تقرير خبري
ولاد البلد – يأتي الغروب وتأتي معه حالات الاختناق التي تنتاب سكان المنصورة، حيث ينتشر الدخان الأسود في سماء المدينة وتنخفض معه الرؤية كل يوم أثناء موسم حصد الأرز الذي يبدأ في شهر أغسطس من كل عام ويستمر أربعة أشهر
السبب بسيط
فمع مغيب الشمس يقف زارعو الأرز في حقولهم لرش السولار على قش الأرز المنتشر بطول الحقل وعرضه في صفوف متوازية بعد الحصاد. ثم يشعلون النار فيه؛ خاصة ليلا حتى لا يراهم أحد، حيث منعت هذه الممارسة تماشيا مع قانون صدر عام 1994 وفرض غرامة قدرها 2000 جنيه.القانون الذي عدل مرة أخرى فرض التخلص من هذه المخلفات بإعادة تدويرها عن طريق تجميعها في المكابس لتحويلها إلى علف للحيوان أو استخدامها كمخصب للتربة. لكن المزارعين يتهربون من ذلك بسبب الخوف من الغرامات بالحرق ليلا.
وما هي إلا لحظات حتى تتصاعد الأدخنة الكثيفة إلى السماء من حقول الأرز لتكوّن سحابة سوداء هائلة تحيط بمدينة المنصورة على مسافة 150 كيلومترا عن القاهرة.
فموسم حصاد الأرز في المنطقة، التي تنتج 845.5 ألف طن على مساحة 423 ألف فدان من مجموع إنتاج مصر البالغ أربعة ملايين طن، هو موسم ثقيل على نفس ستة ملايين نسمة هم سكان المنصورة الذين يعانون – مثلهم مثل سكان الكثير من مدن الدلتا والقاهرة – بسبب هذه السحب السوداء.
تزايد الحوادث
في هذا الموسم تزداد حوادث السير بسبب كثافة الدخان، يذكر السائق محمد العيدروسي، والذي كان يقود سيارته الميكروباص على طريق المنصورة–دكرنس الزراعي وإذا بشاحنة كبيرة تكاد تصطدم به وتقذف به إلى الترعة المجاورة.
يقول العيدروسي إنه فوجئ بالشاحنة التي لم يرها بسبب دخان السحابة السوداء التي تحيط بالطريق الزراعي التي تتوسط حقول الأرز.حظ العيدروسي السعيد أنقذه من موت محقق. لكن تظل المشكلة مع السائقين على طرق تنخفض فيها الرؤية بشكل مخيف بسبب الأدخنة المحيطة بها.
ويشير العميد نبيل عبد العظيم، مدير مرور الدقهلية، إلى أنه في موسم حرق قش الأرز تزداد معدلات حوادث السيارات نتيجة السحابة السوداء وما يصاحبها من ضباب كثيف وما تسببه من ضعف للرؤيا على الطرق خاصة الزراعية منها.
ويضيف عبد العظيم أن عدد الحوادث هذا العام بسبب ضعف الرؤية نتيجة لهذه السحابة السوداء كان أقل من الأعوام السابقة. ويوضح مدير مرور الدقهلية أنه من الصعب الآن الحصول على أي أرقام بعد تفجير مبنى مديرية أمن الدقهلية.
الأمراض
يوضح الدكتور محمد عبد العظيم، أخصائي جراحة العيون، أن نسبة الإصابات بحساسية العين في موسم السحابة السوداء ترتفع حتى تصل إلى 70% من مجموع أمراض العيون في مختلف الأعمار.
ويقول إن عيادته تستقبل في الظروف العادية ما يتراوح بين 10 و15 مريضا يوميا بينما يرتفع هذا الرقم في موسم السحابة السوداء إلى أكثر من 50 حالة.
بعض هذه الإصابات تتحول إلى مرض مزمن بنسبة تصل إلى 10ـ30% بين المرضى الكبار و40% بين الأطفال.
أما الدكتور غريب رمضان، أخصائي الأمراض الصدرية، فيقول إن عدد الإصابات بضيق التنفس خلال الشهور الأربعة الماضية وصل إلى أكثر من 70 حالة معظمهم من كبار السن ومرضى حساسية الصدر والربو، في حين يتراوح عدد المرضى في المعتاد بين 10 و12 حالة.
وكشفت مصادر طبية بمستشفى الأطفال الجامعي بالمنصورة أن المستشفى استقبل العديد من الإصابات بالاختناق وضيق التنفس خلال سبتمبر وأكتوبر، فقد وصل في يوم واحد 12 طفلاً مصابا بينما لا يستقبل في شهور السنة الأخرى، التي لا تشهد حرق قش الأرز، أي حالات إلا إذا وقع حادث كحريق مثلاً.
أسباب السحابة السوداء
يشير الدكتور مسعد سلامة، أستاذ الجغرافيا المناخية بجامعة المنصورة، إلى أن انتقال سحب الدخان من القرى والعزب المجاورة لمدينة المنصورة إلى سماء المدينة يعود إلى ما يسمى بظاهرة الانقلاب الحراري.
ويحدث خلال هذه الظاهرة أن درجة حرارة الهواء قرب سطح الأرض تكون أقل من درجة حرارة الهواء في الطبقات الأعلى، وذلك خلافا للوضع المعتاد. ونتيجة لذلك لا يصعد الهواء من أسفل لأعلى لأن الهواء في الأسفل أبرد (الهواء البارد أثقل من الهواء الساخن).
ويضيف سلامة أن لهبوب الرياح الشمالية والشمالية الشرقية على محافظة الدقهلية طوال العام دورا كبيرا في نقل الملوثات الغبارية الناتجة عن حرق قش الأرز من الحقول القريبة إلى مدينة المنصورة، خاصة وأن عمليات الحرق تأتي في نهاية فصل الصيف ودخول فصل الخريف حين تحدث ظاهرة الانقلاب الحراري.
وتكون المحصلة الطبيعية لهذا الوضع غير العادي أن الملوثات الهوائية تتجمع وتتراكم قرب سطح الأرض بسرعة خاصة في الليالي الهادئة الرياح في المدن الكبيرة كالمنصورة وطلخا.
ويرى الدكتور مصطفى أبو حباجة، رئيس قسم الهندسة الزراعية السابق بكلية الزراعة جامعة المنصورة وأستاذ الميكنة الزراعية، أن أهم أسباب حرق قش الأرز في مصر هو ارتفاع مستوى المدنية في الريف المصري. ففي الماضي، كان الفلاح يستخدم قش الأرز لحرقه كوقود للأفران في بيته، لكنه أصبح يستخدم الآن أفران الغاز والبوتاجاز.
ويؤكد الدكتور محمود السيد، الباحث في علوم البيئة والتغيرات المناخية، أن حرق القش نهاراً، وهو المعتاد منذ أن بدأ الفلاح المصري في زراعة الأرز، كان يسّرع من معدلات الاحتراق ويساعد على سرعة تبديد الدخان على عكس الحرق الليلي والذي تزيد خلاله كميات الضباب المتراكم في السحب وتهدأ سرعة الرياح.
المخالفات تكثر في الليل
ويبرر المزارع حسام مسعد حرق القش ليلاً بالابتعاد عن أعين الجهات الرقابية التي “لا تراقب ليلاً أو نهاراً.. لكن الاحتياط واجب”، على حد وصفه.
ويقول المهندس محمد عارف، الباحث بجهاز شؤون البيئة بالدقهلية، إن الحكومة تشتري قش الأرز من الفلاحين بسعر 82.5 جنيه للطن الواحد. لكنه أضاف أن الفلاح يتحمل أكثر من 100 جنيه لجمع القش ونقله، لذلك فإنه يرفض بيعه.
أما المزارع مجدي سعد فعبر عن استعداده لبيع القش لو توفر له المشتري، مطالبا الحكومة بشراء القش من الفلاحين وتحمل نفقات نقله قائلاً: ” لو الحكومة عايزاه تيجي تشيله. أما احنا نتحمل تكاليف أنفار ونقل على الفاضي يبقى حرام. هو الفلاح لاقي ياكل؟“
ويتعجب محمد الشافعي، وهو أحد مزارعي الأرز، من ينتقدون المزارعين دون أن يراعوا ظروفهم الاقتصادية. ويقول: “الفلاح يعمل إيه في القش؟ أسيبه متكوم في الأرض ومعرفش أزرع الزرعة الثانية؟ القش مابيتباعش… وبعدين كنا بنستخدمه في الأفران لكن دلوقتي الأفران بقت بالغاز.”
المسؤولون يرون تراجعا في السحابة السوداء
يؤكد المهندس ياسر الجمل، مدير إدارة الإعلام والتوعية بجهاز شؤون البيئة بمحافظة الدقهلية أن ظاهرة السحابة السوداء انخفضت حدتها في سماء المنصورة بنسبة عالية عن السنوات الماضية. وأرجع الجمل هذا الانخفاض إلى توفير عدد من المكابس التابعة لإدارة الميكنة الزراعية، وأخرى تابعة لجمعيات خيرية لكبس قش الأرز موزعة على 7 مراكز من مراكز محافظة الدقهلية لاستخدامه في أعلاف الحيوان.
وقد تم تركيب المكابس على مدار العامين الماضيين بكلفة تصل إلى 250 ألف جنيه للمكبس الواحد حسب قدرته. ولا تستطيع أن يوفر جهاز شؤون البيئة التمويل الكافي لتركيب مكاسب لكل المساحة المنزرعة أرزا بسبب ما وصفه أحد المسؤولين في الجهاز بأن “المنظومة فاشلة إداريا“.
وحين تمت مواجهة الجمل بأن حالات الاختناق وضيق التنفس مازالت على نفس معدلاتها في هذه الفترة من كل عام، قال إن الجهاز يحاول من خلال أنشطة الإدارة إقناع الفلاح بالتحول من حرق مخلفات الأرز إلى التدوير والاستفادة من المخلفات التي تعود عليه بالنفع المادي والزراعي والبيئي. لكنه عاد واعترف بأن نسبة كبيرة من الفلاحين لا تزال تحرق القش.
الحلول متاحة
يوضح أحمد رخا، مدير إدارة الأرض والتربة والتشجير بجهاز شؤون البيئة، أنه يمكن الاستفادة من قش الأرز في إنتاج الأسمدة العضوية (الكمبوست) لتثبيت وحفظ التربة أو استخدامه كمحسنات للتربة. ويبلغ سعر طن الكومبوست 200 جنيه. ويشدد رخا على إمكانية الاستفادة من قش الأرز في توليد الطاقة أو كتربة بديلة.
ويشير إلى صعوبة تجميع قش الأرز من جميع المناطق نظراً لضخامة الإنتاج والذي يصل إلى أكثر من 50 ألف طن في ظل عدم اقتناع الفلاحين بجدوى تدوير القش واستسهال بعضهم حرقه لسرعة التخلص منه لإعداد الأرض للمحصول الجديد.
ويقترح الدكتور أحمد يونس، الأستاذ بمركز البحوث الزراعية وعضو مجلس إدارة الأكاديمية المصرية للبيئة، أن يتم استخدام القش كعلف حيواني أو في الصناعات الورقية، بالإضافة إلى إمكانية استخدامه في بناء الحوائط سابقة التجهيز، إضافة إلى إمكانية استخدام قش الأرز كتربة وسيطة لإنبات الشعير.
وأوضح أبو حباجة أنه يمكن التخلص من قش الأرز بغمره بالمياه وهرسه داخل الأرض الزراعية نفسها كما يحدث في ولاية كاليفورنيا، بالإضافة إلى حرقه نهاراً. وشدد على أن أفضل استخدام لقش الأرز هو تدويره واستخدامه كعلف أو في صناعة السماد.
وبينما تتفاقم مشكلة السحابة السوداء كل عام بمدينة المنصورة، يبقى المسؤولون بعيدون عن إيجاد حلول واقعية للمشكلة تراعي الإستخدام الأمثل لقش الأرز ولا تتجاهل الفلاحين.
تم اعداد هذا التقرير الخبري بدعم من شبكة أريج اعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية www.arij.net من برنامج تدعيم الاعلام لتغطية قضايا الإدارة العامة في المحافظات.
Leave a Reply