على مدار أشهر، عملت أريج وشركاؤها -من خلال أكثر من 40 صحفياً/ة يمثلون 12 مؤسسة – على تقصي ظروف مقتل صحفيين فلسطينيين وإصابتهم في قطاع غزة. ويتضمن المشروع تقارير تكمّل عمل صحفيين/ات لم يعودوا قادرين على مواصلة انجازه بسبب الموت أو الإصابة.
نشرنا الجزء الأول من مشروع غزة، وهو تحقيق مشترك منسق بواسطة “فوربيدن ستوريز” (قصص محظورة)، في 25 حزيران/يونيو 2024. في ذلك الوقت، وصل عدد الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي في غزة إلى ما لا يقل عن مئة واثنين من الصحفيين، وفقاً للجنة حماية الصحفيين (CPJ)، وأكثر من 140 صحفياً، وفق نقابة الصحفيين الفلسطينيين (PJS). رقم قياسي مدمر، ومثير للغضب، مهما كانت الطريقة التي يُحتسب بها.
حتى بالنسبة لمجموعة من 50 صحفياً استقصائياً متمرساً من 13 مؤسسة إعلامية، كان نطاق الهجمات وتواترها ساحقاً. لم تكن هناك طريقة للتحقيق في كل حالة، على الرغم من أن كل واحدة منها كانت تستحق ذلك.
عانت غرف الأخبار والصحفيون ضغطاً هائلاً بسبب ضخامة ما يحدث، لم تقتصر الهجمات على الصحفيين، بل طالت المستشفيات، والأطباء، والمدارس. عملنا أيضاً على التحقيق في حالات فردية، إلى جانب التحقيق في النمط الأوسع للهجمات.
كنا نعلم أن القوة تكمن في الأعداد، وأن الجهد المنسق من قبل المؤسسات الإعلامية الكبرى يمكن أن يجذب انتباه الجيش الإسرائيلي، الذي يتجاهل أحياناً طلبات المؤسسات الفردية. كنا نعلم أننا سنحصل على رد، حتى وإن كانت الإجابات التي نتلقاها غير مكتملة أو غير مرضية.
لكن لم يكن لدينا أي أمل بأن تحقيقاتنا، مهما كانت قوية، ستؤدي إلى إجراء تحقيق حقيقي من الجيش أو من الحكومة الإسرائيلية. فقد وثّقت المنظمات الحقوقية والصحفيون إفلات إسرائيل من العقاب في حالات قتل الصحفيين المتكررة. (راجع “النمط القاتل” من لجنة حماية الصحفيين).
إيرين خان، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، تقول: “نحتاج إلى الضغط من أجل المساءلة. إذا استمر الإفلات من العقاب، فسيحدث ذلك مرة تلو الأخرى”.
ومع ذلك، كنا نعلم أن تحقيقاتنا، التي تجاوز عددها 20 تحقيقاً، ونُشرت في عدة وسائل الإعلامية في دول مختلفة، ستلفت الانتباه إلى هذه الكارثة، وستظل سجلاً تاريخياً للهجمات ضد الصحفيين الفلسطينيين.
منذ نشر الجزء الأول من مشروع غزة في حزيران/يونيو 2024، استمرت عمليات قتل الصحفيين في غزة، حيث تم قتل 55 صحفياً منذ ذلك الحين. باستثناء فترة الهدنة، أصبح المشهد يتكرر؛ أن نكتشف أن صحفياً قد قُتل، أن نرى سترة ملطخة بالدماء موضوعة فوق الجثة، يجتمع حولها الزملاء -عادة في المستشفى- ويخيم الحزن على أفراد العائلة وهم يذرفون الدموع على فقيدهم.
أما من نجوا، فيواصلون العمل دون توقف، على الرغم من حجم الخسائر والدمار، وما لديهم من مخاوف.
كنا نعلم مسبقاً أن الجزء الثاني ربما لن يختلف عن الجزء الأول، وأنه من المستبعد أن يؤدي إلى تحقيقات كبرى، لكن لم يكن أمام الفريق -44 صحفياً من 10 مؤسسات خيار سوى مواصلة العمل مجدداً.
لفترة من الوقت بعد سريان الهدنة، لم يُقتل أي صحفي؛ حتى جاء يوم السبت، 15 آذار/مارس 2025، وعادت مشاهد القتل مجدداً.
كان محمود سمير إسليم، المعروف باسم محمود البسبوس، صحفياً شاباً ومتحمساً في الخامسة والعشرين من عمره. كان يعمل مع وكالة رويترز، ووكالة “الأناضول” التركية. في ذلك السبت، كان محمود يصور افتتاح توسيع مخيم للنازحين في مدينة بيت لاهيا، لصالح مؤسسة الخير البريطانية، عندما استهدفت غارتان جويتان إسرائيليتان المنطقة، مُخلفة ما لا يقل عن سبعة قتلى، من بينهم إسليم.
أحد التحقيقات التي عملنا عليها، كجزء من مشروع غزة، كان يتعلق باستهداف الصحفيين الذين يستخدمون الطائرات المسيّرة في التصوير. شعار “فوربيدن ستوريز” ورسالتها: “يمكنك قتل الصحفي، لكنك لا تستطيع قتل القصة”. بدأنا بتصوير لقطات جوية للمناطق المدمرة في غزة، لنواصل العمل من حيث اضطر الآخرون إلى التوقف. كان التصوير يهدف إلى إنشاء أول نماذج فوتوغرامترية ثلاثية الأبعاد لجزء من غزة.
محمود البسوس، المصدر: شادي الطباطيبي
وظفت “فوربيدن ستوريز” صحفياً شاباً لتنفيذ المهمة؛ كان اسمه محمود إسليم.
وقع الهجوم أثناء سريان الهدنة. أصدرت إسرائيل بياناً تدعي فيه أن الطائرة المسيّرة (المُستخدمة في التصوير) كانت تمثل تهديداً لجنودها، واتهمت الضحايا بأنهم أعضاء في جماعات مسلحة. لم تذكر إسليم بالاسم، لكنّها أشارت إلى شخص يحمل اسماً مشابهاً. وعندما طلبنا توضيحاً، ردّ الجيش الإسرائيلي قائلاً: “لن نقدم أي تصريحات أخرى”.
قالت دجى داوود، منسقة برنامج اللجنة لحماية الصحفيين في المشرق العربي: “محاولات التشويه والتقليل من شرعية الصحفيين، ووصمهم بالجريمة لمجرد قيامهم بعملهم، هي أمور غير مقبولة وغير مسؤولة”. وأضافت أن اللجنة كانت على علم بعدة حالات اتهمت فيها إسرائيل الصحفيين بالارتباط بالمسلحين، وأن هذا ليس جديداً، بل هو جزء من نمط موثق.
في 24 أذار /مارس 2025، وبعد أيام فقط من خرق إسرائيل للهدنة بقتل 400 فلسطيني في ليلة واحدة، قتلت صحفيينِ اثنين خلال ساعة واحدة: محمد منصور، مراسل قناة “فلسطين اليوم”، الذي كان يحظى بدرجة عالية من المحبة والتقدير من زملائه الصحفيين في غزة، والمراسل حسام شبات، البالغ من العمر 23 عاماً، من قناة “الجزيرة مباشر”، وهو صحفي ذكي ولبق، وقد أجرينا معه مقابلة مفصّلة قبل أسابيع في إطار العمل على هذا المشروع.
في مقابلتنا مع حسام في كانون الأول/ديسمبر 2024، قال إن التهديدات والاتهامات من الجيش الإسرائيلي كانت رسالة واضحة لوقف التغطية: “هذه السترة، هذا الزي، هذه الخوذة، أصبحت مجرد تهمة. في اللحظة التي ترتديها، يطلقون عليك النار مباشرة”.
حسام شبات
مع حظر إسرائيل دخول الصحفيين الأجانب إلى غزة، إلا إذا كانوا مصاحبين لجنود الجيش، لم يكن حسام مجرد مراسل لقناة “الجزيرة مباشر”؛ بل كان صوتاً للعالم الخارجي، ينقل التقارير من منطقة لا يصلها سوى القليل من الصحفيين. وهو الأمر الذي يزداد صعوبة يوماً بعد يوم.
قدم فريق العمل طلباً لإسرائيل؛ للسماح لصحفيينا بالدخول والتغطية من غزة. وبينما سُمِح للأطباء وعمال الإغاثة بالدخول، ما يزال من غير الواضح لماذا يُحظر على الصحفيين ذلك؛ خاصة إذا كان الصحفيون -ووسائل إعلامهم- مستعدين لتحمل المخاطر. لم تُقدّم إسرائيل أي تفسير معقول لهذا.
تكريماً لمحمود، ومحمد، وحسام، وجميع الصحفيين الذين قتلوا أو أُصيبوا في غزة، وللذين يواصلون عملهم في أقسى الظروف، عملنا على الجزء الثاني من تحقيقات مشروع غزة. نأمل أن تقدم هذه التحقيقات تحليلاً للهجمات الرئيسية، وأن تكون دعوة مجددة للمساءلة.
في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2024، أُصيب المصور الصحفي فادي الوحيدي، من قناة الجزيرة، برصاصة في عنقه أثناء تغطيته من جباليا، فيما وصفه الصحفيون بأنه هجوم مباشر بواسطة طائرة مسيّرة. كان فادي يرتدي سترة صحفية ويُغطي من منطقة “صفراء”، خارج إطار المنطقة “الحمراء” التي حددها الجيش الإسرائيلي في اليوم السابق.
يشمل هذا التحقيق تقديم مشهد كامل ثلاثي الأبعاد للموقع، وفيديو مدته 10 دقائق يشرح أحداث ذلك اليوم، بالإضافة إلى تحديد الموقع الجغرافي الذي يؤكد مكان تمركز الصحفيين. يتضمن التحقيق شهادات من جميع الصحفيين الذين كانوا حاضرين، وسجلات طبية، وتحليلاً جنائياً من الخبراء، بالإضافة إلى فيديو تم تصويره بواسطة الوحيدي نفسه قبل ثوانٍ من تعرضه للإصابة. تم إجراء مقابلة مع فادي مرتين، الأولى في غزة، والأخرى في القاهرة قبل أن يتم نقله إلى الدوحة.
هو الجزء الأول من تحقيق من جزئين، حول قتل الصحفيين الفلسطينيين الذين يستخدمون الطائرات المسيّرة. يوثق التحقيق ست حالات: خمسة صحفيين قتلوا، وأصيب واحدٌ هو عبد الله الحاج، الذي فقد ساقيه، لكنّه نجا من الموت، وأجرينا مقابلة معه لهذه القصة.
في كل حالة تقريباً، استُهدف الصحفيون بعد وقت قصير من استخدامهم الطائرات المسيّرة في التصوير. اتهمت إسرائيل عدة صحفيين بوجود صلات مع جماعات مسلحة، لكنّها لم تقدم أي أدلة موثوقة. أُدرج جميع الصحفيين الستة ضمن قائمة لجنة حماية الصحفيين.
هذا هو الجزء الثاني من تحقيقنا: أول إعادة بناء ثلاثية الأبعاد تُنشر للعلن لغزة منذ بداية الحرب. باستخدام لقطات الطائرات المسيّرة التي صورها محمود إسليم قبل مقتله، قامت “بيلينغكات” Bellingcat بإنشاء نماذج تفاعلية لاثنين من أكثر المناطق دماراً؛ جباليا والشاطئ.
التقنية المستخدمة تُسمى الفوتوغرامترية؛ وهي عملية تجمع مئات الصور المتداخلة، وتحدد النقاط المشتركة، وتحسب موقع الكاميرا لكل لقطة، لبناء نماذج ثلاثية الأبعاد دقيقة للأماكن الواقعية. على عكس الصور الثابتة أو صور الأقمار الصناعية، تتيح هذه النماذج للمشاهدين التنقل عبر الأنقاض، ومشاهدة أنماط الدمار، ورؤية البيئة الفعلية مثلما كان يفعل صحفيو الطائرات المسيّرة في غزة. تولت “فوربيدن ستوريز” تنسيق العمل؛ لمواصلة عمل أولئك الذين لم يعودوا قادرين على القيام بذلك.
مضت سنوات من الاحتجاجات الدولية، ولم يُحاسب أي جندي إسرائيلي على قتل صحفي. تبقى قضايا ياسر مرتجى، وشيرين أبو عاقلة، وسامر أبو دقة، من دون بتّ. كانوا يرتدون معدات حماية صحفية واضحة، عندما استهدفتهم القوات الإسرائيلية. قبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، ومنذ عام 2001، قُتل ما لا يقل عن 200 صحفياً برصاص إسرائيلي، ولم تتم إدانة أي جندي إسرائيلي في هذا الشأن.
يكشف تحقيق مشروع غزة عن أن آلية المحاسبة الداخلية في إسرائيل، وهي “آلية” تقصي الحقائق، التابعة لهيئة الأركان العامة بالجيش الإسرائيلي، تُغلِق القضايا بشكل روتيني، من دون اتخاذ أي إجراءات. وصلت ما نسبته 0.17 في المئة من الشكاوى إلى القضاء، كما تُظهر تقارير خبراء قانونيين، ووثائق حكومية مُسربة، أن هذه الآليات تُستخدم لحماية إسرائيل من المحاكم الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية.
يكشف التحقيق أيضاً عن جهود منسقة بين الوزارات الإسرائيلية، وحلفائها من المجتمع المدني، لقطع التمويل عن المنظمات الساعية لمساءلة إسرائيل، أو تشويه سمعتها، في إطار حملة أوسع تستهدف حرية الصحافة وعمل حقوق الإنسان.