تحقيق: بسمة مصطفى
التحرير– “انت لك في الشمال؟”.. صدم السؤال المرأة الثلاثينية سندس بعدما دخلت إلى مكتب خدمات في شارع الهرم بمحافظة الجيزة بحثًا عن فرصة لكسب العيش كعاملة منزلية.
لملمت سندس أطراف العباءة السوداء المنسدلة حول جسدها، وسحبت نفسها بهدوء من المكتب لتبتعد عن “الشمال” التي أصبحت كلمة في اللغة الدارجة تشير إلى الأعمال المنافية للآداب.
حصلت لاحقا على فرص أخرى من خلال مكاتب الخدمات لكن التجارب كانت بائسة. واجهت سندس محاولات جديدة لتوريطها في أعمال جنسية، وفي منازل أخرى كانت تعمل لساعات إضافية طويلة دون مقابل، وأحيانا تعجز عن الحصول على أجرها الأصلي، فضلًا عن الاهانة وسوء المعاملة.
حالة سندس تعبر عن قطاع كبير من عاملات المنازل في مصر أكثر الدول سكانا في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا حيث تقدر منظمة العمل الدولية أن عاملات المنازل يمثلن حوالي 20 في المئة من قوة العمل النسائية في المنطقة. ولا يوجد في مصر قانون ينظم عملهن ويوفر لهن الحماية، مما يعرضهن لانتهاكات من مكاتب خدمات، وسط ضعف الرقابة من وزارة الداخلية ونفي القوى العاملة مسؤوليتها.
تقول سندس إن “كل شيء في مكاتب الخدمات مباح”. وتذكر أنها تقاضت 600 جنيه حين عملت في سهرة ليلية “فتاحة”، وهي فتاة تجلس مع زبون الملهى لتشجيعه على فتح زجاجات خمر جديدة. وتتراوح أجرتها اليومية كعاملة منازل بين 150 و200 جنيه. وقالت إن نفس المكتب الذي عملت من خلاله أرسل فتيات أخريات للعمل “ريكلام”، وهي فتاة تستعرض مفاتن جسدها لاثارة الزبائن دون ممارسة الجنس، رفضت سندس أن تكمل هذا الطريق لكنها تقول إن “فتيات أخريات أكملن بسبب ضغوط المكاتب والحاجة” وانتهى بهن الأمر عاملات جنس.
تتبع كيفية استدراج فتيات وسيدات مثل سندس واستغلال ظروفهن استدعى من معدة التحقيق التخفي في هيئة خادمة منزلية لتوثيق مخالفات مكاتب الخدمات. زرنا 11 مكتبًا ووثقنا 13 شهادة لنساء كشفن تعرضهن لانتهاكات واستدراج لأعمال جنسية عبر المكاتب.
أول سؤال من المكتب لطالبة العمل يكون عن الحالة الاجتماعية وصورة للبطاقة الشخصية. تقول سندس، إن الحالة الاجتماعية مهمة لدى المكاتب لتحديد مدى سهولة استدراج العاملة إلى تجارة الجنس. وتضيف “الأولوية للمطلقات ثم المتزوجات”.
أحد المكاتب، في شارع رئيسي في حي الدقي بالجيزة، صاحبته محامية. وللوهلة الأولى يبدو كل شيء مرتبا وقانونيًا، ولكن في الزيارة الثانية، وبعد عدة مكالمات بين المكتب ومعدة التحقيق، طلب القائمون على العمل حضوري قائلين إنهم حددوا لي موعدًا مع مستثمر كبير يعمل بالعقارات ويحتاج إلى عاملات نظافة باليومية من أجل شقق مفروشة.
جلست معدة التحقيق مع المستثمر المزعوم الذي سرعان ما قال إنه مدير المكتب ولديه أعمال تدر مالًا كثيرًا. وعرض في المقابلة التي سجلناها بكاميرا خفية في المكتب ما لديه من أعمال كمضيفات أو تقديم “نمرة” راقصة في ملهى ليلي بالإضافة إلى تنظيم سهرات خاصة مع سياح عرب. وقال إنه في المرة الأولى سيرسل معي ثلاث فتيات لطمأنتي.. وطلب صورة خاصة لتسويقها لدى الزبائن. تذرعت بأني مطلقة وأحتاج بعض الوقت لترتيب أموري.
تواصلنا مع المكتب لاحقا عبر تطبيق واتس اب باستخدام رقم الهاتف الموجود على صفحاتهم على الانترنت. ورد مسؤول بالمكتب على الاتصال وقال في رسائل مكتوبة إن الموظف المعني فصل من العمل وان الشركة غير مسؤولة عما تم إثباته. ورفض الكشف عن سبب الفصل. لكنه أشار الى أن ثلاثة موظفين فصلوا في قضايا مشابهة. وقال ان الشركة مسؤولة عن “الوساطة بين الطرفين.. الأسرة وطالب العمل.. نوفر الامانة والجدية والاحترام بينهم”. وقال إنه توجد حماية للموظفات والمتقدمات للعمل لكنه لم يذكر تفاصيل عن سياسات محددة لذلك. وردا على طلب ارسال الاسئلة الى صاحب الشركة للرد عليها قال “عندك مستند قانوني قدمه للتحقيق، غير كده ملكش حق ولا نقاش”.
عمل بلا حقوق
ثمانية من 11 مكتبا زرناها في أنحاء القاهرة لا تضع لافتات بالخارج تدل على نشاطها، أحدها وضع لافتة لتأجير السيارات. ويقول المحامي مالك عدلي، مدير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إن عدم وضع لافتة تدل على عمل المكتب، أو وضع لافتة مغايرة، يشير إلى أن هناك مخالفات وأن المكتب غير مرخص. وتعاقب المادة 5 من قانون السجل التجاري على هذه المخالفة بغرامة تتراوح بين عشرة جنيهات و100 جنيه.
ولا تقدم المكاتب عقودًا لعاملات المنازل. وإذا حررت عقدًا مع صاحب المنزل يكون لضمان عمولة المكتب، أما العاملة فلا حقوق لها سوى اﻷجر، والذي لا توجد أية ضمانات للحصول عليه، بل ربما تكون النهاية احتجازها في قسم الشرطة بتهمة السرقة إذا اشتكت.
أحد المكاتب يحرر عقودًا ثلاثية تضم المكتب وصاحب العمل والعاملة. لا يوجد بالعقد الذي اطلعنا عليه توصيف للعمل ولا عدد ساعات العمل ولا كيفية ضمان حقوق العاملة. يذكر العقد راتب العاملة وعمولة المكتب ويخلي مسؤولية المكتب من أي مشاكل تالية بين العاملة وصاحب المنزل..
إخلاء مسؤولية المكتب تتيح له مساحة للمناورة والتلاعب بأصحاب المنازل أيضا. تقول سندس إنها بعد اسبوع من التحاقها بالعمل لدى أسرة براتب ثلاثة آلاف جنيه وعقد لمدة ثلاثة أشهر، اتصل بها المكتب وطلب منها ترك العمل لأنه وجد لها فرصة عمل براتب 4000 جنيه. في هذه الحالة يحصل المكتب على عمولة جديدة من صاحب العمل الجديد إلى جانب العمولة التي تقاضاها بالفعل من المنزل الذي كانت تعمل به.
أبلغ مسؤولو جهاز حماية المستهلك معدة التحقيق أنهم تلقوا شكاوى من أصحاب منازل بخصوص عدم التزام مكاتب الخدمات عند توريد عاملات منازل. لكن المسؤولين رفضوا كشف عدد الشكاوى.
نساء على الهامش
تشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن عدد عمال المنازل يبلغ 53 مليون شخص على مستوى العالم تشكل النساء منهم 83% . وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يوجد 2.1 مليون عامل منزلي. وتشكل عاملات المنازل 20 في المئة من قوة العمل النسائية بصورة عامة. وعلى مستوى العالم تمثل النساء أكثر من 80 في المئة من عمال المنازل.
ومهنة عاملات المنازل من نوعية الأعمال المحجوبة عن التسجيل في الإحصاءات الوطنية، بحسب زينب خير رئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التي أشارت إلى عدم وجود كيان مؤسسي لحماية العاملات في تلك المهنة.
وتقول دراسة للجمعية المصرية للنهوض والمشاركة، صدرت عام 2012 بعنوان (عاملات المنازل.. أي حماية) إن 90٪ من العاملين بقطاع العمل بالمنازل نساء وأطفال. وأظهرت الدراسة أن العاملات يمضين في العمل أكثر من ثماني ساعات وأحيانا بدون إجازات أو بأجر ضعيف.
أكدت العاملات اللواتي اجرينا مقابلات معهن، أنهن يعملن لما يصل إلى 14 ساعة يوميًا.
وفي دراسة ميدانية صدرت عام 2010 بعنوان (عاملات المنازل في مصر–الخصائص والمشكلات والحلول) شملت 318 عاملة متزوجة، أجمعت العاملات على أن الدافع الأساسي للعمل هو توفير دخل للأسر التي تعاني كلها من الفقر والمرض بسبب فقدان عائل الاسرة بالطلاق أو الوفاة أو السجن أو الزواج بامرأة أخرى وهجر المنزل. وكشفت الدراسة أن 87.5% من أسر العاملات تعتمد على دخلهن بشكل رئيسي.
وتقول رانيا التي تعمل بالخدمة المنزلية منذ 4 سنوات، ولديها 4 أطفال، إن العمل بهذه المهنة “بهدلة” إذ تتعرض لمعاملة غير لائقة ويتم تأخيرها عمدًا بعد إنهاء عملها، وحين تطلب الانصراف من أجل ابنائها يكون رد صاحبة المنزل “توقفي عن العمل واقعدي جنب عيالك”. وأضافت أن أصحاب منازل رفضوا توظيفها لأن لديها أطفالا معتبرين أنها غير متفرغة.
خارج القانون
لم توقع مصر على اتفاقية العمل اللائق للعمال المنزليين رقم 189 لعام 2011 وتنص على ضرورة تمتع العمال المنزليين بالحقوق الأساسية نفسها كأي عامل آخر بما في ذلك ساعات عمل معقولة، راحة أسبوعية مدتها 24 ساعة متتالية على الأقل، ووضوح أحكام وشروط التوظيف.
وعمال المنازل مستثنون من قانون العمل طبقًا للمادة 4 من القانون رقم 12 لسنة 2003 على أساس أن محال عملهم خارجة عن مجال السلطات الرقابية بسبب حرمة المسكن الخاص، بحسب المحامي مالك عدلي. وتخضع أحكام تشغيلهم للقانون المدني وكذلك العقود بينهم وبين ارباب العمل، إذا ما كانت هناك عقود.
مخالفات مكاتب الخدمات تمتد إلى تشغيل أطفال دون السن القانونية للعمل. تقول رحمة (16 عامًا) إنها ترددت على مكتب في منطقة حلمية الزيتون بالقاهرة. وحصلت على عمل في فيلا بمنطقة التجمع الخامس على أطراف القاهرة، مقابل 3000 جنيه شهريًا. وهناك تعرضت لاعتداء بدني بعدما رفضت محاولة الابن الأكبر للأسرة لممارسة الجنس معها. اتصلت هاتفيًا بوالدتها التي حضرت لمكان عملها وعادت بها دون أن تحصل على راتبها.
لم تفكر رحمة في تحرير محضر بالواقعة، وتقول “لا يوجد ما يثبت صحة كلامي، ولا يوجد حتى عقد عمل مع المكتب. “
وتقول دراسة (عاملات المنازل.. أي حماية) التي أعدتها د. أمل فرج إن النسبة الأكبر من عاملات المنازل أميات في ظل الصلة الوثيقة بين الفقر والتسرب من التعليم.
لا مجال للشكوى
ويقول مسؤولون من وزارتي القوى العاملة والداخلية، إن شكاوى العاملات من ممارسات مكاتب الخدمات تكاد تكون معدومة في ظل نسبة الأمية المرتفعة بينهن وعدم وجود قانون منظم لعملهن.
وتقول رشا (31 عاما)، إنها تعرضت للنصب عدة مرات على مدى 13 عاما أمضتها كعاملة منزلية. وحين احتجزت أسرة كانت تعمل لديها راتبها ثلاثة أشهر، شكت لصاحب المكتب لكنه قال إنه غير مسؤول. وطلب الشرطة وحرر ضدها محضرًا بالتعدي عليه وسرقته وظلت محتجزة يوما كاملا حتى تنازل عن المحضر .
وتقول رشا التي تقترب من إكمال نصف عمرها في العمل بالمنازل إنها لم يعد لديها استعداد لتكرار الشكوى بعد هذه التجربة.
وتشعر رحمة ابنة الستة عشر عاما بمرارة في حلقها كلما تذكرت عجزها عن العثور على سند يدعمها للشكوى من الاعتداء الجسدي عليها بعدما رفضت محاولات ابن صاحب المنزل ممارسة الجنس معها.
تقول سعاد الديب، رئيس الاتحاد النوعي لجمعيات حماية المستهلك إنها استمعت لشكاوى شفهية لكن الخوف على السمعة هو أكثر ما يمنع عاملات المنازل من الشكوى رسميا.
القوى العاملة تنفي المسؤولية
وقال المحامي كريم عبد الراضي المستشار القانوني بالمجموعة المصرية للدفاع والمساندة القانونية إن قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 لم يتضمن نصا يبيح أو يجرم تشغيل خادمات المنازل، ولا يوجد إطار قانوني واضح للشركات أو المكاتب التي تتولى تشغيلهن. وإذا أرادت إحداهن التقدم بشكوى يكون البت فيها وفقا للقانون المدني الذي يحكم التعاقدات المدنية بشرط وجود ما يثبت التعاقد.
وأضاف أن مكاتب الخدمات هي عبارة عن شركات تجارية عادية تؤسس للقيام بأنشطة مثل الصيانة المنزلية، وتسجل في وزارة الاستثمار بعد حصولها على بطاقة ضريبية وسجل تجاري، وهو ما أكده مسؤول في مكتب تأسيس الشركات في هيئة الاستثمار ردا على طلب من معدة التحقيق عبر محام للموافقة على تأسيس مكتب خدمات.
وقال إنه لا توجد جهة محددة تراقب عمل مكاتب الخدمات إذ تخضع لرقابة جهات عدة كل حسب تخصصه، فمثلا إذا عملت في تجارة الجنس تلاحقها مباحث الآداب، وإذا قامت بأعمال تجارية تحاسبها وزارة الاستثمار، وإذا عملت في غسل الأموال تلاحقها مباحث الأموال العامة. وأشار إلى أن عملها في توظيف عمال المنازل يستغل عدم وجود تغطية قانونية لتلك الفئة.
محمد عبدالفتاح المسئول بالمكتب الإعلامي لوزارة القوى العاملة قال لمعدة التحقيق إن الوزارة لا تصدر تراخيص لمثل هذه المكاتب، وأضاف أن الوزارة تنوى تقديم مقترح تشريعي يحمي حقوق عاملات المنازل لكنه لم يذكر تفاصيل.
وقال وكيل وزارة القوى العاملة، ورئيس الإدارة المركزية للتشغيل محمد عبدالرحمن، إن مكاتب إلحاق العمالة بالداخل تصدر تراخيصها من وزارة القوى العاملة وإن مهامها هي إلحاق العمالة لدى شركات ولا يحق لها توظيف خدم منزلي، وفي حالة ضبط أي مكتب تشغيل يوظف عمال منازل، فقد يتعرض للغلق وأشار إلى أن عدد مكاتب التشغيل المرخصة في مصر يصل إلى 330 مكتبًا.
وقال إن خدم المنازل غير مدرجين في قانون العمل وبالتالي تصاريح عملهم تصدر من قبل وزارة الداخلية، لانها الجهة الوحيدة المنوط بها التفتيش على المنازل.
وفقًا لمكتب خدمة المواطنين بمديرية الأمن فإن التعليمات الأمنية تلزم مكاتب الخدمات باخطار قسم الشرطة التابعة له ببطاقات الهوية للعاملات، أما في حالة تشغيلهن في الخارج فيجب الحصول على موافقة من مباحث الأموال العامة.
وقال مصدر أمني في مباحث الآداب طلب عدم نشر اسمه إن الرقابة على هذه المكاتب تكون من خلال حملات أمنية تشكل من مباحث الأموال العامة ومباحث الآداب وأقسام الشرطة، وأيضا من خلال الاستجابة لما يرد من شكاوى ضد المكاتب. لكن المصدر لم يقدم ارقاما عن عدد الحملات أو حصيلتها.
وفي ظل غياب التنظيم القانوني وعدم وجود آلية تسمح لعاملات المنازل بالشكوى ستبقى حملات الشرطة بين الحين والآخر عاجزة عن وضع حد لما يتعرضن له من انتهاكات مريرة سواء في المكاتب أو المنازل.
إحساس المرارة اختصرته العاملة الثلاثينية رشا قائلة “بيعاملوني كأني حشرة”.
أنجز هذه التحقيق بدعم وإشراف شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)-www.arij.net.
Leave a Reply