"اليورانيوم المنضب" يسرطن جنوب العراق

6 مارس 2012

 الغد العراقي– لن يقدّر لليلى محمد قراءة هذا التحقيق، مع أنها كانت أحد مصادره، لأنها تحولت الى رقم في قائمة وفيات مركز السيطرة على السرطان (البصرة) المسجلة لهذا العام، تاركة زوجها كاظم ناصر من دون ابناء، لأن السرطان تمكن من جسدها كله في “خريفها” الرابع والثلاثين.

 يقول كاظم: “بعد سنة ونصف من زواجي في 2006 اكتشفنا ان زوجتي مصابة بسرطان الثدي الذي استوجب سلسلة علاجات انتهت باستئصال الثدي المصاب. غير أن حالتها الصحية لم تتحسن. وفي آخر مرة أخبرني الطبيب المعالج أن حالتها باتت حرجة ولا تستجيب للعلاج، وان ايامها باتت معدودة، وبالفعل توفيت خلال شهر بعد ان اقتات السرطان أحشاءها”.

 زوجة كاظم ناصر، واحدة من آلاف ممن لم يشاركوا في جبهات القتال في حرب الخليج عام 1991، لكنهم اصيبوا بأورام سرطانية مختلفة في محافظات البصرة وذي قار وميسان منذ الثلث الأول من تسعينيات القرن الماضي.

 ويؤكد مختصون في مجال حماية البيئة، تنامي الاعداد “الرهيب” جراء انتشار “التلوث الاشعاعي الخطير” الناجم عن استعمال اميركا وقوات التحالف، ذخائر مصنعة من اليورانيوم المنضب ضد اسلحة الجيش العراقي الثقيلة آنذاك، والتي نقلت من حفر الباطن الى داخل المدن بعد 2003 سنة الاحتلال.

 وما زاد من عمق المأساة وتنامي الأصابات سببان، الأول؛ أن سلطة الاحتلال عمقت الأزمة وحركت الاشعاعات في الجو وفي الانسان، بمحاولتها طمس الحقائق بعد ان سمحت عام 2004 بتقطيع وبيع الآليات العسكرية المعطوبة من الحروب السابقة، والثاني؛ أن عراقيين حركوا الموت من جبهات حفر الباطن، بنقلهم الآليات والقطع العسكرية الى اقضية ونواح واحياء مختلفة من البصرة، مثل ابو الخصيب والفاو والقرنة والدير والزبير و”الحيانية” والتي ما زال العمل يتواصل فيها ببيع سكراب الحديد ومخلفات الآليات العسكرية، مع انها في مركز المحافظة، (انظر الوثائق المرفقة بالتحقيق).

 ليلى محمد كانت تركت قضاء المدينة شمال البصرة لتقطن مع زوجها في حي العباس، الذي كان موقعا لجمع (سكراب) الحديد والآليات العسكرية التي عولجت باليورانيوم المنضب. ومن هنا تركت خلفها سؤالاً يتأرجح بين: هل اصيبت بالسرطان بعد انتقالها للحي الجديد، أم أنها اصيبت به قبل زواجها وانتقالها لهذا الحي، سيما أن جنوبي العراق شهد ما لم تشهده أي منطقة في العالم، فيما يتعلق بسرطان الثدي، ونعني به الأصابة المبكرة، بل المبكرة جداً.

يقول المختص في معالجة الأورام السرطانية بمحافظة البصرة وعضو مجلس السرطان في العراق الدكتور جواد العلي: “الإصابات السرطانية التي تعاملنا معها منذ الربع الأول من سنة 1994 وحتى الآن، غريبة جداً ومتنوعة. مثلاً، سجلت حالات اصابة بسرطان الثدي لفتيات لم يتزوجن ولم تبلغ أعمارهن الـ15 سنة، كما أشرنا لظهور حالات مرضية جديدة، منها تعدد الإصابات السرطانية في الشخص الواحد، وكذلك ظهور إصابات بين افراد العائلة الواحدة”. هذه “حالات غريبة تشكل مفارقات لم يعهدها الطب، سيما أنها تزامنت مع ارتفاع نسبة التشوهات الخلقية لدى حديثي الولادة. وارتفاع كبير أيضا في أعداد المصابين بالسرطان، ما حيرنا في بداياته، فخلال عقد التسعينات كان سرطان الثدي يسجل سنويا 70 حالة، اما الآن فيسجل 300، على ما يضيف د. العلي.

ويذكر مدير مركز السيطرة على السرطان في البصرة الدكتور كريم عبد السادة: “أن ارتفاع اعداد المصابين، رافقته غرائب ومفارقات مرضية. ففي سنة 2005 استقبل مركز السيطرة على السرطان 500 حالة، بينما كان عدد حالات السرطان المسجلة لمجمل عقد التسعينيات 1160 حالة، وبما يعني ان ما يقرب من نصف ما سجل في 10 سنوات، حدث في سنة واحدة”، ويضيف انه في العامين الفائتين “تسارعت الزيادة على نحو خطر؛ إذ سجل المركز 2082 مصابا في 2009 (4 أضعاف المرضى في 2005)، فيما قفز الرقم إلى 2538 في 2010، أي أكثر من ضعف ما رصده المركز خلال عقد التسعينيات”.

هذه الاحصاءات شملت الذين راجعوا مركز السيطرة على السرطان فقط، أو الذين قدر لهم أن يعرفوا أنهم مصابون بالسرطان في البصرة. أما في محافظتي ميسان وذي قار، فإن المسؤولين المحليين يؤشرون الى تنامي ظاهرة الإصابات السرطانية بالاستناد لأعداد المرضى الذين يقصدون بغداد للعلاج، لكن من دون تحديد أعدادهم بسبب افتقار المحافظتين إلى مراكز علاجية وسجلات.

ومن حديث الدكتور عبد الأمير ومصابين، نعرف أن هناك من فارق الحياة من دون مراجعة المركز أو مستشفيات البصرة، ويضيف: “تواجهنا مشكلة كبيرة، تتمثل باكتشاف المرض متأخرا، لأن أعراض غالبية أنواع السرطان، لا تظهر الا بعد انتشاره ووصوله إلى حال متقدمة يصعب علاجها”.

تشخيص بأثر رجعي

من جانبها، تتحدث رسمية رسن عن خطأ في تشخيص مرض والدها وسبب وفاته بمستشفى الموانيْ في حزيران 1994. “أخبرونا وقتها أن الوفاة نجمت عن رواسب مائية في الرئتين، تسببت في عجزهما. لم نكن نعرف باليورانيوم المنضب والسرطان وقتها. لكننا وبعد وفاة عدد من معارفنا في منطقة أبي الخصيب والبصرة بالمرض ذاته، وبعد إصابتي بالأعراض ذاتها التي اصابته، عرفنا انه توفي بالسرطان”.

 حمزة مشعل المصاب بالسرطان في مراحله المتقدمة يقول: “رغم معرفتي بأني قد لا أجد العلاج المطلوب، وأن الأدوية قد لا تمهلني طويلا، فإنني راجعت مستشفى العمارة وبعده مركز الاشعاع الذري في بغداد، لأني لم ارد ان اتعب اهلي كما اتعبهم اخي الذي كان يعاني ما اعانيه الآن قبل موته عام 1998 وذلك قبل أن يتم الـ40، بخاصة وانه كان يائساً من توافر العلاج والأدوية”.

 أما جاسب سرحان فيختصر معاناته بسؤال: “ما جدوى العلاج وانت تعرف انك ميت لا محالة؟ أعطوني اسماً واحداً لشخص عولج من السرطان وشفي منه؟”.

علاج السرطان يتطلب اموالاً وأدوية وعلاجات لا تتوافر لغالبية العراقيين، رغم رفع الحصار عن بلادهم قبل 8 سنوات.

 مدير عام دائرة صحة البصرة شاهد على الموت المتربص بآلاف المواطنين. يقول: “حالات السرطان بالمحافظة تتزايد، والتوزيع الجغرافي يبين ان هذه الحالات متساوية بين المناطق. وهذا يضعنا أمام مشاكل، منها عدم توافر كامل أدوية السرطان، إذ ان نسب توفير العلاج تتأرجح بين 80 و85 %”، وفق تخصيصات الوزارة. كما أن العلاج بالاشعاع معدوم في البصرة، ويتطلب بناية، بالاضافة لتوفير الاجهزة والكوادر المتخصصة، من اجل علاج السرطان”.

 لننتبه هنا، فعبارة “وفق تخصيصات الوزارة”، تعني أنها اذا لم تكن بالمستوى المطلوب، فإن المسرطن في العراق لن يجد علاجه، لأن السرطان يحتاج علاجاً كاملا يجتثه. فكيف سيكون الحال وعلاج السرطان يتطلب اموالاً قدر الأميركيون انفسهم انها ستكون معضلة على العراقيين؟

 في برنامجه “سري للغاية” الذي بث في 9 / 11 / 2000 عبر فضائية الجزيرة، يكشف الصحفي المصري يسري فوده أن العراقيين سيعجزون عن معالجة الكارثة التي حلت بهم، بعد أن اعيت الحيلة الأميركين أنفسهم في تنظيف بعض معداتهم الحربية من التلوث الاشعاعي باليورانيوم المنضب. وعندما قاس الأميركيون نسب الاشعاع في مدرعاتهم، قبل اعادتها للولايات المتحدة، وجدوا أن 6 منها “ملوثة للغاية”، ومن هنا غلفوها بأغطية، ودفنوها في السعودية. كما غلفوا بعضها الآخر بأغطية أيضاً وأعادوه إلى أمريكا، حيث أنفقت الحكومة 4 ملايين دولار على مشروع في ولاية كارولاين الجنوبية لتنظيف القطع المعادة.

 في البرنامج نفسه يجسد دوغ روكه – رائد سابق في الجيش الأميركي، وعين مديراً لمشروع اليورانيوم بوزارة الدفاع الأميركية بين سنتي 1994 – 1995 عمق المأساة حين يقول: “وزارة الدفاع الأمريكية تكلفت مشروعاً بملايين الدولارات، عمل فيه فيزيائيون ومهندسون مدربون لمدة 3 سنوات لتنظيف 24 دبابة ملوثة باليورانيوم المنضب، ماذا يمكن للعراقي المتوسط أن يفعل بآلاف المدرعات المدمرة المنتشرة عبر الصحراء في كل مناطق بلاده؟”.

تجارة الموت 

 الباحث البيئي خاجاك فروير وارتانيان يرسم بالوقائع والارقام صورة واقع البلاد القاتمة، ويكشف محاولات لطمس ادلة الجريمة. فبعد اسبوع على توقف العمليات العسكرية في حرب 2003، توجه لتحديد الاهداف العسكرية التي قصفت بقذائف اليورانيوم المشع في البصرة وتأشيرها بدلالات، لمنع الاقتراب منها او العبث بها. حتى عام 2004، سجل 73 هدفاً في مدينة البصرة وخارجها، أبلغ بها دائرة بيئة البصرة لتتخذ اجراءاتها بشأنها من النواحي الإجرائية والقانونية، بخاصة أنها حديثة وفي مناطق تختلف عن المواقع التي تلوثت خلال حرب الخليج الثانية 1991 (الموزعة غرب البصرة)، ولم يتم العبث بها لأن المنطقة كانت تحت اشراف الامم المتحدة في تلك الفترة ولأن الحكومة السابقة تحرم التعامل بالمعدات العسكرية لا سيما غير المعالجة منها”.

 ويخبر وارتانيان كاتب التحقيق: “سجلت 100 هدف، كلها ضربت بذخائر اليورانيوم المنضب. ولم اتمكن لاحقا من تحديد بقية الأهداف لأن سلطة الائتلاف المؤقتة في العراق، أقرت في عام 2004 مشروع (مايك اوشاي)، وهو قانون أجاز لكل مواطن حق جمع وتصدير المخلفات العسكرية والسكراب، دون تحديد نوعها أو كيفية تداولها. وهذا القرار شجع تجارا ومواطنين على تقطيع الآليات العسكرية المدمرة، سواء المصابة بقذائف اليورانيوم أم غيرها من مختلف مناطق القتال، وجمعها في المناطق الشعبية بالمدينة قريباً من محلات سكناهم”.

 ويضيف ان “هذا المشروع الغريب، كان يهدف في حقيقته الى محو جميع الادلة التي تثبت استخدام قوات التحالف لقذائف اليورانيوم خلال حربها على العراق عام 2003، كون القائمين على مشروع مايك أوشاي كانوا على معرفة مسبقة بأن الآليات العسكرية المنتشرة في البصرة دمرت بقذائف اليورانيوم”.

ورغم قيام مدير المختبرات الإشعاعية في الجيش البريطاني بالبصرة العقيد ديفد سميث باجراء مسح على الاهداف الملوثة عام 2004 في عدة مناطق بالبصرة، فإن العمل استمر بمشروع مايك اوشاي، الرجل التابع لسلطة الائتلاف المؤقتة، والذي وقع على بيع السكراب والمخلفات الحربية”.

 وارتانيان قال ايضا ان: “كل الاهداف التي مسحت اختفت بعد تقطيعها، وانتشرت في مواقع سكراب للحديد وراح عدد المواقع المشعة يتزايد جراء تحريك ونقل أجزاء وقطع الآليات العسكرية الملوثة من مكان إلى آخر عن طريق بيع وشراء هذه المواد”.

 ويشير وارتانيان الى أن: “المواقع الملوثة بالإشعاعات في المناطق السكنية، تتسبب بارتفاع حالات الإصابة بمرض السرطان، وكان لها تأثير واضح في ارتفاع نسبة التشوهات الخلقية عند حديثي الولادة. فالدراسات تظهر أن غالبية المصابين بالأمراض الناجمة عن التلوث الإشعاعي، يسكنون مناطق قريبة من مواقع التلوث سيما في قضاء الزبير وأبو الخصيب والقرنة والأحياء الشعبية في مركز المحافظة. وهذه المناطق تحتوي على المواقع التي تعرضت إلى قصف بذخائر مصنعة من اليورانيوم أو نقلت إليها أجزاء ملوثة من الآليات العسكرية للمتاجرة فيها، دون معرفة مدى خطورتها التي تكمن في أن مدى تأثير المواد المشعة المنبعثة من اليورانيوم المنضب، يصل إلى 5 بلايين سنة. كما أن لها قابلية الانحلال والتفاعل مع المواد الأخرى، ويتعرض الإنسان لأضرارها من خلال ملامسة الأجزاء الملوثة بها أو استنشاق الغازات الصادرة عنها”.

ويؤكد رئيس منظمة اطفال السرطان بالبصرة- هيئة مدنية – ليث الصالحي ما ذهب إليه وارتانيان. ويضيف: “لاحظت المنظمة تنامي حالات الاصابة في أحد شوارع منطقة القبلة في البصرة، حيث تعرض 16 مواطنا يسكنون منازل متفرقة في الشارع ذاته الى مرض السرطان خلال فترات متفاوتة”. هذا الشارع الذي يضم 30 منزلا “تعرض لقصف مدفعي اثناء دخول قوات التحالف الى مدينة البصرة عام 2003، ما يفسر حدوث اصابات سرطانية لأهالي الشارع دون سواهم من ابناء المنطقة”.

وخلصت نتائج استبيان وزعه كاتب التحقيق على 412 مواطناً يسكنون 60 منزلا في حي العباس بالبصرة – الذي يضم ملوثات باليورانيوم المشع – إلى وجود 11 حالة سرطان مثبتة لاعمار مختلفة من بينها (ليلى محمد) التي توفيت قبل استكمال التحقيق. هذا يعني ان نحو 3 % من هؤلاء السكان مصابون بالسرطان.

قيس حامد (42 سنة) أحد ضحايا المواقع المشعة في البصرة، مصاب بسرطان الدم منذ 2007، يقول: “نتيجة عدم توافر فرص عمل مناسبة عملت حدادا لسنة تقريبا في احد مواقع تقطيع الآليات العسكرية المقصوفة بمنطقة ابي الخصيب، لغرض الاستفادة من اجزائها وتسهيل مهمة رفعها. خلال تلك الفترة أجريت فحوصا طبية بعد تدهور وضعي الصحي، اثبتت اصابتي بسرطان الدم”.

أميركيون يذعنون للحقيقة

في حوارنا معه، بيّن عضو مجلس السرطان في العراق الدكتور جواد العلي ان: “انتشار السرطانات بشكل متساو في كل مساحة البصرة، يعني ان جميع مناطق المحافظة ملوثة بالمستوى ذاته من التلوث الاشعاعي”. ما يعني أيضاً أن التلوث الإشعاعي وزع “سخاءه السادي” بكثرة ايضاً فيما يتعلق بالتشوهات الخلقية والولادية. اذ يبين الدكتور العلي ان “المعدل الطبيعي للتشوهات الخلقية يقدر بولادة مشوهة واحدة لكل 1500 ولادة دوليا، في حين تصل النسبة حاليا إلى 21 حالة تشوه لكل 1000 حالة ولادة في البصرة”.

يؤشر المختص في شؤون التلوث الاشعاعي بجامعة البصرة الدكتور مسطر اللامي، مخاطر أخرى، حين يقول: “تأثيرات اشعاعات اليورانيوم ساهمت بتنامي ظاهرة العقم. فهنالك العديد من هذه الحالات في البصرة، ومن التأثيرات الأخرى التي رصدت لأشخاص تعرضوا لاشعاعات اليورانيوم بشكل مباشر، ثبت حدوث اجهاض متكرر لدى الحوامل والولادات الميتة، وتعفن الاسنان وتساقط الشعر”.  وهذا يؤكده استشاري امراض التوليد والعقم في مستشفى ابن غزوان بالبصرة، الدكتور عبد الكريم حسين جبر: فـ”حالات التشوهات الخلقية سجلت زيادة منذ عام 1995. ففي السابق كانت تحصل حالة ولادة مشوهة كل شهرين، لكن بعد هذا التاريخ ازدادت بشكل ملحوظ وبتشوهات غريبة تحدث لاول مرة. كما زادت حالات العقم ايضاً. وهذا الارتفاع يعود للاسلحة التي استخدمت في الحروب التي تعرض لها العراق والتغيرات البيئية التي رافقتها”.

في سنة 2008 عقد مؤتمر في البصرة بحضور أميركيين، طرحت خلاله قضية المواقع المشعة ضمن عدة بحوث، حسب وارتانيان الذي يضيف انها: “أكدت كلها ان القوات الأميركية تسببت بها جراء استعمال ذخائر اليورانيوم المنضب. ولما نفى الأميركيون حصول مثل هذه المخاطر، سلمتهم خرائط لهذه المواقع، وطلبت منهم الكشف عليها. وبعد شهر من ذلك طلبت لقاءهم، وهنا اعترفوا بوجود مواقع ملوثة، لكنهم ادعوا انها لا تؤثر على صحة الإنسان. وفي اللقاء الثاني وبعد قراءتهم لبحوث اجريناها ومقارنة معدل الاشعاع في البصرة والمسموح به في الولايات الامريكية، تغير التوجه الأميركي نحو التخلص من الاهداف وتحديد مواقع للطمر، واخترنا منطقة خضر الماي وخرانج (180 كم غرب البصرة) لتكون موقع لتجميع القطع الملوثة”.

وفي أكتوبر 2009 بدأ مشروع نقل الاهداف الملوثة باليورانيوم من البصرة، بتمويل فيلق الاعمار الأمريكي، وباشراف وزارتي البيئة والعلوم والتكنولوجيا. ونقل 200 طن، حسب مدير بيئة المنطقة الجنوبية طه القريشي الذي قال أن “هذه العملية أدت لرفع جميع المواقع الملوثة من داخل مركز مدينة البصرة”.

ولكن، وبحسب وارتانيان، توافرت عوامل عدة “لوأد المشروع بعد عام على انطلاقه، منها تدخل مسؤولين في البصرة بعملية اخلاء بعض المواقع لارتباطهم بعلاقات مع اصحاب مواقع تجميع سكراب الحديد، وتخلي الأمريكان عن دعم المشروع بعد أن لمسوا ضعف قرارات الحكومة المحلية، فضلا عن بدء انسحاب القوات الأمريكية من البصرة، وعدم توفير الحماية المطلوبة لمواقع الطمر ومراقبتها في موقع التجميع. ووجد وارتانيان ورفاقه خلال تفقدهم الموقع أن الاهداف التي “بذلنا جهوداً كبيرة للتخلص منها تم تقطيعها وسرقتها”.

ومن بين القطع المسروقة، أبراج دبابات، جرى تقطيعها بشكل هندسي لتستخدم في معامل تكسير الحصى، وكذلك ابدان ناقلات مدرعة قطعت كصفائح لصنع السيارات المصفحة”. المفارقة ان انعدام الرقابة جعل التواطؤ يضرب اطنابه في البصرة، بخاصة أن عمليتي التقطيع والسرقة تطلبتا عمالاً محملين بأجهزة وآلات قطع، لا يمكن ان تعمل من دون مولدات كهربائية. كما استوجبتا آليات كبيرة ورافعات لرفع الأجزاء الضخمة من اجل تقطيعها لنقلها بالشاحنات الى حيث يسكن المتعاملون بها.

تناقض صارخ

 وأكثر من هذا، ورغم خطورة القضية، إنطوت تصريحات بعض من شملهم هذا التحقيق على تناقضات ومفارقات، تكشف غياب العمل بروح الفريق الواحد، كما تكشف ان تحريك اليورانيوم ونقله كانا من الاسباب المباشرة في زيادة الاصابة بالسرطان وتناميها. ففيما يصف وارتانيان نقل الملوثات بـ”الناجحة”، يختلف معه الدكتور اللامي، إذ يرى أن “عمليات نقل سكراب الحديد الملوث لم تجر بالطرق العالمية السليمة، ولم تكن لها إستراتيجية واضحة، بل اعتمدت أساليب خاطئة، منها استخدام عمال وقتيين في نقل هذه المخلفات دون مراعاة لخبراتهم، أو توفير واقيات لسلامتهم الصحية. وأدى ذلك إلى حصول تلوث في المناطق القريبة من تلك المواقع التي نقلت اليها ومنها الأهداف الملوثة، وهو ما رصد خلال عمليات الكشف التي جرت بعد نقل المخلفات”.

 وارتانيان اختلف ايضاً مع مدير البيئة طه القريشي، ففيما يرى الأخير أن مشروع نقل الملوثات أدى لنقل الأهداف الملوثة خارج البصرة وبنحو تبدو معه القضية وكأنها انتهت، يؤكد الأول ان: “هنالك الكثير من العمل في ملف المواقع المشعة، اذ ان عمليات الكشف والمسح التي تجريها فرق دائرة بيئة البصرة لم تشمل سوى 20% من مناطق محافظة البصرة، وقرابة 50% للمؤسسات الحكومية، وهذا العمل يقوم على أساس ما يتوافر من امكانيات مادية، كما ان الموقع الذي خصص للتخلص من المخلفات الملوثة، يعتبر موقع تجميع وليس موقعاً للطمر، لان انشاء موقع لطمر النفايات الملوثة يتطلب استراتيجية دولة وليس من صلاحيات الحكومة المحلية”.

 ويختلف مع القريشي ايضا اللامي، ويذهب الى ابعد مما ذهب اليه وارتانيان حين يقول إن: “ازالة هذه الاهداف والمواقع الملوثة تتطلب جهداً دولياً كبيراً، وتضافر جهود مختلف المنظمات الإنسانية، وتخصيص اموال طائلة لا تستطيع الدولة العراقية بظرفها الراهن تحمل نفقاتها، كما ينبغي طمرها في محرمات مراقبة حتى يحين وقت ازالتها”.

المجتمع الدولي.. مطلوب للمواجهة

 في تقريره لسنة 1992، قدر مكتب السكان الأميركي بعد دراسة ميدانية في العراق، ان عمر الانسان العراقي قد هبط ما مقداره 20 سنة للرجال و11 سنة للنساء، وان المسؤول عن هذا الهبوط في معدل الأعمار، التلوث الإشعاعي، جراء استعمال اليورانيوم المنضب الذي يتذكره العراقيون وتنساه الحكومة.

 العراقيون، والبصريون خصوصا، يعدون صمت المسؤولين عن هذه الكارثة، مشاركة منهم فيها، وعلى الذين يتصدون للحكم الآن معالجة التركة الأميركية مع الأميركان والمجتمع الدولي الذي تحالف معهم وشاركهم جريمة اصابة العراقيين بسرطانات: الغدد الليمفاوية، الدم، الرئة، الجهاز الهضمي، الخصية، العظام، البنكرياس، الغدد اللعابية، الكبد، مع ظهور حالات مرضية غريبة،  كالتشوهات الخلقية للأجنة بوجود أعضاء إضافية، أو ضمور أعضاء وولادات حية برأس منتفخ ومتورم ،وإصابات في العين، وظهور حالات من التوائم المنغولية غير الطبيعية، بالإضافة لتشوهات العظام وحالات الصداع الشديد وأمراض العقم غير المفسرة لكلا الجنسين، وزيادة حالات الإسقاط والولادات الميتة والمبكرة وعسر الولادة.

تتضمن الوثائق المرفقة بالتحقيق، مخاطبات رسمية تعترف بأهداف مشبعة بالاشعاع، يحركها مواطنون في المناطق والاحياء السكنية وينقلونها من مكان الى آخر.

أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة اريج (اعلاميون من اجل صحافة استقصائية عربية) واشراف الزميل ماهر شاهر . 

 يعتزم الصحفي البريطاني توني ستارك انتاج قصة تلفزيونية عن ضرب العراق باليورانيوم لواحدة من كبريات الوكالات العالمية اعتماداً على هذا لتحقيق.


تعليقاتكم

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *