لميس إسماعيل-مجلة الاقتصادي: تعيش أم وسيم على أعصابها رغم أنّها تخطّت الشهر السادس من حملها، متجاوزة بذلك مرحلة الخطر التي أجهضت فيها ثلاثة أجنة قبل أن تتخطّى الشهر الرابع من حملها خلال السنوات الخمس الماضية. ولم ينجُ من حوادث الإجهاض المتكرر لحمل أم وسيم سوى صغيرها “وسيم” الذي أكمل عامه الثاني أخيراً ليكمل معها فاجعة الأم حين تبين أن هذا الطفل يعاني من تخلّف عقلي بدأت ملامحه تظهر بوضوح.
طبيبها الخاص لخّص لها مشكلة الإجهاض المتكرر إضافة إلى مشكلة التخلف العقلي عند طفلها وسيم بكلمة واحدة نقص “اليود”.
أم وسيم الفتاة المتخرجة من الجامعة تدرك قضية نقص اليود التي ظهرت عام 1991 في سورية بعد أن تبين أن نحو تسعة من كل عشرة سوريين يعانون نقصاً في نسبة كفاية اليود “بين شديد ومتوسط وخفيف” وفقاً لدراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف”.
ذلك الناقوس دفع الحكومة لإطلاق برنامج مكافحة عوز اليود منذ ذلك الحين. على رأس أولويات ذلك البرنامج كان إلزام معامل الملح بوضع نسب من اليود بما يعوّض النقص لدى المواطنين السوريين المقدر عددهم بنحو 22 مليون نسمة، باعتبار الملح المادة الأكثر استخداماً لدى جميع فئات المواطنين.
اختبار على الكبار
أم وسيم تعلم بمشكلة عوز اليود، ولذا فقد كانت مهتمة بشراء الملح الميودن للاستخدامات الغذائية وهذا ما جعلها تستغرب التحليل الذي ذكره طبيبها للمشكلة.
الخبيرة في برنامج عوز اليود السوري ومسؤولة برنامج “بقاء الطفل ونماؤه” بمنظمة اليونسيف إيمان بهنسي تلخّص الحالة بأنّها ناتجة عن تعبئة الملح الميودن بأكياس بلاستكية شفافة يجعلها معرضة لتناقص تركيز اليود لدى تعرّضها للضوء، أشعة الشمس، الرطوبة أو الحرارة. هذا الأمر الذي دفع وزارة الصحة السورية في عام 1997 لإجراء اختبار على الملح المباع في الأسواق من أكبر أربعة معامل ملح في سورية “التبني، الراشد، الميماس، الصفا”.
الكيميائية سامية حداد من مديرية مخابر الصحة العامة تشرح بأنه تمّ اختيار عينات الملح من المنتجات المطروحة حديثاً في الأسواق ومغلفة بالشكل المعتمد لدى المعامل “أكياس نايلون”، أخضعت العينات لقياس نسبة اليود فيها في بداية الشهر الرابع ثم أجري اختبار مماثل في نهاية الشهر التاسع تقريباً، فتبين تناقص نسبة اليود بنسبة تراوحت بين 3- 8% بسبب تعرّض الملح للضوء أو لأشعة الشمس ضمن محلات البيع، هي نسبة ستكون لها نتائج مسببة لنقص اليود المتوسط وربما الشديد، بحسب رأي الصناعي باسل دعبول، أحد أصحاب المعامل المنتجة للملح الميودن والذي مثلهم لدى إجراء الاختبار.
يضيف دعبول: “اتفقت اللجنة على أثر هذا الاختبار على ضرورة تعديل المواصفة السورية لتغليف الملح الصادرة في عام 2008 لضمان ضرورة تعبئة وتغليف الملح الميودن بعبوات من مادة البولي إتيلين الصالحة للاستخدام الغذائي وغير النافذة للضوء أو لأشعة الشمس”. على أن دعبول وسائر أعضاء اللجنة يتفقون على أن هذه التوصية التي خرجت من لجنة مكافحة عوز اليود قبل 12 عاماً مازالت حبراً على ورق، فلم تدرجها وزارة الصناعة ضمن المواصفات كما لم يلتزم بها أصحاب المعامل البالغة نحو 25 معملاً لأسباب توضّحها عبير العلي من مخابر وزارة الصحة المتخصصة باليود: “إذا فرضنا على أصحاب المعامل تعبئة الملح بأكياس غير شفافة أو ملوّنة فإنّ ذلك سيفرض عبئاً مادياً. والأمر الآخر هو الناحية النفسية لدى شراء المستهلك لأي منتج، إذ يفضّل أن يرى مدى نقاوته ولونه”. وتردف عبير “نحن قادرون على إلزام المصانع بالتعبئة ضمن عبوات صحية لكن المتوقّع أن يرفع ذلك التكلفة على أصحاب المعامل. فإذا لم يكن لديهم مانع نحن ليس لدينا مانع”.
لكن ممثل أصحاب المعامل في اللجنة الوطنية لمكافحة عوز اليود الصناعي باسل دعبول يرى أن على وزارتي الصحّة والصناعة تبنّي إطلاق حملة إعلامية بهدف نشر الوعي لدى المستهلكين حول مخاطر تعبئة الملح الميودن بأكياس النايلون الشفافة والعادية لما له من المخاطر المتراكمة ما بدأت تظهر نتائجه الآن، معتبراً أنّ مثل هذه الحملة ستؤدي إلى مساعدة أصحاب المعامل في استخدام العبوات الآمنة التي أوصت بها اللجنة وسيكونون على استعداد لتقبل التكلفة الإضافية التي يمكن أن تضاف على أسعار الملح العادية”.
ويضيف دعبول إنّ بدائل الأكياس الشفافة المستخدمة حالياً، إمّا أن تكون أكياس غير شفافة من النوع الحليبي وهذه يمكن أن تمنع نفوذ الضوء والشمس، واستخدامها لن يزيد على سعر كيلو الملح “المحدد رسمياً بعشر ليرات سورية” سوى قروش قليلة، لكنّ المصانع تجنبتها بناءً على طلب المستهلك الذي يرغب برؤية الملح ضمن أكياس شفافة، ويعلّق دعبول: “لو كان المستهلك يعرف بمخاطر هذه الأكياس الشفافة لما فضّلها”.
أمّا الطريقة الثانية التي درستها اللجنة بحسب دعبول فهي العبوات الكرتونية أو البلاستيكية غير الشفّافة وهذه العبوات سيؤدّي استخدامها-كما يقول-إلى زيادة سعر كيلو الملح نحو 5-6 ليرات سورية.
الزيادات المتوقّعة على أسعار الملح في حال استخدم التغليف الصحّي تؤيدها أم وسيم وذوي مئة طالب تتراوح أعمارهم بين “8-10″ سنوات شملهم اختبار الذكاء الذي أجرته مجلة الاقتصادي لصالح هذا التحقيق استنادا إلى مقياس ليتر “leiter” لقياس القدرة العقلية لدى الأطفال والذي أثبت أن نحو 84% من الطلاب الذين جرى اختبارهم يعانون من انخفاض بمستوى النشاط العقلي بين متوسط وضعيف.
مقياس ليتر الذي طبقه هذا التحقيق الاستقصائي يؤكد ما سبق وتوصلت إليه دراسة اليونسيف الصادرة عام 2008 والتي طبّقت على 2000 طالباً في 13محافظة سورية وأثبتت “أن هناك علاقة ما بين درجة عوز اليود وما بين مستوى الأداء المدرسي” وتوضّح عبير علي أحمد أن آثار نقص اليود تبدو بشكل أوضح لدى الأطفال وتمتد إلى مرحلة الكهولة، كما أنها يمكن أن تبدأ في مرحلة تشكل الجنين أثناء الحمل وتؤدي إلى “نقص الثيروكسين لدى الحامل وبالتالي ولادة أطفال يعانون من صعوبات في التعلم، واضطراباً في نمو الدماغ وتدني نسبة الذكاء”.
كما أن آثاره تمتد إلى المرأة الحامل نفسها لتسبب في “قصور الدرق، اضطراب الدورة الطمثية، اضطراب الأباضة، العقم، الإسقاط المتكرر….”.تراجع
“إن قضاء البشرية على مشكلة عوز اليود هو انتصار يوازي ما حقّقته عند قضائها على مرض الجدري وشلل الأطفال”، هذا ما ورد في كتاب “نحو القضاء العالمي على الأذية الدماغية الناجمة عن عوز اليود”.
وتتبدّى لنا خطورة نقص اليود، والتي يكشفها هذا التحقيق أنها بدأت تأتي من منافذ أخرى أهمها سوء تغليف أكياس الملح “وهي الطريقة المعتمدة في معظم الدول النامية” الأمر الذي دفع منظمة اليونسيف لإجراء دراسات شملت سورية إضافة إلى عدد من الدول الآسيوية والإفريقية الأخرى لتصل إلى نتائج مشابهة.
ورغم نجاح الجهود الرسمية السورية في تخفيض نسبة عوز اليود من نحو 90% عام 1991 إلى نحو 45% عام 2000 فإن هذا النجاح بدأ يتراجع، بحسب الاختبار الذي توصلت إليه لجنة عوز اليود السورية من نقص في هذه النسب بسبب تغليف مادة الملح بالنايلون والذي تستخدمه 93% من الأسر السورية، وفقاً لدراسة أخرى أجرتها منظمة اليونسيف بالتعاون مع وزارة الصحة السورية ونشر عام 2006.
حيث تزامن هذا التراجع مع بدء استخدام الأكياس البلاستيكية الشفافة في تغليف الملح في منتصف التسعينيات وهو مابدأت آثاره تظهر حين تبيّن أن عوز اليود بدأت نسبته تزداد في أحدث دراسات منظمة اليونسيف حيث تبيّن ارتفاع نسبة عوز اليود المتوسط سنة 2006 إلى 12.99% مقارنة بنتائج الدراسة التي أجريت عام 2000 والتي بلغت نسبة 8.2%.
إلا أن العقبة ما تزال تتمثل بعدم تطبيق توصيات اللجنة بتغيير مواصفة التعبئة لتكون من العبوات التي لا تسمح بنفاذ الضوء أو الشمس. ويقول المهندس عبد الرزاق الحمصي من هيئة المواصفات والمقاييس السورية:”كل المواد ملزمة بطرق تغليف معينة. ولكن المواصفة لم تحدد نوع التعبئة للملح بل اشترطت أن يعبّأ الملح بأكياس من نوع اللدائن أو علب يمكن إغلاقها أو إعادة إغلاقها. لكن نوع البلاستيك لم يحدد ضمن المواصفة”.
وتوضّح إيمان بهنسي أنّه من خلال نتائج الدراسات التي أجريت لمتابعة تقييم مشروع مكافحة عوز اليود لوحظ ارتفاع نسبة عوز اليود المتوسط سنة 2006 كما أوضحنا أعلاه. وهذا “أمر مستغرب”، كما تقول. لكنّها تلفت الانتباه إلى أنّ هذه الفترة التي شهدت زيادة عوز اليود المتوسّط تزامنت وإقدام أصحاب المعامل على ترك التغليف بالعبوات غير الشفافة والاتجاه للتغليف البلاستيكي. وأكدت إيمان بهنسي أن النوع الشفاف من النايلون أو الأكياس البلاستيكية من أكثر العوامل التي تسمح بنفاذ الضوء والحرارة مسبّبة في خفض تركيز اليود.
ويكشف الصناعي باسل دعبول أن معامل الملح كانت تستخدم في بداية التسعينيات عبوات صحية من النوع الحليبي التي لا تسمح بنفاذ الضوء، إلا أنها تراجعت عن ذلك واستخدمت الأكياس البلاستيكية من النوع الشفاف لأسباب تسويقية، يشرحها دعبول بقوله: “يرغب المستهلك برؤية مادة الملح ويعتقد أن الأكياس الشفافة تظهرها له بشكل نقي. ولم يعتد على الاطمئنان للعبوات غير الشفافة، وهو ما يدفعنا للدعوة إلى حملة شاملة تبدأ بتغيير المواصفة وتشرح للمستهلك الأضرار الصحية الناجمة عن نقص اليود بسبب التغليف”.
في عام 2006، وجدت دراسة لمنظمة اليونسيف على 3000 أسرة سورية في محافظات القطر الـ 14 أن نحو 65% من هذه الأسر لا تدرك مخاطر عدم استعمال الملح الميودن وتأثيره على الأطفال، وتبين أن 22% من الأسر السورية التي شملتها الدراسة تحتفظ بالملح ضمن أكياس البلاستيك نفسها التي تشتريها من السوق، ما يؤدي إلى تعرضها لمزيد من نقص اليود بسبب الضوء.
حملة
يتزامن تحضير هذا التحقيق الاستقصائي مع أول حملة تطلقها سورية ضد الأكياس البلاستيكية، أعلنت عنها أخيراً وزيرة الدولة لشؤون البيئة كوكب الداية وحذّرت من مخاطر استخدام المواد أكياس النايلون في تعبئة المواد الغذائية، ورغم أنّها لم تحدّد الملح أو أية مواد غذائية أخرى على وجه الخصوص إلا أن المتابع لآراء الخبراء الذين تحدثوا في هذه الحملة يدرك هذه المخاطر والتي يبدو أنها لن تتوقف أضرارها التي يمكن أن تصيب الإنسان بل تشمل المنتجات الإسمنتية حيث تنبهت وزارة الصناعة – والتي تتبع لها المواصفات والمقاييس وبيدها قرار تعديلها – إلى ضرورة عدم تغليف الاسمنت بأكياس النايلون حفاظاً عليها من الضرر بينما لم يصدر حتى الآن قراراً بتعديل مواصفة أكياس الملح ليمنع الضرر على الإنسان، ولم تقدّم الوزارة أو هيئة المواصفات والمقاييس أية مبررات واضحة لعدم تغيير المواصفة، بل اكتفى المعنيون بالإجابة بأنّهم يدرسون الأمر.
تم إنجاز هذا التحقيق بدعم من شبكة أريج “إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية”وبإشراف الزميل حمود المحمود
Leave a Reply