قطع تبديل بشرية

29 نوفمبر 2015

الحياة – وراء المشهد المعلن لعذابات السوريين في العيش تحت النار، أو النزوح والهجرة عبر قوارب متهالكة في البحار الهائجة، ثمّة عالم آخر أشد قسوة وخطورة، إنها الأسواق السوداء لبيع أعضاء السوريين عبر العالم كقطع تبديل تفوق بمآلاتها تجارة الزواج بالقاصرات أو عمالة الأطفال أو التسوّل.

يكشف هذا التحقيق شبكات تبدأ من سورية، ولا تنتهي حتى تعبر الحدود إلى لبنان ومصر وتركيا. شبكات يشارك فيها أطباء ومنتحلو صفات أمنية وأرباب سوابق وفي بعض الحالات أحد مديري بيوت الدعارة. إذ يوثّق التحقيق تفاصيل لم تعرف من قبل عن شبكات تم اعتقالها، ولم تعلن السلطات السورية تفاصيل ملفاتها، إضافة إلى استمرار مستشفيات وأطباء طلقاء، يمارسون هذه التجارة مستغلين الفوضى الأمنية منذ منتصف 2011، وثغرة في القانون رقم 3 لعام 2010 الخاص «بمكافحة الإتجار بالبشر»، الذي أسقطت المادة رقم 3 منه أي عقوبات على البائع، بما يجعله بمنأى عن العقاب.


شبكات مركّبة

يجلس أعضاء في هذه الشبكات في عيادات ومستشفيات تتوزع في معظم المدن والمناطق السورية، ويتجول بعضهم حاملاً السلاح دون صفة رسمية، فيما يتولى قسمٌ آخر إدارة التسوق الإلكتروني لأعضاء البشر، كما هي الحال في هذا الإعلان: «للبيع بداعي السفر إلى أوروبا، كلية شاب عمره 27 سنة، خال من أي مرض فيروسي أو وراثي… موجود بمدينة إسطنبول في تركيا، الاستفسار للجادين فقط على الخاص».

يتنكر معدا التحقيق مرة بصفة بائعي كلى ومرة بصفة مشترين، ويدخلان في نقاش مسجّل مع صاحب الإعلان، ليتبين أنّه وسيط لشبكة متسلسلة ومحترفة. يسألك عن زمرة الدم ليختار ما يناسبك من الكلى إذا كنت مشترياً، من دون أن ينسى دعوتك للاتصال به إذا احتجت أي عضو آخر، فـ «البضاعة» تصل طازجة كل يوم».
ويستمر معدا التحقيق في تعقب سوريين باعوا أعضاء من أجسامهم مقابل مبالغ مادية لشبكات أبطالها أطباء وسماسرة. تلك البضاعة التي تباع إما طوعاً بداعي اللجوء لأوروبا أو لتأمين نفقات المعيشة، أو كرهاً. كحالة الشاب أحمد الذي دفن في مقبرة قريته «مورك» شمال حماة، إلى جانب جثث أخرى اختفت أعضاؤها خلال العلاج وتحديداً منذ عام 2013 وحتى اليوم وفق سكان القرى المجاورة وتقارير حقوقية وإعلامية رصدت تنامي هذه الظاهرة مع استعار الحرب السورية.

 


شبكة الأطباء الخمسة

في منتصف العام الحالي، أعلن نقيب أطباء سورية عبدالقادر الحسن، فصل خمسة أطباء وإحالتهم على التأديب، لتورطهم في تجارة أعضاء البشر.

تتبــع معدا التحقيق الدعوى الخاصة بهم، وحــــصلا على قرار النقابة بحق طبيبين من أصــل الخمسة، عن طريق مصدر قضائي رفيع. وجاء في الوثيقة رقم 4/ 3 لعام 2011 «حصل معدا التحقيق على نسخة منها»، صادرة عن مجلس التأديب المركزي لنقابة أطباء سورية، «أن النقابة منعت الطبيبين من مزاولة المهنة بشكل نهائي وأحالتهم على القضاء المختص، بعد أن أثبتت التحقيقات انضمامهما إلى شبكة عابرة للحدود تنقل النساء الحوامل إلى لبنان للولادة وهناك، ومن ثم يتم بيع المواليد مقابل مبالغ مادية كبيرة، ليتم الإتجار بأعضائهم لاحقاً».

ووفق الوثيقة يتم ذلك بالتواطؤ مع طبيب لبناني يدعى «سمير. ح» كانا قد تعرفا عليه في أحد المؤتمرات السابقة، واستندت المحكمة إلى اعتراف أوّلي لأحد الأطباء، واعتراف سكرتيرته وسائقه، بعد تحقيقات موسعة شملت أيضاً اعتراف إحدى الضحايا.

ومن دمشق إلى حلب، أطباء آخرون يتزعمون شبكة مكونة من 12 شخصاً حصل معدا التحقيق على ملف القبض عليهم من قبل إدارة الأمن الجنائي في المدينة بين 2013 والعـــام الحــــالي. هــــذه الشبكة التي تـــعد «الأكثر نشاطاً» وفق وصف مصدر في إدارة الأمن الجنائي. إذ يقود أحدهم مجموعة مسلحة وينتحل صفة رجل أمن، بعضهم ألقي القبض عليه مرة واحدة، فيما قبضت الأجهزة الأمنية على آخرين للمرة الثالثة على التوالي خلال أقل من سنتين.

– «زياد. و»: مطلوب في قضيتي إتجار بالأعضاء البشرية.

– «محمد عمار. ك»: مطلوب في قضية إتجار بالأعضاء وشروع بالخطف بقصد الفجور والإتجار بالأعضاء، كما جاء في نص البلاغ الرسمي.

وقد تبين أن زياد ومحمد عمّار طبيبان، إذ تم الكشف عن اسميهما ضمن السجلات الالكترونية المعلنة لنقابة أطباء سورية ونقابة أطباء حلب، ثم عرضناهما على نقيب أطباء سورية عبدالقادر الحسن الذي أكد بدوره أنه تم فصلهما في شكل نهائي في تموز 2013 وحرمانهم من حقوقهم النقابية بما فيها الراتب التقاعدي وحقوق الطبابة والحماية الشخصية وترخيص العمل الطبي، لكنه أضاف أن النقابة لا تستطيع التعامل معهما بسبب تواجدهما بمناطق خرجت عن سيطرة الحكومة السورية في حلب.

– «فادية ض»: مطلوبة في ثلاث قضايا اتجار بالأعضاء البشرية والسمسرة.

– أحمد ش» و«ناجي ف» و«محمد غازي س» و«أحمد ح» و«نسرين ف» و«أحمد ح ح» و«ابراهيم ح» و«خالد ع»: مطلوبون في قضية إتجار بالأعضاء أيضاً.

– «عمر ح» مطلوب بجرم إدارة شبكة دعارة لمصلحة الإتجار بأعضاء البشر.

كشف المحامي العام الأول بدمشق أحمد السيد، لمعدي التحقيق عن أكثر من 20 قضية إتجار بالأعضاء البشرية، عالجها القضاء السوري خلال السنوات الأربع الأخيرة، مبيناً أن هذا النوع من الدعاوى القضائية كان نادراً في المحاكم، وهو يعتقد أن العدد الكلي فاق عتبة 20 ألف حالة.

وبتوثيق طبي، أجراه الدكتور حسين نوفل رئيس الهيئة العامة للطب الشرعي (حديثة التشكيل)، قدّر عدد حالات الإتجار بالأعضاء البشرية للسوريين بأكثر من 18 ألف حالة في أربع سنوات، موضحاً أنه حتى مطلع عام 2013، نقلت أعضاء 15600 شخص من أصل 62 ألف جريح عولجوا في دول الجوار. وبنى نوفل إحصائيته هذه على مسح شامل في المناطق الساخنة والحدودية للمتوفين نتيجة الحرب، حيث تحتوي على صور ومقاطع فيديو ووثائق أخرى سترفع عن طريق المحاكم لاحقاً.


الأطفال أبرز الضحايا

الأطفال ليسوا خارج معادلة سرقة الأعضاء. ياسمين شحادة (9 سنوات)، حاول أطباء سرقة كليتها في مستشفى لا يعرف ذووها مكانه حتى الآن، ولم يتم التعرف عليها إلا بعد إخراج ثلاث طلقات ناريــة مـــن جسدها على خلفية المعارك التي اندلعت بريف اللاذقية الشمالي عام 2013.

التقينـــا الفتاة ووالدها في حي «الدعتور» القريب من مدينة اللاذقية، فأكد الوالد أن آخر خبر ورد له عن الفتاة، أنها توفيت بتاريخ 4/8/2013. وقام والدها بتنظيم المحضر الرسمي للوفاة رقم 1367 منطقة صلنفة، لكن بعد 17 يوماً اتصل بوالدها طبيب تركي، وأخبره أن الفتاة حيّة ترزق وأنها نجت من محاولة سرقة لأعضائها.

وأضاف والد ياسمين الممتن لهذا الطبيب، أنهما اتفقا على اللقاء عند نقطة كسب الحدودية ليستلم الفتاة، وخلال عملية التسليم، فوجئ الوالد بتفاصيل نجاة ابنته من شبكة إتجار بالأعضاء اتفقت على بيع كليتها في المستشفى، حيث تمت الصفقة أمامها، لكن الطبيب سحب الفتاة وهرَّبها إلى سورية.

 

نزع الأعضاء ليلاً

في مصر، والتي يعيش فيها نحو 132 ألف لاجئ سوري وفق أرقام مفوضية اللاجئين لعام 2015، للشاب محمد زاهر (اسم مستعار) 29 عاماً، «قصة جديدة». إذ تمكنت عصابة من الإيقاع به وشراء كليته مقابل مبلغ مادي مستغلة حاجته وجهله بالبلد وقوانينه. الشاب من حمص، يعمل في صيانة السيارات، يعيش الآن في اسطنبول بعد أن انتقل إليها قبل فترة من القاهرة، حيث باع كليته هناك مقابل 3 آلاف دولار أميركي (22 ألف جنيه) لشخص لا يعرف عنه شيئاً ولا حتى اسمه الحقيقي. كل ما يجمعهما هو حديث الاتفاق و«البازار» الذي دام قرابة ربع ساعة وجهاً لوجه، على تفاصيل عملية البيع والمبلغ المادي وساعة العملية ومكانها. التقيناه في منزله المشترك مع شباب سوريين آخرين في اسطنبول والندم يأكل رأسه، فبمجرد تذكيره بعملية البيع تحضر إلى رأسه ذكريات وفصول مأساة بدأت ولم تنته بعد، ولا يتمنى لأي إنسان أن يمر بها.

تردد زاهر في الحديث عن حالته، فالسرّية هي ما يغلف قضيته. حتى أقرب الناس إليه، زوجته لا تعرف أنه بكلية واحدة، فقد باعها ومن ثم تزوج بالمبلغ الذي حصل عليه.

إنها «أكبر جريمة اقترفتها في حياتي… لن أسامح نفسي أبداً» يقول زاهر، وقد عاد لتوه من العلاج بعد أن شعر بألم في كليته اليمنى المتبقية، حيث اكتشف الطبيب بأنه باع كليته، وقال له «أنت ميت لا محالة إن تضررت كليتك المتبقية».

عرضنا ملف الشاب علاء على وزارة الصحة المصرية. وجاء رد معاون وزير الصحة المصري لشؤون العلاج الحر الدكتور صابر غنيم أنه «لو ثبت قيام المستشفى بإجراء العملية للشاب السوري، فإن المساءلة ستطال الطبيب وكادر المستشفى ويحالون إلى النيابة العامة، ويمكن توقيف الطبيب عن العمل»، داعياً الشاب السوري إلى تقديم شكوى وفق الأصول، وهذا ما لا يمكن إجراؤه حالياً كون الشاب خارج مصر، وهو يتجنب هذا الإجراء حتى لا تطاله مساءلة هو بغنى عنها.


بورصات« أونلاين» لتجارة الأعضاء

قصة زاهر في مصر، تقابلها عشرات الحكايات في الخارج، لمواطنين سوريين لم يجدوا إلا شبكات التواصل الاجتماعي أمامهم لبيع أعضائهم مقابل مبالغ تخفف وطأة العيش، أو الحاجة لتمويل رحلة اللجوء إلى أوروبا.

في هذه الأسواق الالكترونية تقع على إعلانات تعبّر عن حجم المأساة، أحدهم يعرض أعضاءه ليهرب من الوضع المأسوي في لبنان.

بدأت فكرة بيع الأعضاء من طريق صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بالهجرة وبأحوال السوريين في الخارج. ثم بات الأمر عادياً، فلا يكاد يمر يوم إلا وينشَر إعلان أو اثنان لسوريين يرغبون ببيع أعضائهم، إلى أن تشكلت صفحات «كلى للبيع» على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك. جمعت البائعين والسماسرة على وسادة واحدة.

حاولنا التواصل مع فايسبوك لمعرفة مشروعية هكذا صفحات ومدى مطابقتها لسياسته، بالتبليغ عنها. فكان الرد بأنها «غير مخالفة لمعايير فايسبوك فهي لا تحرض على العنف ولا تنشر صوراً غير لائقة…الخ.

الأمر لم يتوقف عند الكلى، بل امتد لمواطنين يسعون إلى بيع جزء من الكبد أو جزء من الرئة، أو أي شيء آخر من شأنه إنقاذهم من البؤس المعيشي. يعزز ذلك التقرير الرسمي الذي أصدرته منظمة «أونروا» التابعة للأمم المتحدة في آذار(مارس) من العام الحالي، والذي كشف أن معدل الفقر والحرمان لدى السوريين ارتفع إلى 82.5 في المئة مع نهاية عام 2014، بعد أن كانت نسبة الفقر 64.8 خلال عام 2013، وكان من نتائجه وفق التقرير «ظهور العصابات المجرمة العابرة للحدود إلى حيز الوجود، وراحت تنخرط بالإتجار بالبشر».


مراسلات دولية غير مجدية

أسواق بيع السوريين كقطع تبديل مفتوحة والمساومات تجرى سراً وعلناً، بينما تنام المنظمات الدولية، إذ إن أكثر من 4 منظمات دولية معنية بتوثيق هذه الانتهاكات راسلها معدا التحقيق لمعرفة ما خلصت إليه حول هذه الظاهرة، كانت النتيجة إما «لا نملك معلومات عن الظاهرة» أو عدم التجاوب مع المراسلات من الأصل. حيث جاء الرد من منظمة «هيومن رايتس ووتش» بتاريخ 7 ايلول (سبتمبر) الماضي: «إننا للأسف لم نطلع على هذا الموضوع، ويمكنكم مراسلة منظمة العفو الدولية (أمنيستي) أو رؤية المادة الصحافية التالية. وهي عبارة عن تقرير بتاريخ 12 تشرين الاول (أكتوبر) 2013 لصحيفة «دير شبيغل» يتحدث عن قصة الشاب «رائد» 19 سنة، الذي هرب من المعارك في حلب إلى لبنان، وباع كليته اليسرى مقابل 7 آلاف دولار، حيث تمت عملية نزع الكلية في عيادة سرية ضمن بناء سكني، عن طريق شبكة نشيطة في لبنان، تعتمد في تحصيل الأعضاء على سمسار يدعى أبو حسين مقابل 700 دولار عمولة.

بعد ذلك، راسلنا منظمة العفو الدولية مرتين، الأولى بتاريخ 3 ايلول 2015 والثانية بتاريخ 8 من الشهر ذاته، لكن لم يصدر عنها أي رد. أما «منظمة الصحة العالمية» فورد منها رد إلى معدي التحقيق في معرض استفسارهما عن دور المنظمة الأممية في مراقبة الإتجار بالأعضاء للسوريين، والحد منها عبر الحدود بتاريخ 29 تشرين الأول 2015. جاء في الرد: «نحن لا ننظر إلى الإتجار بالأعضاء البشرية بحد ذاته. إنها مهمة الانتربول (الشرطة الدولية). نحن ننظر فقط كيف تستطيع البلدان إعداد برامج التبرع بالأعضاء/ والنظم التي من شأنها أن تثبط أو تمنع الإتجار غير المشروع بالأعضاء».

في حين لم يرد أي جواب من «منظمة أطباء بلا حدود» لمعدي التحقيق وفقاً للمراسلات التي تمت بتاريخ 6 أيلول الماضي.


عقوبات غير رادعة

رغم أن القانون السوري اتفق مع معاهدات الأمم المتحدة على تشديد العقوبات ضد جريمة الإتجار بالبشر، إلا أنّ الظاهرة تنتشر في ظل الحرب. ومن أبرز الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها سورية «اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية والبروتوكولات الملحقة بها» عام 2009، والتي تنظم ملاحقة مرتكبي الجرائم العابرة للحدود بغض النظر عن الظروف السياسية، ومسؤولية كل دولة في التعامل معها. غير أنّ سورية تحفظت في هذه الاتفاقية على المادة 35 الفقرة 2 الخاصة بإحالة الجريمة إلى محكمة العدل الدولية.

كما أن القوانين السورية سارت على الدرب ذاته. فالمرسوم التشريعي رقم 3 لعام 2010 الخاص بمكافحة الإتجار بالأشخاص، شدد العقوبة على الجريمة إذا كانت دولية أو ارتكبت بحق امرأة أو طفل، حيث تطبق هنا المادة 8 «أحكام التجريد العامة» التي تقول: «عند وجود سبب تشديد، تشدد العقوبة من الثلث إلى النصف»، فترتفع العقوبة التي مدتها 15 عاماً لتصبح ما بين 20 – 22 عاماً ونصف وهكذا.

يختم نقيب المحامين السوريين حديثه قائلاً: صحيح أن القوانين رادعة لكن الجريمة مستمرة.

ويضيف قائلاً: «الفوضى التي خلقتها الأزمة السورية جعلت المافيات أقوى بكثير من الأطراف التي تلاحقها وتحاول قمعها، لذلك فإن الظاهرة ستتفاقم وتتفشى في مجتمعات دول الجوار، ما لم يتم اهتمام ورصد دولي دقيق لقمعها». ويشاطره الرأي نقيب أطباء سورية الذي أكد أن الحل الوحيد يتمثل بتعزيز التعاون الدولي لرصد الظاهرة وإلقاء وملاحقة هذه الشبكات عبر الشرطة الدولية.

الأمم المتحدة عنونت أحد تقاريرها الأخيرة عن سورية، وما آلت إليه الأوضاع من عرض السوريين للبيع في أسواق النخاسة العالمية بعنوان «هدر الانسانية»… بشر يقتلون وهم في بلادهم، ويغرقون في البحر في محاولة للنجاة، ويقتلون في المستشفيات في محاولات للشفاء، ومن بقي يعرض نفسه وأعضاءه للبيع لعل أولاده يتمكنون من العيش.


تعقّب داخل المستشفيات

خلال ستة أشهر من التقصي، رصــــد معدا التحقيق 12 حالة اتجـــار بالأعضاء عبر لقاءات مباشرة مع الضحايا في الداخــــل السوري، وإسطنبول، وبيروت، سبعة أشخاص باعوا طوعاً بدافع اقتصادي، وثلاث حالات سرقة أثناء علاج مصابين جـــراء الحـــرب، وحالة نجت من محاولة سرقة، إضافة لحالة احتيــــال بحجة طبية. وهي حالات موثقة بالصوت والصورة لضحايا ما زالوا على قيد الحياة أو لذويهم داخل سورية وفي دول الجوار، وسط غياب تام للإحصاءات الرسمية الدقيقة، مع إقرار جميع المسؤولين السوريين الذين قابلهم معدا التحقيق، بوجود شبكات منظمة، تستغل ظروف السوريين السيئة للمتاجرة بأعضائهم.

تنكر معدا التحقيق كمرافقين لمرضى في دمشق، كما اتفقا مع بعض المرضى على التسجيل بكاميرات سرية لرصد تورط الأطباء:

التاريخ 7 تموز 2015، إنها الحادية عشر ظهراً، تستعد الفتاة ثرى أحمد (16 سنة) برفقة والديها لإجراء عملية «تطعيم قرنية صفيحي» في عينها اليسرى، بدمشق.

الفتــاة وعائلتهـــا يبدون ارتياحاً لعملية ابنتهما. فالطبيب قدم لهــــم تطمينـــات حول نسبة نجاحها وحول مصدر القرنية ومنشئها بأنــها ستستورد رسمياً من أميركا، وسعرها (1500 دولار أميركي) وكيفيـــــة زراعتها وفتـرة الشفاء. حيث أكد الطبيب: «أن نسبة نجاح العملية 95 في المئة، والقرنية مرفقة بشهادة (ضمانة) تضــــم الفحــوصات الطبية للشخص الذي قطفت منه وتاريخ قطفها ومدى خلـــو صاحبها من الأمراض الوراثية والجرثومية، إضافة لتسجيل فيديو يوثق عملية الزراعة كاملاً» وهي إجراءات قانونية تمنح مع أي عملية زراعة. بحسب ما هو متعارف عليه طبياً.

بعـــد يومين من الاتفاق كانت القرنية قد وصلت من أميركا «كيــــف بهذه السرعة؟ لا نعـــرف». اتصل بنا الطبيــــب وأخبرنا أن القـــرنية وصـــلت بحسب الوالد. وخلال 20 دقيقة تــم إجراء العملية في مستشفى قريب من العيادة، لكن حالتها بدأت تسوء وما زالت.



اختفاء ثرى من السجلات

عرضنا ملف ثرى على الدكتور محمد رسلان مدير بنك العيون الحكومي، الذي يحوي السجل الرسمي للأطباء مستوردي القرنيات، طبقاً لنص الفقرة ب من المادة رقم (1) للمرسوم التشريعي رقم 61 لعام 2010 «تجيز لوزير الصحة منح موافقات لأطباء العيون ليستوردوا قرنيات في شكل استثنائي لفترة محددة ولضرورات المصلحة العامة».

طـــابقنا بيـــانات ثـــرى مع الطلبات المقدمة لاستيراد قرنيات من قبل أطباء، فلم نعثر على اسم الطبيب الذي أجرى العملية لثرى.

عدنا وجربنا حظنا بمطابقة بيانات ثرى مع الطلبات المقدّمة من خلال أسماء المرضى في طلبات الاستيراد التي تقدم بها الأطباء الأكثر طلباً للاستيراد، فكان الرد من إدارة بنك العيون: «لا يوجد طلب باسمها»، وهو ما يرجح أن يكون مصدر القرنية محلي أو مهرّب، وبينما كان التحقيق قيد النشر كانت عائلة ثرى تتقدم بشكوى لنقابة الأطباء.

فهل صحيح أن عائلة ثرى تقدمت بشكوى للنقابة؟


تحقيق أونلاين

تغلغل معدا التحقيق ضمن الشبكات، وتنكرا بصفة سمسارين يبحثان عن أعضاء، ونشرا إعلاناً على إحدى المجموعات المغلقة على فايسبوك معنية بشؤون السوريين في لبنان، طلبا فيه كلى دون تحديد زمرة الدم.

عرض السوري «علي ع» كليته علينا للبيع، وسأل فوراً عن السعر الذي يمكن أن ندفعه.

معدا التحقيق: ألفا دولار مقابل كلية واحدة.

علي: «هدول بالنـسبة للفـقير ثـروة» المـهم أن أؤمـن مصـروف أطفـالي ولو لشهرين.

العرض الثاني، جاءنا من محمد (الاسم مستعار)، 29 سنة يعيش في أحد تجمعات السوريين في منطقة راشيا، وخلال الحديث معه تبين أنه أب لولدين معاقين وثالث سليم، هو في حاجة إلى تأمين الرعاية الطبية لهما.

معدا التحقيق: بكم يمكن أن تبيع كلية واحدة من كليتيك؟

محمد: ما عندي علم أنا بهذا الموضوع، إذا كان المبلغ جيد أنا موافق أريد أن أسافر ع أوروبا أنا وولادي حتى أعالجهم.

معدا التحقيق: لو أحد عطاك 4 آلاف دولار ممكن توافق؟

محمد: إي بوافق وبسافر فوراً ع أوروبا «وبخلص من لبنان».

في المقابل، تتبعنا إعلاناً لمواطن سوري عرض بيع كليته، تواصلنا معه فبدا محترفاً، إذ إنه حدد في الإعلان زمرة الدم «ب إيجابي». لكن خلال الحوار سأل معدي التحقيق عن نوع الزمرة التي يريدانها، في إشارة إلى أنه يملك أكثر من كلية واحدة وبزمر مختلفة.

معدا التحقيق: هل لا تزال تفكر ببيع الكلية؟

المعلن: ما هي زمرة الدم التي تريدها؟

معدا التحقيق: أنت وضعت بالإعلان «ب إيجابي»

المعلن: كم تدفع؟

معدا التحقيق: لا أعلم ما رأيك بـ ألفي دولار؟

المعلن: (مع ضحكة ساخرة) أريد 10 آلاف دولار.

* شارك في جمع المعلومات: حسام الآغا وقاسم محمد ومحمد القزاز


* أنجز هذا التحقيق بدعم شبكة أريج «إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية» www.arij.net. وبإشراف الزميل حمود المحمود.


تعليقاتكم

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *