر أستاذ طب القصر العيني د. مجدي إبراهيم.

العلاقة بين تعرض النساء الحوامل إلى ملوثات الجو أو التربة، وحدوث إجهاض، تتراوح نسبتها ما بين 5% إلى 10%، من الحالات التى تم تسجيلها، وتتعدد مصادر التلوث، وأهمهاالانبعاثات الملوثة، و المعادن الثقيلة، وفقا لما اثبته تحليل عينات التربة بأبو ساعد.

أحد الأطباء الصيادلة في إحدى ثلاث صيدليات في المنطقة 14 يؤكد أن جميع الأمراض بالمنطقة ناتجة عن التلوث.

لدى زيارة الوحدة الصحية لثلاث مرات، وجدت معدة التحقيق أن الأطباء غادروا موقع العمل قبل الثانية عشر ظهرا؛ قبل ثلاث ساعات من انتهاء مواعيد العمل.

ولاحظت أيضا عدم وجود طبيب أمراض نساء منذ خمسة أشهر، ما يدفع النساء اللجوء إلى المستشفيات العامّة بمنطقة الصف أو حلوان.

في ساحة الاستقبال الخاصة بالوحدة، كانت النساء يفترشن الأرض، فى انتظار دورهن للكشف. تقول رشا حجاج “مفيش أمامنا غير الوحدة الصحية لعلاج أطفالنا وعلاجنا، والأدوية الرخيصة، اللي أغلب الوقت مش موجودة”.

وتشكو رشا من أن أبنتها التي تعاني من إعاقة ذهنية تحتاج إلى علاج خاص، لا يتوفر فى الوحدة الصحية، كذلك تفتقد القرية إلى مراكز خاصة لتأهيل ذوى الإعاقة.

فى غرفة مجاورة للاستقبال، تجلس سماح أسامة الرائدة الريفية، بنقابها الأسود، تدون فى دفترها الضخم، حالات النساء التي تتابعها.

تقول سماح : “الإجهاض ممكن يكون من التلوث في المنطقة، لكن الوزارة مكلفتناش بعمل حصر”، رغم عمل سماح بالوحدة  نفسها منذ سبع سنوات.

تتجنب سماح معاينة القاطنين قرب المصانع، ذلك لأنها سبق لها التعرض للاختناق، أثناء مرورها على النساء فى إحدى العزب هناك.

تلوث الرصاص

لقياس نسب التلوث فى المنطقة، سحبت معدّة التحقيق أربع عينات تربة من مواقع مختلفة بالقرب من المنطقة الصناعية بالعرب البحرية والسكانية في العرب القبلية،. لدى فحصهم بمركز البحوث الزراعية، أظهرت العينة الميسرة  زيادة نسبة المعادن الثقيلة؛ رصاص وكادميوم، ووصول نسبة الزنك إلى درجة السمية القاتلة للنباتات.

الخبير البيئي د. نعيم مصلحي، رئيس مركز بحوث الصحراء يعلّق على نسب التلوث العالية بالتنبيه إلى احتمال أن تؤدي إلى “تبوير التربة الزراعية بشكل تام  بسبب قتل الكائنات الدقيقة فيها”.

ولدى فحص عينة أخرى بالمعمل المركزى لتحليل متبقيات المبيدات، كشفت النتائج عن تلوث العينة بعنصر الرصاص، بما يعادل مرتين النسبة العالمية الآمنة، وثلاث مرات النسبة الآمنة للأطفال، وفقا للوكالة الأمريكية للبيئة، إضافة إلى ارتفاع نسبة الكادميوم.

سبق لمنظمة الصحة العالمية، الربط بين تلوث التربة والبيئة بالمعادن الثقيلة، وبين إصابة الأطفال بأمراض بخاصة التخلف العقلي وكذلك حدوث الإجهاض التلقائي، بمعنى فقد الأم لجنينها، دون علّة طبية بها.

يعلق دكتور سميح عبد القادر منصور، أستاذ علم المبيدات والسموم البيئية بالمركز القومي للبحوث ورئيس اللجنة الوطنية للسمّيات، بأن الإجهاض وتأثر نمو الجنين العقلي من النتائج المباشرة لتلوث البيئة بعنصر الرصاص.

كما يؤكد أن أدخنة المصانع أحد مصادر تلوث البيئة بالرصاص، وبالتالي ترسبه في التربة، وتصل إلى الإنسان بدورها عن طريق الرياح.

غياب الرقابة

يعمل معظم سكان المنطقة فى إنتاج الطوب. ويملك أراض هذه القرية ما يصل إلى مئة من ميسوري العرب. وهم يرفضون الربط بين المصانع والتلوث البيئي، رغم صدور دراسات تؤكد تلوث المناطق المحيطة، بسبب انبعاثات المصانع.

نقيب النقابة المستقلة لأصحاب وعمال قمائن الطوب عبد الفتاح عليوه، يرى أن تراكم مديونيات بالملايين على أصحاب القمائن، أدت إلى عودتهم مرة أخرى لاستخدام المازوت بعد  الغاز الطبيعي. وزارة البيئة لا تراقب تفعيل قراراتها حتى أن بعض المصانع، لم تحظ بزيارة مفتشين منذ سنوات، حسبما يشكو عليوه.

وفى بيان صادر في فبراير2017، يكشف مركز الصف أن مصانع الطوب التي تستخدم الغاز الطبيعي لا تتجاوز 282 من بين 412 مصنع، إضافة إلى المصانع العشوائية التي لم يتم حصرها، وكذلك تلك التي عادت لاستخدام المازوت بدلا من الغاز الطبيعي.

مطالبات الأهالي

طبيعة المجتمع بالعرب، المعتمدة على الترابط العائلي والعصبية، دفعت عبد الله محمد إلى عدم مغادرة المنطقة، رغم إصابة ابنه منصور بمرض سرطان الدم، قبل أن يبلغ عامه الأول، ونصيحة الأطباء له بالعيش فى بيئة بعيدة عن التلوث.

ويطالب سكان المنطقة تخصيص أراض لهم داخل الامتداد الصحراوي لمدينة الصف، لبناء منازل فى بيئة أكثر أمانا، تكون قريبة من قمائن الطوب والمنطقة الصناعية بالتبين، حيث يعمل غالبيتهم.

أما أستاذ طب النباتات د. رمضان عبد الجليل،  فيؤكد أن المناطق التي تعرضت لتلوث صناعي لسنوات متتالية، تحتاج إلى سنوات عديدة للتخلص من الملوثات بكلفة باهظة؛ بخاصة التربة الزراعية، التى تتغير تركيبتها.

جولة في مزرعة سلامة مبروك، بمنطقة أبو ساعد، كشفت عجز هذه الأرض الملاصقة للمصانع عن إنبات محصول القمح لهذا العام. سلامة يشير إلى شجيرة ذابلة، تحولت إلى هشيم بمجرد لمسها، ثم يعلق بمرارة: “بنموت بالحياة”.

مخالفات إجرائية

وبجانب مصانع الطوب الأهلية بالمنطقة، منحت وزارة البيئة عام 2009 رخصة إنشاء مصنع؛ شركة سماد حلوان.

يجمع الأهالي عبر شهادات موثقة، أن القائمين على مصنع سماد حلوان، خالفوا المادة 19، من قانون البيئة، واللوائح التنفيذية، بشأن عقد جلسات استماع عامة، بالتزامن مع إجراء دراسات تقييم الأثر البيئي اللازمة، والتي يتم خلالها الاستماع إلى أهالي المنطقة، والكشف عن المخاطر المحتملة، فى حال قرب المنشأة الصناعية من الكتلة السكانية.

وفى خلال عام 2013، حاول الأهالى الاحتجاج على تواجد المصنع فى المنطقة، فواجهة إدارة المصنع ذلك برفع دعوى قضائية ضد الأهالى، بتهمة التجمهر.

وقتها ساندهم مركز حابى للحقوق البيئية، وأكد محمد ناجى، مدير حابى، أن دور المركز انتهى بمجرد خسارة المصنع لصالح الأهالي، وفقد الأهالى حماسهم أيضا.

كما وثقت دكتورة ايمان على دياب الرئيس السابق لوحدة تلوث البيئة بمركز بحوث الصحراء، التابع لوزارة البيئة، شكوى الأهالى من خداع مصنع السماد والإجهاض، وذكرت اكتشافها تلف النباتات والأراضى الزراعية، “بسبب غازات المصانع، التى تنتشر مع الرياح وتدمر كل من يقابلها” بحسب ما جاء فى التقرير موجه لوزير البيئة، عام 2014.

استلام وزير البيئة

وخلال العام الماضي أجريت شعبة تلوث بحوث الصحراء، التابع لوزارة الزراعة، دراسة حول الملوثات فى منطقة الصف بوجه عام، وبخاصة القرى التى تحوي منشآت صناعية كعرب أبو ساعد، وكشفت الدراسة عن زيادة العناصر الثقيلة فى المياه، لكن مسئولى المركز رفضوا منحنا النتيجة التفصيلية للدراسة.

د. ريهام كامل رئيس شعبة تلوث الهواء بوحدة البيئة، والمشرفة على الدراسة، تؤكد أن النتائج تمثل خطرا على خصوبة الأراضى الزراعية، والحياة المائية.

تواصلنا مع عدد من المصانع بالمنطقة للحصول على ردود حول دورها فى تلوث المنطقة، وإصابة أهالي بأمراض، فأكد أربعة من أصحاب مصانع الطوب ، اضطرارهم للعودة إلى استخدام المازوت كمصدر للطاقة، بعد زيادة أسعار الغاز الطبيعي، وتراكم ديونهم. لكنهّم أوضحوا أن وزارة البيئة تجري تفتيشا دوري على مصانعهم، وتحرير محاضر، لكن مع غياب دورها فى دعمهم للاستمرار في استخدام طاقة أقل تلوثا.

ونفت إدارة مصنع إنتاج فحم الكوك، إسهام المصانع في التلوث البيئي بالمنطقة، ونفت أيضا عرض وزارة البيئة بتغير أبواب أفران المصنع ال70، مؤكدة أن عدد الأفران العاملة بالفعل لا تتعدى ال40 مصنع وهو ما يتنافى مع تقارير وزارة البيئة.

بينما امتنعت إدارة مصنع سماد حلوان، ومصنع الحديد والصلب عن الرد عما جاء فى التحقيق من وقائع، ورفضت وزارة البيئة أيضا التعليق، رغم محاولات الاتصال بها، التي استمرت ثلاثة أسابيع، حيث تسلم وزير البيئة خطاب خاص تضمن طلب مقابلة للرد على كل ما ورد في التحقيق لكنه تجاهله.

أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية “أريج” وبإشراف الزميل محمد الكوماني.

 


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *