مر نحو اسبوع واحشاء أم محمد التي يمزقها الالم تأبى لفظ جنينها الميت رغم كميات القرفة والقهوة التي تناولتها عملا بتوصية طبيب المستشفى الحكومي الذي رأى ان وضعها الصحي لا يسمح باية مداخلة جراحية.
ومع تردي حالتها استبد الخوف بزوجها من فقدها هي الاخرى بعدما خسرا الجنين الذي انتظرا حمله طويلا، لكنه لم يدم سوى اربعة اشهر. وبنبرة توسل سأل ابو محمد الطبيب الذي بدا عاجزا عن فعل شئ لانقاذ زوجته “اما من طريقة او دواء غير الاعشاب والجراحة؟”. صمت الطبيب لبرهة قبل ان يرد “نعم هناك عقار اسمه سايتوتك”، ثم استدرك “ولكنه ممنوع!”
كانت خلاصة عبارات الطبيب والنظرة التي ارتسمت على وجهه كأنما تقول لابي محمد “تصرف..ماذا تنتظر؟”. ومن فوره طفق الرجل يبحث في الصيدليات عن هذا العقار، ولكن الرد كان ياتيه في كل مرة بانه غير متوفر لان وزارة الصحة منعته منذ سنوات.
اعتبارات اخلاقية!
المفاجأة التي اكتشفها ابو محمد اثناء بحثه اليائس عن السايتوتك، هي ان المنع لم يكن بالدرجة الاولى بسبب مخاطره الصحية، بل لاعتبارات اخلاقية واجتماعية! هذا الامر تؤكده هيام الدباس الناطقة الإعلامية في مؤسسة الغذاء والدواء في وزارة الصحة، والتي قالت ان منع السايتوتك والعقاقير التي تستخدم للاجهاض عموما غايته “دفع الضرر عن المجتمع”. ولكن الدباس تضيف اسبابا اخرى منها “حماية صحة الام” في ضوء ان تلك العقاقير “قد تحدث مضاعفات” وخصوصا السايتوتك. وتقول ان “مصنفات الإجهاض على العموم (ممنوعة) في صديدليات الاردن والمستشفيات الخاصة والحكومية” معتبرة انه “لا داعي لها بالأصل اذ ان هنالك بدائل كثيرة”. وتوضح الدباس ان السايتوتك “كان يصرف في الأصل لعلاج قرحة المعدة، وعندما تبين أنه يسبب الإجهاض تم التحفظ عليه ومنع بيعه وتداوله”. وتلفت المسؤولة في وزارة الصحة الى مخاطر لهذا العقار ومنها انه “قد يُبقي اجزاء من جسم الجنين في رحم امه وهذا غير صحي ولا آمن”. ولا تحبذ الدباس اللجوء الى عقاقير الاجهاض للتخلص من الجنين الميت، وترى ان بقاءه بضعة ايام في احشاء امه لا ضرر منه، اذ سيحدث في الغالب “تميع بالدم وتتخلص منه بسهوله مع الآم بسيطة”.
وياتي قرار منع تداول عقاقير الاجهاض الذي مضى على تطبيقه اكثر من عشر سنوات بدعوى الحد من انتشار الرذيلة في المجتمع والممارسات الاجرامية المتمثلة في “قتل النفس” التي تكون ثمرة علاقات غير شرعية. كما لعبت المشاكل بين الازواج دورا لا يقل اهمية في تبني هذا القرار، حيث كان البعض يجبرون زوجاتهم على تناول هذه العقاقير كما ان زوجات كن يتناولنها بمحض ارادتهن ودون استشارة الازواج لاعتبارات مختلفة. وان كان منع عقاقير الاجهاض للاعتبارات الاخلاقية والاجتماعية امر ربما يكون مفهوما، الا انه يصبح جدليا في حالات استعصاء اجهاض الجنين الميت الذي يتحول وجوده في الرحم الى خطر حقيقي يهدد حياة الام. وايضا تبرز شبهة تضارب بين القرار والقانون الذي يجيز اللجوء الى عقاقير الاجهاض في حال كانت ضرورية لحماية حياة الام، ولكنه يضع شروطا مشددة من ضمنها ان يحصل ذلك في مستشفى عام.
سوق سوداء
بالنسبة لابي محمد وكثيرين ممن يعيشون محنة مشابهة لمحنته، فان عقاقير الاجهاض تمثل الامل الوحيد لانقاذ زوجاتهم، وهم بالتالي مستعدون لفعل اي شئ للحصول عليها ودونما اي اعتبار لقرارات او قوانين يعتبرونها غير منطقية ولا انسانية. وقد لعبت الحاجة الملحة الى جانب المنع الحكومي دورا كبيرا في تشكل سوق سوداء مزدهرة يجري تداول تلك العقاقير فيها بسرية، واحيانا بالتعاون مع اطباء يجدون انفسهم بين نارين: مخالفة القانون وانقاذ حياة.
ابو محمد خاض في دهاليز هذه السوق، وكانت البداية مع موزع شاب التقاه في مجمع الباصات في مدينة اربد بعدما ارشده اليه بعض المعارف في عمان. كان لقاء سريعا، نقد ابو محمد الشاب خلاله 38 دينارا مقابل اربعة اقراص من السايتوتك عاد بها سريعا الى الطبيب الذي لم يتردد في اعطائها لزوجته. ولكن هذه الاقراص لم تكن كافية على ما يبدو، فقد مر يومان دون ان ينزل الجنين الميت والالام لا تفتأ تشتد بأم محمد حتى اصبحت لا تطاق. وعلى ما بدا، فقد اثار انينها شفقة سيدة ترقد في سرير مجاور لها، فابتدرتها بورقة فيها رقم هاتف وقالت “هذا الرقم لامراة تبيع السايتوتك..مكانها بعيد قليلا ولكن السعر مناسب”.
وما هي الا لحظات حتى كان ابو محمد يطلب الرقم ويحصل على تعليمات توضح له العنوان الذي تبين انه في محافظة متاخمة لعمان، وتشدد عليه بان يبتعد عن الباب بعد طرقه وان ينقد طفلة ستخرج اليه 15 دينارا ثمنا لخمسة اقراص. نفذ الرجل التعليمات دون نقاش وحصل على الاقراص، ثم طفق عائدا من فوره الى المستشفى. ولم يكد يمضي يوم واحد حتى كانت معاناته وزوجته تنتهي! وقبيل خروجها من المستشفى، دنت منها مريضة كانت تتابع تفاصيل معاناتها، وقالت لها فيما هي تهنئها بالسلامة “وصلت لعشر دنانير الحبة حظكم كبير” ..!.
تمرد طبي!
اليوم وبعد مضي فترة استرد خلالها ابو محمد وزوجته توازنهما اثر هذه المحنة، فان اسئلة كثيرة لا تزال تدور في خلديهما حول شبكات التجارة الخفية للمجهضات، وما اذا كان هناك اطباء وصيادلة يشاركون فيها سواء بدافع الضمير او التربح. ولكن الذي يبدو انهما متاكدان منه هو ان ما يصفانها بانها قرارات من دون عقل تتخذها وزارة الصحة هي ما اوجد هذه التجارة وكذلك شبكاتها ان كانت هناك فعلا شبكات بالمعنى الحرفي للكلمة وليس مجرد عمليات بيع على مستويات فردية. ولعل احد ابرز منتقدي منع عقاقير الاجهاض بالمطلق، هو مدير مستشفى البشير عصام الشريدة، والذي يقر بان هناك اطباء لا يزالون يلجأون اليها، ومنهم هو نفسه، عندما لا يكون هناك بديل وتكون حياة الام على المحك. ويضيف وهو المطلع على سجلات المرضى من خلال خبراته المتراكمة “نعم نستخدمه احيانا ولا أجد ضيرا في ذلك”.
ويتابع الشريدة ان “كل الدول العربية تستخدمه، والأجنبية على حد سواء، ولا أجد بديلا عنه في حالات معينة كموت جنين في احشاء أمه وهو في عمر 4 الى 5 أشهر، وتشكيل المداخلة الجراحية خطوره واضحة” على حياتها. وبحسب ما يراه الشريدة، فان قرار منع السايتوتك خصوصا، هو دليل “ضعف في القدرة على ضبط الأمور” من قبل وزارة الصحة، كما انه “فتح ابواب تسربه بين ايدي جهلة ومتاجرين بأرواح الناس..”.
وهو يعتبر ان هناك “حاجة الى وضع خطة وبروتوكول لتداوله على اساس شرعي مقرون بعقوبات وتحت اشراف اطباء المستشفيات على الأقل”. ويقلل الشريدة من شان المخاوف من ان يتسبب الغاء قرار المنع في زيادة اعداد حالات الاجهاض في المملكة، والتي يوضح انها “تكاد تكون كمثيلاتها العالمية ودول الجوار ما بين 15% الى 18% فقط، وهي حالة صحية بطبيعة الحال.”
باب رزق
ولكن كيف يدخل السايتوتك الى البلاد ويجري تداوله بهذه السهولة رغم ان لدينا تدابير جمركية مشددة كما هو معلن ..؟
(خ.م)، وهي واحدة ممن يتاجرون به في السوق السوداء، اطلعتنا على بعض تفاصيل تجارته، ولكنها رفضت الاجابة على سؤالنا حول كيفية دخوله المملكة. وقالت المرأة التي ادعت انها تتاجر بالسايتوتك باعتباره باب رزق انها تتلقى الطلبات عبر اتصالات تاتيها عادة من ازواج يبدو انهم يكونون قد حصلوا على رقمها من اشخاص خاضوا تجربة الاجهاض سابقا واستعانوا بخدماتها. واضافت ان من يقصدونها تكون زوجاتهم عادة “في المستشفى بانتظار التخلص من الجنين. وانا اوفر لهن هذه الحبوب وبهذا لا حرمة في عملي شرعا” في اشارة الى انها لا تتعامل مع نساء يحملن من علاقات محرمة. ولم توضح المرأة ما اذا كان هناك اطباء او صيادلة يتعاملون معها او يرشدون المحتاجين لخدماتها.
وبحسب هيام الدباس الناطقة الإعلامية في مؤسسة الغذاء والدواء، فقد كانت عمليات تهريب السايتوتك تاتي قبل اعوام قليلة من سوريا الى ان “تداركت السلطات هناك الأمر وضبطت تلك العمليات على الأقل على حدودنا”. غير انها قالت ان “هذا العقار سهل التهريب، فمن الممكن أن ياتي في حقيبة سيدة قادمة من دول الجوار كلبنان، وهو ما يجعل ضبطه امرا صعبا”.
ودعت الدباس المواطنين الى الابلاغ عن اي حالات تداول لهذا العقار، مشيرة الى ان ” هناك عقوبات صارمة لكل من يقدم على المتاجرة بأي مستحضر دون اذن قانوني”.
ومن جانبها، فقد اشارت غادة التي تعمل في احدى الصيدليات الكبرى الى ان تداول السايتوتك وغيره من الادوية المحظورة يعد مخالفة تستوجب العقوبة بحسب شريعات نقابة الصيادلة.
وتبدي غادة موقفا محايدا ازاء قرار منع السايتوتك وتقول ان المنع “لا يعني أنه ضار، لكن المصلحة العليا تقتضي ذلك.” وخلافا لكل توقعاتنا، فقد تبين ان (روبين) وهي اخصائية نسائية وتوليد في احد المستشفيات الخاصة، غائبة تماما عن حقيقة منع تداول السايتوتك.وكل ما تعرفه هذه الطبيبة هو ان صيدلية المستشفى تخلو منذ زمن منه بسبب “ان الوكيل لم يعد يستورده للأردن، وهو ما يضطرنا كأطباء الى توفيره لمرضانا اثناء السفر الى لبنان مثلا”.
Leave a Reply