أهالي سيناء بمصر يدفعون فاتورة “الحرب على الإرهاب”
علي سطوحي
حول نار الموقد، اعتاد ثابت الحارون مع عائلته جلسات السّمر، حيث منزلهم في مدينة رفح الحدودية بمحافظة شمال سيناء بمصر. إبريق شاي وآخر للقهوة، ولا شيء يُعكّر صفو يومهم؛ فالمساء كفيل أن يزيل مشقة نهار طويل من العمل.
بيت عتيق، شهد نضالات العائلة ضد الاحتلال الإسرائيلي، بناه جدّه الحارون، وهو أول بناء في مدينة رفح الحدودية، حيث كان محطة لاستقبال البريد المصري.
لم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لأنور الدهمي، الذي يعمل نهاراً بمزرعته، وليلاً يجد في جلسات السّمر والغناء متنفساً، حين يجتمع مع والده فوق تبة جبليّة بمدينة الشيخ زويد المجاورة لرفح؛ يسترجعان ذكريات “حرب استرداد الأرض” عام 1973.
حينها كان “قدري فارس” وافداً جديداً إلى مدينة العريش، وقد بدأ للتو باستصلاح قطعة أرض بالصحراء، ضمن مشروع تعمير الصحاري، الذي طرحته الدولة بعد استعادة سيناء. عاش قدري حياة مستقرة هناك وأنجب سبعة أبناء.
هبّت رياح “ثورة يناير” عام 2011، ومعها أمنيّات الأهالي بانتهاء سنوات التهميش، ومحو الصورة الذهنية، التى قدّمت بدو سيناء -من خلال بعض الأعمال السينمائيّة والدراميّة- مجموعة من المهربين وتجار المخدّرات. كانت الأجواء هادئة وحالمة بعد الثورة؛ لكنّه كان الهدوء الذي يسبق العاصفة.
تزامنت مع عزل الرئيس المصريّ، محمد مرسي، في تمّوز/يوليو 2013، عاصفة من العمليّات المنظّمة “الجهاديّة” ضد القوات المسلحة، تلتها عاصفة أخرى من العمليّات المسلحة، فى تشرين الأول/أكتوبر 2013، عندما نُفذت مجزرة راح ضحيتها 25 فرداً من القوات المسلحة المصريّة، عرفت إعلاميّاً باسم “مجزرة رفح الثانية”، هذه تواريخ لا تنسى.
حياة البدو فى شمال سيناء، وما تحمله من أحداث، تحكمها التواريخ الحاضرة في حياتهم اليوميّة، يحفظونها عن ظهر قلب: يوم الإنذار، ويوم الرحيل.
الرابع والعشرون من تشرين الأول/أكتوبر عام 2014، تاريخ آخر شهد حدثاً كبيراً، عندما نفذت جماعة “أنصار بيت المقدس” عمليتين إرهابيتين ضد القوات المسلحة، فيما سُمى بهجوم “كرم القواديس”، وذلك بعد أشهر من تولي عبد الفتاح السيسي رئاسة مصر.
فى العملية الأولى، قُتل 30 جندياً، إثر اقتحام شاحنة مُحمّلة بالموادّ المتفجرة، كمين “كرم القواديس”، عند الساعة الواحدة ظهراً. بعدها بثلاث ساعات، نُفذت عملية أخرى على نقطة أمنيّة بالعريش باستخدام الرشاشات، سقط خلالها ثلاثة جنود.
لكنّ تاريخاً آخر مثّل نقطة فارقة لسكان شمال سيناء؛ عندما أصدر مجلس الوزراء، في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2014، قراراً بإنشاء منطقة عازلة على الحدود المصريّة الفلسطينيّة في مدينة رفح، وإخلاء السكان، وتوفير أماكن بديلة لكل مَن يتمّ إخلاؤهم. تضمّن القرار تهديداً لمَن يمتنع عن التنفيذ “فى حال امتناع أيّ مقيم في المنطقة عن الإخلاء بالطريقة الوديّة، يتمّ الاستيلاء جبراً على ما يملكه أو ما يحوزه أو يضع يده عليه من عقارات أو منقولات”.
بعد هذا القرار، بدأت موجة الهجرة الأولى، فتمّ ترحيل السكان المحليين، وإخلاء البيوت الواقعة في حدود كيلومتر مربع قرب الحدود المصريّة الفلسطينيّة، بواقع ألفين و90 منزلاً. كانت هذه هجرة جماعية، وصفتها الحكومة المصرية بأنها إجراءات لحماية حدودها من “خطر الجماعات الإرهابية”.
مثّل هذا النزوح بداية موجات أخرى من الرحيل، استمرت لسنوات، لم يبقَ سوى موظفي المؤسّسات الحكوميّة، فيما اضطُرّ أصحاب العمالة الموسميّة والمسيحيّون إلى الرحيل؛ خوفاً من مصير الجوع أو القتل على يد الجماعات الإرهابيّة.
فى الشهر التالى للقرار، أعلنت جماعة أنصار بيت المقدس البيعة لتنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش)، وأطلقت على نفسها “ولاية سيناء”، لتبدأ بعدها موجة من العمليّات الإرهابيّة فى مدينتي رفح والشيخ زويد.
فى هذه القصة، نرصد ونوثّق المسارات الإجباريّة لسكان شمال سيناء بعد الحرب، بدايات مختلفة ونهايات واحدة؛ الرحيل، وانفراط عقد الأسر، ومحاولات الاندماج في بيئات جديدة، كما تتبّعنا التسلسل الزمنيّ للأحداث التي بدأت ولم تنتهِ بعد.
تتبّعنا مسارات سكان المدن الثلاث الأكثر تضرراً بهذه الحرب فى شمال سيناء؛ وهم ثابت الحارون من مدينة رفح، وأنور الدهمي من مدينة الشيخ زويد، وقدري فارس من مدينة العريش، أُجبر الثلاثة على النزوح ضمن موجات “هجرة” جماعيّة، بدأت منذ عام 2014 وحتى عام 2017.