عاملات منازل البحرين تعذبهن ثقوب القانون

27 نوفمبر 2010

كانت آثار الضرب المبرح ما تزال واضحة على صدر وكتفي سلمى بيجوم (35 عاما) بعد ثلاثة أشهر على هروبها من بيت رب عملها، وفي عينيها نظرة انكسار، وانتظار لانتهاء قضيتها والعودة إلى حيدر آباد حيث أتت.

ذاقت بيجوم صنوف المعاملة القاسية والإهانة على يد ربة عملها على مدى شهر ونصف الشهر، إذ واظبت على ضربها وركلها لسبب مجهول بالنسبة لها لا يمكنها حتى أن تتحاشاه لتتجنب الضرب. فتارة تُضرب بسبب عدم تنظيفها المنزل بشكل جيد، وتارة لجلوسها على السجاد، وتارة لشربها ماءً بارداً، كما أن العائلة لم توفر لها الوجبات المناسبة، بالإضافة إلى أنها لم تتسلم راتبها منذ أن قدمت للعمل قبل خمسة وأربعين يوماً. حتى جاء اليوم الذي ورمت يداها من الضرب وطلبت منها ربة العمل أن تكنس المنزل باستخدام المكنسة اليدوية، وعندما قالت لها أنها لا تستطيع ذلك، فانهالت عليها بقضيب معدني ترك جرحا كبيراً غائراً ونازفاً، فما كان منها إلا أن اتخذت قرار الهروب من المنزل.

ليست بيجوم واحدة من الحالات التي يندر العثور عليها لتروي فصلا من التعذيب غير المبرر. إذ يتمادى بعض أرباب العمل في التعدي على الحقوق الإنسانية للعاملات بدءاً من الألفاظ المؤذية وصولا إلى حرمانهن أساسيات الحياة اللائقة كمكان الإقامة المناسب، الوجبات، أوقات الراحة والراتب المنتظم. وفي أحيان لا يتورعون عن إهانتهن وضربهن، فيما تتعرض بعض العاملات للتحرش والاغتصاب، طبقا لإفادات عاملات منازل ومحاضر شرطة.

فعاملات المنازل في البحرين يشكلن ما نسبته 4.2 % من عدد سكان البلاد المقدر بمليون نسمة و106 آلاف نسمة. يعشن في بيوت مغلقة لها حرمتها، ويصعب اختراقها لفحص كيف تعيش هؤلاء العاملات، وهل يستوفين حقوقهن كاملة أم لا.

القصص كثيرة عن إساءة معاملتهن تدعمها إحصائية مركز إيواء السفارة الفلبينية، التي كشفت عن ورود حوالي 20 شكوى يومياً في بعض الفترات. تتحدث السفارة عن سوء معاملة مختلفة الأشكال، ويمكن قياس المسألة على بقية الجنسيات التي تعمل في هذه المهنة، والأسوأ حظاً هنّ اللاتي لا توجد لديهن سفارات في المنامة، في الوقت الذي تتوه فيه الإحصاءات الرسمية بين أكثر من طرف وجهة حتى ليبدو البحث عن حجم الشكاوى، ضرب من الاستحالة.

المشكلة لا تكمن في سوء المعاملة وحسب، لأنها مشكلة متكررة في الكثير من البلاد العربية وغير العربية، بوجود عاملات في منازل تتباين نفسيات وخلفيات ساكنيه؛ ولكن المشكلة لها في البحرين مكان آخر، تبدأ من وكلاء عاملات المنازل في بلدانهن وفي البحرين، والاتفاقات الفضفاضة بين العاملة ورب العمل، وعدم وجود ما يفحص تحقق حتى الشروط الدنيا التي تشتمل عليها هذه الاتفاقات.

أما العائق الأكبر لتعريف حقوق هذه الفئة من العمالة وحمايتها فهو استثنائها من غطاء قانون العمل. تأتي بعد ذلك الإجراءات المتشعبة والطويلة، في حال التعرض للضرر وهي غالباً ما تفسد أي قضية تتقدم بها عاملة المنزل المتضررة، إضافة إلى جهل الكثيرات من هذه الفئة بحقوقهن الأساسية، وما الذي يمكن اعتباره إساءة، إلى أن  يطفح بهن الكيل، كما فعلت بيجوم التي ركضت إلى خارج المنزل طالبة المساعدة، وسمح لها صاحب سيارة نقل عمال بالركوب وتوصيلها إلى مكان قريب من مركز الشرطة، إذ كان يخشى أن يتورط بمشكلتها، ووضعها الجسماني الذي بدت عليه.

تعد بيجوم محظوظة بالجروح النازفة والحالة المزرية التي بدت عليها عندما دخلت مركز الشرطة، وإلا ففرصتها كانت ستتضاءل للحصول على حقوقها، إذ لا بد أن تكون آثار التعذيب واضحة وطازجة حتى تشكل دليلاً على تعرضها للتعذيب، كما ساعدها أن من التقطها في الشارع اتصل بصحافي لنشر قصتها في صحيفته، ما شكل ضغطا لصالحها.

الرق في الألفية الثالثة

وافق رب عمل بيجوم – الذي اتهمها بالسرقة والهرب، وتحت الضغوط والمفاوضات من قبل جمعية حماية العمالة الوافدة – على دفع مستحقاتها للفترة التي عملت خلالها في منزله، فيما يزال الشق الجنائي لقضية بيجوم أمام المحاكم، بينما تعيش في ملجأ جمعية حماية العمالة الوافدة بانتظار انتهاء محنتها.

غياب قمر النسا

قمر النسا رسول (40 عاما) جاءت إلى البحرين من الهند منتصف تسعينيات القرن الماضي، وعملت لدى أسرة ميسورة. لكن حياتها كانت أبعد ما تكون عن الدِّعة في ظل ربة منزل، صعبة الطباع، متجبرة وقاسية، كما تصفها.

ظلت رسول واقفة أمامي تروي قصتها متجاهلة دعوة لم تعتد عليها للجلوس، قائلة إنها جاءت إلى البحرين في 1996، تسلمت خلالها رواتب أول سنتين فقط، وكبُرت الأسرة وتشعبت، وأصبحت تضم بيتين آخرين مستقلين بعد أن تزوج الأبناء.

تعمل رسول – التي غيرت العائلة التي تعمل لديها اسمها إلى سميرة – على خدمة هذه الأسرة مع عاملات أخريات يأتين ويذهبن. بعد انقضاء سنتين قررت رسول أن تواصل سنتين أخريين من دون إجازة بينهما لتلبي حاجة أسرتها المادية، فهي تعيل من راتبها – الذي افترضت أن تتقاضاه – كلاً من أمها وأخيها وزوجها، الذي عليه أيضاً أن يُكمل بهذا الراتب بناء منزل لهما. لكنها فوجئت برب العمل يتوقف عن دفع رواتبها بحجة أنه سوف يدخرها لها، ويسلمها مستحقاتها دفعة واحدة عند العودة إلى الهند.

ظل رب العمل يماطل عاماً بعد عام في الدفع، ويماطل في “إطلاق سراحها” للعودة، حتى بلغ مجموع السنوات التي قضتها في هذا البيت نحو 14 عاماً، مرت بين قسوة ربة المنزل، والإذلال اليومي المتعمَّد، وساعات العمل الممتدة من السادسة صباحاً وحتى ما بعد منتصف الليل.

على جبين رسول آثار جرح من زجاج مرايا مكسورة اصطدمت بها وهي تهرب من ربة عملها عندما كانت توشك على ضربها. كما يوجد جرح آخر في منتصف الأنف قالت أنه نتيجة ضربة بجهاز التحكم عن بُعد بالتلفزيون، وجهتها لها ربة المنزل عندما طلبت رسول منها الراحة بسبب مرض ألمّ بها ذات صباح.

تعقدت مشكلة رسول عندما اختفى دفتر تحفظ فيه أرقام هواتف ذويها في الهند، ولم تنجح محاولاتها لاستعادته من ربة المنزل التي تتهمها بإخفائه عنها، وانقطعت صلتها بذويها شيئا فشيئا. تسترق رسول السمع بين الحين والآخر لربة المنزل وهي تتحدث في الهاتف، تعرف أن أهلها على الطرف الآخر من الخط، بينما ربة المنزل تنكر وجودها في المنزل، كما أنها لم تعد تتسلم الخطابات التي تصلها بأهلها، وتعتقد أن أسرة رب عملها تتخلص منها أولاً بأول لحظة وصولها. ويبدو أن زوج رسول فقد الأمل، واعتقد أنها لم تعد على قيد الحياة، أو أنها هاربة إلى مكان مجهول، فتزوج بأخرى وانقطع اتصالها بوالدتها وأخيها.

ذات يوم، بحث عنها شخص آت للتو من منطقة سكنها في الهند بناء على عنوان أعطوه ذووها إياه، إذ لا يزالون يتشبثون باحتمال بقائها على قيد الحياة. سأل الرجل إحدى عاملات الحي التقاها في محل البقالة القريب من المنزل، فأخبرته أن رسول موجودة. وتم الترتيب لتهريبها إلى السفارة الهندية.

عندما سألتُ رسول عن سبب عدم تفكيرها في الهرب طيلة هذه السنين، قالت إنها فكرت ولكنها لا تملك المال ولا أي عنوان هنا في البحرين لتستنجد به، خصوصاً أن ربة المنزل تمنعها حتى من الحديث مع عاملات الحي. طيلة هذه السنوات، تراكمت مستحقات رسول حتى بلغ إجماليها 9500 ديناراً بحرينياً (25,132  دولاراً) على اعتبار أن راتبها لم يرتفع عن 60 ديناراً (159 دولاراً)، وهو الراتب الذي كانت تتسلمه قبل عقد ونصف العقد عندما جاءت إلى البحرين[i].


[i] نجحت جمعية حماية العمالة الوافدة بالتعاون مع السفارة الهندية من تسوية الخلاف بين قمر النسا ومخدومها، الذي وافق من خلال ممثلة عنه على دفع اجمالي مستحقاتها عليه و لبالغة 9500 دينار بحريني بالاضافة الى تذكرة سفر بقيمة 210 دينار بجريني ، وغادرت البحرين في 31 أكتوبر 2010 بعد اسبوعين من اجراء “أريج” لقاء معها، وهذه هي المرة الأولى التي تنجح فيها الجمعية في مساعيها لايصال المستحقات الى عاملات المنازل المتضررات بحجب رواتبهن

أريد العودة إلى بلادي

بدت الهندية كانكامها لاكشمي (27 عاماً) في حال سيئة وعلى يديها آثار جروح قطع بآلة حادة. فقد عملت لاكشمي لدى عائلة بحرينية مكونة من أمٍّ يعيش معها ولدان وابنتان يعملون جميعاً، ما عدا أصغرهم ذي الخامسة عشر.

أجابت لاكشمي على أسئلتي بانكسار، مردِّدَة بين جملة وأخرى “أريد العودة إلى بلادي”. قالت: “منذ أن جئت إلى هذا البيت وأنا أعمل على مدار الساعة، فلكلٍّ جدوله في النوم والأكل، ولا يترددون في إيقاظي في أي وقت لأداء أي عمل، وفوق ذلك فإنهم يضربونني”، كانت تشير إلى كدمات لآثار الضرب على جسدها. لم تستلم لاكشمي أيَّاً من رواتبها طيلة ما يزيد عن سبعة شهور من العمل.

انهارت العاملة البائسة وانخرطت في بكاء مرير عندما تُرجم لها سؤالي عما إذا كانت قد تعرضت لاغتصاب أثناء تواجدها في بيت رب عملها… فتوقفتُ عن طرح الأسئلة.

تؤكد لاكشمي بمرارة أنها لن تعود بعد هذه التجربة للعمل في البيوت.

سلمى بيجوم، وقمر النسا رسول، وكانكامها لاكشمي، ثلاثة نماذج لعدد غير محدد من العاملات المتضررات من مختلف أنواع العنف والإكراه، واللاتي توجد أسماؤهن في سجلات  دُور الإيواء. عاملات تعرّضن لأضرار قد تتعرض لها آلاف النساء الآسيويات والأفريقيات اللاتي يصلن إلى البحرين سنوياً للعمل في البيوت، تاركات خلفهن عائلات وأطفالاً اقتسمن معهم حلم العيش المريح، وهذا الحلم هو ما يستعين به الطرفان (المرأة وأسرتها) لمغالبة آلام الفراق والغربة. مكبِّلات رقابهن – وربما مستقبلهن – بديون طائلة اشترين بها التذكرة إلى الحياة/الحلم التي جاءوا من أجلها.

غالبية هؤلاء النساء يجهلن ما هنّ مقدمات عليه من طبيعة العمل والحياة بشكل عام، وليس هناك اتفاق سابق مكتوب وملزِم لأيٍّ من الأطراف بالعمل به، ولا يرقى وعيهن الى إصرارهن على السؤال عن واجباتهن وحقوقهن بينما يتقاذفهن سماسرة العمالة الرسميين وغير الرسميين، في رحلات تتفاوت مرارتها ومتاعبها قبل أن يصلن إلى كفيلهن الدائم في البحرين.

المحظوظات من هؤلاء يحظين بأسر متحضرة تتعامل معهن معاملة إنسانية، بينما تقع قليلات الحظ في يد أسر تعتبر العاملة آلة للعمل، بلا مشاعر أو حقوق.

هذه الفئة من العمالة النامية في البحرين لا تغطيها مظله قانون عمالي، ولا ينظم العلاقة بينها وبين رب العمل سوى عقد عمل فضفاض تتفاوت مكوناته من وكيل لجلب العمالة إلى وكيل آخر، ولا تغطي بنوده حقوقاً أساسية للعاملة.

ورغم من الاختلاف الشاسع بين المجتمعات والثقافات التي تأتي منها هذه الفئة، إلا أنها لا تخضع لأي برامج إعداد وتعريف، أو إجراءات توعوية بما سوف تقوم به، والحقوق والواجبات الأساسية التي لها وعليها، وكيف يمكنها التواصل مع أي جهة تحميها وتوفر لها حقوقها. فمنذ قدومها يُحصر محيطها في بيت رب عملها، وتُحرم كثيرات من قنوات الاتصال مع العالم الخارجي، وتقيَّد حريتهن في الحركة خارج هذا المحيط.. إنه انغلاق الباب وراء هذه العاملة عندما تخطو إلى الداخل.. تضرب بعض الأسر حاجزاً فولاذياً يحول بين العاملة وبين الاتصال بالعالم الخارجي، مما يجعل علاقة بين العاملة ورب العمل عرضة لتقدير ومزاج وإنسانية الأسُر، ويقيد حرية العاملة ويحرمها حتى الوصول إلى من يحميها وينصفها في حال تعرضها لضرر ما.

كل هذه المعطيات تقترح أن الحالات المتضررة  المسجلة في كشوفات الجمعية والأرقام المستقاة من الجهات الرسمية ودور الإيواء؛ مجرد نماذج لحالات كثيرة مستترة وراء أبواب البيوت محكمة الإغلاق، التي تجري خلفها ممارسات غير إنسانية  تتجاهل حقوق الإنسان وتعيد عهد العبودية في أوضح صورة.

عاملات المنازل في أرقام

تزايد عدد هؤلاء العاملات بمعدل سنوي 11.7% خلال السنوات العشر الماضية. ويقدر عددهن بـ 51,981 عاملة منزل في الربع الثاني من العام [i]2010.

وتفيد الأرقام بأن الإناث يشكلن 62 % من العمالة المنزلية التي تشمل أيضا السُوّاق والمزارعين، ويشكلن 71.2 % من إجمالي عمالة الإناث الأجنبيات، و14 % من إجمالي العمالة الأجنبية، و10.6 % من إجمالي القوى العاملة في سوق العمل البحرينية[ii].

وبحسب الأرقام، فإن غالبية عاملات المنازل في البحرين يأتين من الفيليبين، بنسبة 28% من الإجمالي تليهن الأثيوبيات بنسبة 20% ثم الاندونيسيات بنسبة 18% فالهنديات بنسبة 15%، فيما تشكل السيرلانكيات 13% من إجمالي عاملات المنازل. وتتوزع النسبة المتبقية بين عدة دول أهمها بنغلادش والنيبال.

وشهدت ظاهرة استقدام عاملات المنازل ارتفاعا خلال العقود الثلاثة الماضية التي أعقبت الطفرة النفطية أواخر 1973، والتي أدت إلى توسعة الاقتصاد المحلي وما تبعه من زيادة في دخل الفرد.

يقول الباحث الاجتماعي عبد الله الحداد: “برزت ظاهرة عمال المنازل كظاهرة اجتماعية شاخصة في المجتمع الخليجي عامة لسد وظيفة اجتماعية ناشئة وملحة بسبب زيادة معدلات التعليم لأفراده، وتطور سريع ومفاجئ لنمط الأسرة باتجاه الأسرة النواة، نظراً لخروج المرأة للعمل واستقلالها في وحدة سكنية خاصة بعد النصف الثاني من السبعينات”.

نتج عن الطفرة الاقتصادية تولّد فرص العمل والتحاق المرأة بالكثير من هذه الأعمال المستجدة على سوق العمل، خصوصا القطاع المالي وقطاع الخدمات فتزايدت – تبعاً لذلك – الحاجة لوجود مساعدة في المنزل للقيام بمختلف الأعمال المنزلية من تنظيف، وطبخ، ورعاية للصغار في فترة غياب الأم في العمل. وتشكل المرأة نحو 13% من إجمالي القوى العاملة في السوق المحلية.[iii]

هذا أدى إلى ارتفاع كبير في عدد العاملات اللاتي يُجلبن. ففي تعداد 1981 بلغ عدد عاملات البيوت – وكان يشار إليهن آنذاك بالمربيات – 5320 عاملة بنسبة 10.4 عاملة لكل 100 أسرة.[iv] ، ونما هذا العدد بنسبة 877% في 2010 بواقع 1.7 عاملة لكل أسرة.

بانوراما الضرر

يصعب الحصول على أرقام مجمعة لكافة الشكاوى التى تتقدم بهن عاملات المنازل لتعدد جهات استقبال الشكاوى، وبسبب عدم وجود معايير واضحة ومحددة لتصنيف الشكاوى الواردة إلى مراكز الشرطة مما ينسحب – فيما بعد – على مراكز الإيواء. فهناك مركز إيواء تابع للسفارة الفلبينية الذي تأسس في 1987، قال إن عدد الحالات التي تم إيواؤها خلال العام الماضي 112 عاملة منزلية، بينما تصل الشكاوى أحيانا إلى 20 شكوى يوميا من عاملات منازل بسبب سوء معاملة الكفلاء، ومركز إيواء جمعية حماية العمالة الوافدة الذي تأسس كأول مركز للإيواء من قبل جمعية أهلية أنشئت في يناير 2005 باسم “جمعية حماية العمالة الوافدة”، وبعد نحو عامين تأسست “دار الأمان”، ولكنها ليست مخصصة لعاملات المنازل فقط، وإنما لجميع النساء المتعرضات للعنف، واللاتي يتم استغلالهن في قضايا الاتجار بالبشر والدعارة. وتشكل العاملات المعنفات نحو 50% من نزيلات الدار التي تتسع لإيواء 120 امرأة.

وبالرجوع إلى أرقام وزارة الداخلية – التي تسجَّل لديها القضايا الجنائية – فإن القضايا المسجلة لشكاوى عاملات ضد أرباب العمل لم تتجاوز 43 حالة حتى أكتوبر الماضي 2010، و49 حالة و37 حالة للعامين السابقين 2008 و2009 على التوالي، وصنفت هذه الشكاوى – في غالبيتها – كاعتداء ضد سلامة الغير واغتصاب والاعتداء على العرض.

وفي ردها على سبب انخفاض عدد القضايا مقارنة بالحالات التي آوتها الملاجئ العمالية للفترات نفسها، تقول مدير إدارة شرطة خدمة المجتمع المقدم مريم خلفان: “كجهة منفذة للقانون؛ لا بد أن نرى دليلاً مادياً على تضرر العاملات من أرباب العمل، ويعيق تأخر وصول العاملة للتبليغ عن تعرضها للضرر؛ التأكد من وقوع الضرر، بسبب اختفاء الآثار”.

وبحسب رئيسة لجنة التصرف بجمعية حماية العمالة الوافدة نورة فليفل، فإن غالبية الشكاوى التي ترد من عاملات المنازل تتعلق بحجب الراتب، أو عدم الانتظام في استلامه. وتؤكد ذلك أرقام وزارة العمل التي رصدت 59 شكوى بسبب عدم تسليم الرواتب تعادل 35% من إجمالي الشكاوى الـ 168 التي سجلتها في الشهور التسعة الأولى من العام الجاري.

كما توجد إحصائيات خاصة من “دار الأمان” رصدت المتضررات نفسياً لأسباب عدة، ومنها عدم دفع الرواتب بـ93 حالة منذ العام 2008 وحتى الربع الثالث من العام الجاري، ويشكلن 40% من إجمالي من آوتهم الدار في تلك الفترة، فيما شكلت المتضررات جسديا 38% وعددهن 88 حالة، ثم المتعرضات للتحرش الجنسي والاغتصاب وعددهن 48 حالة يشكلن 22% من إجمالى من آوتهم الدار في الفترة نفسها.

وتشير أرقام جمعية حماية العمالة الوافدة إلى أنها آوت نحو 470 حالة منذ تأسيسها، تنوعت ما بين المتعرضات للأذى الجسدي والجنسي والنفسي.

الاستشاري النفسي لدار الأمان الدكتور حميد اليماني، يشير إلى أمراض نفسية واختلالات تعاني منها العاملات، وتُسقط – في الغالب – من الحسبان “لانشغالنا بالأضرار الجسدية التي يمكن رؤيتها بالعين”.

يرجع اليماني ما تعاني منه العاملات إلى البيئات الفقيرة والمتخلفة اجتماعيا التي تأتي منها الكثير من عاملات المنازل مشيراً إلى أن “الكثير من الأمراض النفسية مرتبطة بالبيئات المتخلفة اجتماعياً واقتصادياً”. ويلفت إلى أن “النقلة المفاجئة التي تتعرض لها العاملة عندما تنفصل عن مجتمعها وتأتي إلى ثقافة جديدة ومسؤوليات لم تسمع بها من قبل، كلها من شأنها أن تعرّضها لاضطرابات نفسية، فما بالك إذا ما تضاعفت هذه التأثيرات بسوء معاملة، أو عدم تفهم من أرباب العمل”. ويقول أنه ينتشر بين العاملات مرض “الذهان”، وهو اضطراب نفسي أشبه بالانفصام يصاب به من يتعرض لضغط نفسي شديد، خاصة إذا ما دُعّم باستعداد وراثي.


[i] هيئة تنظيم سوق العمل –يونيو 2010

[ii] الادارة العامة للجنسية والجوازات أكتوبر 2010

[iii] تقرير المؤشرات الاقتصادية –مارس 2010 – مصرف البحرين المركزي

[iv]ظاهرة المربيات الأجنبيات- الأسباب والآثار- سلسلة الدراسات الاجتماعية والعمالية/ العدد 10- أغسطس 1987- مكتب المتابعة- مجلس وزراء العمل والشئون الاجتماعية بالدول العربية الخليجية.

70% من عاملات المنازل يقترضن ويبعن منازلهن ليعملن في البحرين.. وتطول سلسلة الاسترقاق

أصول المشكلة

في ملجأ جمعية العمالة الوافدة كانت الهندية سوبا باثاكرولوسو (37 عاما) التي وصلت إلى البحرين قبل أسبوعين، تبدو تائهة وقليلة التركيز وهزيلة، قالت عنها المتطوعة بالجمعية منذ تأسيسها، مهرو: “إنها تعاني من صدمة ثقافية شديدة بسبب مجيئها من قرية نائية وفقيرة في حيدر آباد عن طريق إحدى العاملات، واستلفت حوالي 350 دينار بحريني سلمتها لأحد سماسرة الخدم لتتمكن من المجيء، إلا أن حاجز اللغة واختلاف الثقافات سببا لها صدمة فلم تعد قادرة على الحركة، وبدت في عالم آخر، حاولنا أن نفهمها طبيعة عملها، لكن لم نستشعر أي استجابة… يبدو أنها بحاجة إلى علاج نفسي من الصدمة النفسية التي أصابتها”.

تبدأ أصول المشكلة من بلد المنشأ بتكبيل العمالة أنفسها بديون طائلة قبل المجيء للعمل في البحرين. تقول لاكشمي “دفعت 41.7 ألف روبية هندية (350 ديناراً بحرينياً أو ما يعادل 928 دولاراً) حتى أتمكن من المجيء، ويفرض المُقرض – وهو في الغالب من أهالي القرية – معدل فائدة كبير يصل إلى 30% شهرياً على المبالغ المتبقية”.

لاكشمي نموذج لغالبية من العمالة بشكل عام، وعمالة المنازل مررن بالوضع نفسه، وكن صيداً سهلاً وساذجاً لسماسرة البشر هناك، إذ ينتقونهن وفقاً للحاجة والعوز الذي يكنّ عليه، ويصورون فرصة العمل هنا حلماً ونهاية لكل المشكلات المادية التي يعانين منها.

وبحسب تقرير أميركي حديث [i] فإن “70% من العمالة الوافدة اقترضوا أو باعوا منازلهم لضمان الحصول على عمل في البحرين”. ويؤدي هذا التورط المادي إلى تحمل العاملات العمل القسري، والقبول بالعمل في ظروف سيئة من أجل الوفاء بهذه المبالغ الطائلة للسماسرة في أوطانهن، فيما لا يطيق البعض البقاء فيفضلن العودة من حيث أتين. وتشير أرقام وزارة العمل إلى أن 43% من إجمالي الشكاوى التي وردتها من العاملات كان سببها الرغبة في العودة.

وفي الغالب، تدفع هؤلاء مبلغاً من المال كبيراً نسبياً لوسطاء في بلدانهن لتدبير مسألة سفرهن وتوصيلهن إلى وكلاء الخدم في البحرين، ذلك برغم أن كل التكاليف يدفعها أرباب العمل مسبقاً، ويؤدي ذلك إلى تراكم الدين عليهن خصوصاً عندما يفاجأن بقيمة الراتب الشهري الذي يقل عن ما وُعدن به. كما أن معظم المقاولين يروّجون لخدماتهم بإغراء أرباب وربات الأسر بأن الرسوم التي يدفعها رب العمل لاستقدام العاملة شاملة راتب ثلاث شهور لا يتم دفعها للعاملة، ولا يزال هذا التصرف جارياً برغم منع وزارة العمل المكاتب من ذلك، واعتبار الأمر مخالفا لأنظمتها.

وبحسب التقرير الأميركي نفسه [ii] – والذي استند إلى معلومات “هيئة تنظيم سوق العمل” البحرينية – فإن 65% من العمالة الأجنبية الوافدة لم تطلع على عقود عملها، وأن 85% من هذه العمالة لا علم لها بشروط عملها عندما تصل إلى البحرين.

قيود الدَّيْن، وحبال الجهل بالحقوق والواجبات والفقر الأمية، يعملان على جر العاملة إلى الرضوخ وتحمل المعاملات غير الإنسانية على أمل أن ينتهي هذا الكابوس قريباً، ولكن ليله ربما يصبح طويلاً.

عقود العمل

يعتبر عقد العمل المعمول به في البحرين، من أهم العوامل التي تمنح أرباب العمل متسعاً لتجاهل الحقوق الأساسية للعاملات، والتي تنصّ عليها المواثيق الدولية، كالحق في الراحة والإجازة، والحق في الاحتفاظ بوثيقة السفر، والحق في تقنين ساعات العمل والراتب المنتظم.

ففي البحرين لا يوجد عقد عمل موحَّد ليُبرَم بين رب العمل وعاملة المنزل، فصيغة العقود تتفاوت، وبنودها تختلف ويتفاوت عددها من مكتب إلى آخر، كما تختلف عن النموذج “غير الملزم” الذي تم الحصول عليه من وزارة العمل.

فعلى سبيل المثال، في هذا النموذج الأخير للوزارة ونموذجين لمكتبين آخرين تم توقيعها جميعاً في أوقات مختلفة من 2010، خُرقت بنود العقد، أو خرق غياب البنود حقوق العاملة في ما يتعلق بأوقات الراحة، وحقها في الإجازة السنوية مدفوعة الراتب. ففي أحد العقود الذي كتب على ورقة رسمية، ذكر البند الثالث “توافق العاملة على العمل لدى صاحب العمل بوظيفة عاملة لفترة سنتين دون وجود أيام إجازة أو عطل رسمية للعاملة”.

وفي عقد آخر كتب على ورقة عادية مطبوع عليها اسم وكالة جلب الخدم، ذكر البند 11 “ساعات العمل للعاملة غير محددة حيث أنها ستعامل كواحدة من أفراد الأسرة، وللعاملة حق في إجازة أسبوعية مدتها نصف يوم، وليس لها الحق في الخروج من منزل صاحب العمل بمفردها في يوم إجازتها”.

أما في نموذج وزارة العمل؛ فقد ألغيت فكرة الإجازة بشكل كامل، ولم تذكر في أي من البنود، كما اتفقت العقود الثلاثة على استحقاق العاملة إجازة بعد انتهاء العقد بعد سنتين، ولكن أياً منها لم يذكر أنها إجازة مدفوعة الراتب، وهو التصرف المطبق بشكل واسع بين الأسر مع العاملات لديهن.

وعلى الرغم من اختلاف العقود الثلاثة، إلا أنها اتفقت على أنه في حال الإخلال بشرط العمل بإخلاص، فمن حق رب العمل أن يتخذ الإجراءات التأديبية المناسبة، ولم تذكر ماهية هذه الإجراءات أو المستند القانوني الذي سيتم الرجوع إليه في هذا الصدد، ولا تفسير لكلمة “مناسبة”.

خارج التغطية القانونية

على الرغم من السنوات الطويلة التي تواجدت خلالها عاملات المنازل في البحرين، والنمو المتسارع في أعدادها حتى شكلت نسبة لا يستهان بها من السكان؛ إلا أن العلاقة بين العاملات وأرباب العمل لا تخضع لتنظيم صارم يكفل حقوق الطرف الأضعف في العلاقة وهي العاملة.

فقد استثنيت فئة عمال المنازل من قانون العمل في القطاع الأهلي المعمول به منذ العام 1976 في نص صريح في المادة (2) منه “يستثنى من تطبيق أحكام هذا القانون عمال المنازل ومن في حكمهم” كما استثناهم التعديل التالي لسنة 1993 للقانون نفسه بنص مشابه.

وتراوح تعديلات جديدة على قانون العمل في أروقة البرلمان منذ العام 2006، وتتعلق هذه التعديلات بالإجازة السنوية وبتحديد الأجر بالنسبة لعمال المنازل، إلا أن هذه التعديلات لا تزال موضع جدل واختلاف بين غرفتي البرلمان: الشورى والنواب.

المشكلة الأساسية تكمن في أن غياب مظلة قانون العمل يغيّب أيضا الحماية الوقائية التي تعرّف هذه الفئة بحقوقها وشكل العلاقة بينها وبين رب عملها، وتتركها لعقد عمل بدائي وفضفاض لا يحمي ولا يضمن الحقوق، فلا رقيب على هذا الأمر. وعند وقوع الضرر على العاملة يتم البحث عن الأداة القانونية في القانون الجنائي، ويليه القانون المدني ومؤخراً قانون مكافحة الاتجار بالأشخاص [iii]، الذي جاء في مادته الأولى “… يُقصد بالاتجار بالأشخاص تجنيد شخص أو نقله أو تنقيله أو إيوائه أو استقباله بغرض إساءة الاستغلال، وتشمل إساءة الاستغلال، استغلال ذلك الشخص في الدعارة أو في أي شكل من أشكال الاستغلال أو الاعتداء الجنسي أو العمل أو الخدمة قسراً أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد…”.

وفي هذا الصدد تقول المحامية مها جابر، المتخصصة في القضايا العمالية، إن تعدد الجهات المختصة في كل من وزارات الداخلية والعدل والعمل، يجعل سير القضايا بطيئاً، وتصبح العملية طويلة ومرهقة لنفسية العاملات المتعرضات للضرر.

فبعد الانتهاء من المحكمة الجنائية، يتم رفع قضايا في المحاكم المدنية للمطالبة بالحقوق مما يدفع العاملات إلى الانسحاب. تشير جابر إلى قضية عاملة سيرلانكية تعرضت لاغتصاب عدة مرات في يوم واحد على يد رب عملها المنتمي لإحدى العائلات المتنفذة، وهربت العاملة وهي في حالة هستيرية، وتقدمت بشكوى ظلت في المحاكم لمدة ستة شهور، عانت خلالها من تردي حالتها النفسية، وانقطاع دخلها الذي كانت تنفق منه على عائلتها وزوجها الذي يتعالج من مرض السرطان، مما دعاها إلى إلغاء قضيتها والتنازل عن حقها في سبيل العودة إلى بلادها.

القانون هنا ليس أداة حماية من الضرر، وإنما أداة لإصلاح الضرر عندما يقع. وهناك نقطتان تجعلان هذه المظلة الحالية غير فعالة بالنسبة لعاملات المنازل، الأولى: عدم وعي الخدم بحقوقهن وبضرورة البحث والاحتفاظ بالأدلة في حال تعرضهم للضرر، والثانية: عدم توفر مسار مستعجل لمباشرة قضايا هذه الفئة إذا ما وقع الضرر بناء على ما تتطلبه خصوصية عدم توفر مكان الإقامة، إذا كانت العاملات يقمن مع أرباب عملهن. كما لا يؤخذ في الاعتبار انقطاع الدخل لحظة خروجها من بيت رب العمل، بالإضافة إلى صعوبة البقاء في الانتظار مع عبء الأضرار النفسية المترتبة على ما يتعرضن له من انتهاكات.

والمشكلة في هذا الوضع أن اللجوء إلى المحاكم في البحرين يستغرق وقتاً طويلاً في الغالب، مما يدفع العاملات المتضررات إلى التنازل والعودة إلى مواطنهن طرفاً خاسراً على كل الأصعدة. كل ذلك يُضعف أهمية وجود المظلات القانونية سالفة الذكر في توفير الحماية التي حرمها منها استثناؤهن من قانون العمل.

يعلق المحامي العام الأول بوزارة العدل، عبدالرحمن السيد “لا يوجد مسار مستعجل للتعامل مع قضايا عمال المنازل، إلا أن هناك توجيهات صريحة من النائب العام للتعجيل في القضايا الخاصة بهذه الفئة العمالية”، ويستدرك “لكن لابد من استكمال كافة الإجراءات ليكتمل ملف القضية” لتأخذ القضية مجراها في المحاكم المتتالية، مشيرا إلى أن “من أبرز الصعوبات التي تواجهنا في المحاكم: تأخر التبليغ… مما يضعف موقف المشتكي في القضية”.

ويؤكد حديث السيد، وكيل وزارة الخارجية عبدالله عبداللطيف إذ يقول “مملكة البحرين لديها من التشريعات ما يكفي لحماية هذه الفئة، ولكن الأمر يتطلب أن تقوم هذه الفئة – عند وقوع الضرر عليها – بالاستشارة أو طلب المساعدة، سواء من الجهات الرسمية في المملكة، أو سفارات بلادها، لكي تحصل على كافة حقوقها المادية أو المعنوية بالطرق القانونية”.

يشير عبداللطيف إلى استثناء العاملات من قانون العمل وتغطيتهم بقوانين أخرى “عمال المنازل – ومن في حكمهم، وإن كانوا لا يخضعون في الوقت الحاضر لقانون العمل، ولكن – تغطيهم تشريعات وأنظمة قانونية، حيث يمكن لهذه الفئة – وغيرها، وعند وقوع ضرر عليها، مثل الاعتداء على سلامة الجسم – اللجوء إلى القانون الجنائي. وأما إذا كان هناك إخلال وعدم التزام ببنود العقد المبرم بين هذه الفئة وأصحاب العمل، فعليها اللجوء إلى القانون المدني، وأما إذا كان الضرر هو العمل القسري؛ فإن القانون الجنائي وقانون مكافحة الاتجار بالأشخاص يجرّم هذا الفعل، وتطبق العقوبة الأشد في أي من القانونين”.

يستطرد عبداللطيف “يمكن لأي شخص مقيم – بما فيهم هذه الفئة وقبل خروجه من البلاد – إبلاغ موظفي الجوازات في أي منفذ بأن هناك مستحقات مالية له لدى أصحاب العمل، وبدورها تقوم الإدارة المختصة بإرجاء خروج الشخص، وتعمل على استيفاء كافة حقوقه من صاحب العمل”.

ويطرح هذا التصريح تساؤلاً بشأن قدرة العاملات المتضررات من الاستفادة من هذه القوانين في ظل تقييد حريتهن في الحركة خارج المنزل، وفي ظل عدم وجود آلية تنظيم وإثبات انتظام الدفع، والأهم عدم وجود الوعي لدى هذه الفئة بحقوقها وبوجود قوانين أخرى غير قانون العمل، تلجأ إليها، أو حتى إدراك أهمية عامل السرعة الذي يعتبر أساسياً للاستفادة من القانون الجنائي حال وقوع الضرر.

من المهم الإشارة هنا إلى أن استثناء عاملات المنازل من مظلة قانون العمل حرمهن أيضا من الاستفادة من تعديل القانون الخاص بـ “إلغاء الكفيل” الذي وضع حداً لـ “عبودية” العمالة لأرباب العمل في 2009.

ففي حين أصبح بمقدور العمالة الأجنبية التنقل بين أرباب العمل (الكفلاء) إذا ما وجدوا فرصة عمل ومعاملة أفضل؛ لا تزال العاملات مقيدات بنظام الكفالة. مع العلم أن هذا النظام الأخير يُعتبر من أهم وسائل دعم الكفيل، وهو الطرف الأقوى أصلاً، وإضعاف شكوى العاملات المتضررات، خصوصا ممن لا تظهر عليهن آثار ضرب أو عنف واضحة عند الشكوى.

في حال هروب العاملة من منزل رب عملها، يسارع الكفيل إلى تسجيل “بلاغ عن هروب” الذي يعتبر بحد ذاته مخالفة، أو اتهام العاملة بالسرقة، الأمر الذي يأخذ القضية إلى مسارات متشعبة، ويطيل الإجراءات والتعامل معها. وتؤكد ذلك إحصاءات وزارة الداخلية التي أوضحت تسجيل 43 قضية لعاملات المنازل ضد أرباب العمل في 2010 أغلبها الاعتداء على سلامة جسم الغير والاغتصاب، في مقابل 1865 قضية سجلت لأرباب عمل ضد عاملات أغلبها سرقة وهروب. هذا قد يدل أيضاً على صعوبة وصول العاملات إلى جهات الشكوى، ومسارعة أرباب العمل لتسجيل شكاوى سرقة وهروب عند اختفاء العاملة للاستفادة من القانون الحالي المنظم لقضايا الهروب مؤكدا ما جاء في التقرير الأميركي[iv] الذي يشير إلى ذلك بأن “معظم العمالة الهاربة من رب العمل الاستغلالي يتم تعريفها بالعمالة “الهاربة” وهذه يتم توقيفها مدة أسبوعين والترحيل بعد ذلك”.

الاستثناء من قانون العمل والإجراءات المتباطئة يشرعان أبواب الانتهاكات

البعد الدولي

البحرين ليست استثناء في افتقارها لقانون خاص ينظم العلاقة بين العامل ورب العمل، فجاء في وثائق مؤتمر العمل الدولي الـ99 للعام [v]2010 “لأن العمال المنزليين لا يتمتعون في الغالب بوضع واضح في إطار قوانين العمل الحديثة، فإنهم يتعرضون لاستبعاد فعلي من نطاق اللوائح التنظيمية وإنفاذها، ولا يعني ذلك بالضرورة أن حياتهم المهنية لا تخضع للتنظيم والمراقبة، بل أن حياتهم وعملهم محكومان بقواعد قوية غير حكومية تتعلق بالعمل في أسرة صاحب العمل، وهي تختلف إلى حد كبير من سياق ثقافي إلى آخر، لكنها جعلت من العمال المنزليين من بين أكثر العمال تهميشاً – حتى بات العمل اللائق بالنسبة إليهم طموحاً صعب المنال”. فيما اعتبر البند (34) من الوثيقة نفسها عمال المنازل “مستبعدون بصفة خاصة من نطاق الحماية الاجتماعية والقانونية”، و”معرضون بصفة خاصة للاستغلال، وأن مصالحهم المشروعة ورفاههم أموراً طالما تجاهلتها معظم البلدان”.

وتؤكد ذلك مستشارة إعلان المبادئ والحقوق الأساسية في العمل في منظمة العمل الدولية السابقة، خولة مطر “لا يوجد قانون واحد ينظم العلاقة بين عمال المنازل وصاحب العمل، ولكن كل معايير واتفاقات منظمة العمل الدولية – وغيرها من المنظمات الدولية التي تنظم العلاقات بين البشر وتحافظ على حقوقهم – شاملة لعمال المنازل، لذا تعمل منظمة العمل الدولية الآن على صياغة اتفاق جديد خاص بعمال المنازل بعد أن كثرت الشكاوى من الانتهاكات التي تحصل في هذا المجال”.

وتوضح مطر “معظم قوانين العمل في الكثير من الدول العربية لا تشمل عمال المنازل، بمعنى أن قانون العمل يطبق على العاملين في مختلف المجالات إلا العاملين والعاملات في المنازل. لذلك قام المكتب الإقليمي للدول العربية بوضع تصور، أو مسودة لقانون، أو ربما يُطلق عليه ملحق لقانون العمل اللبناني، خاص بعمال المنازل، ومطلوب من مفتشي العمل دراسته لمراعاة تطبيقه والالتزام به، وفرض الرقابة على ذلك”.

تتحدث مطر عن الوضع خليجياً بقولها إن المكتب التنفيذي لوزراء العمل والشؤون الاجتماعية لدول مجلس التعاون وضع مسودة استرشادية لقانون خاص بعمال المنازل “بغرض الاستفادة منها من قبل المشرِّعين في مختلف الدول الخليجية عند صياغة قوانين جديدة، أو تحديث قوانين العمل الخاص بكل دولة”.

وبحسب الأمين المساعد للأنشطة والمشاريع بالاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، الحقوقي كريم رضي بالاتحاد العام لعمال البحرين، والذي حضر مؤتمر العمل الدولي في دورته التاسعة والتسعين، في منتصف هذا العام (2010) في جنيف، فإن البحرين كانت تتجه إلى التوقيع على اتفاق تكمله توصية ويكون ملزماً للتطبيق بشأن توفير العمل اللائق للعمال المنزليين، إلا أنها تراجعت في اللحظة الأخيرة بعد اجتماعات مع ممثلي دول مجلس التعاون، وتذكيرها بأن القرارات تتخذ جماعياً، أي أن دول مجلس التعاون تتخذ موقفا ككتلة واحدة، ولا يجوز لإحداها أن توقع منفردة على مثل هذه الاتفاقات.

ويتضمن هذا الاتفاق [vi]بنوداً حمائية لهذه الفئة من العمال ابتداءً من سن العمل القانوني الذي لا يقل عن 18 عاماً، وضرورة العمل بأجر، حرية الإقامة، إلزامية فترة الراحة لمدة 24 ساعة على الأقل أسبوعياً، حرية اختيار مكان قضاء أوقات الراحة الأسبوعية، والاحتفاظ بهويتهم ووثائق سفرهم.

حتى يصدر قانون خاص

لا يكفى وجود القوانين الجنائية والمدنية وقانون مكافحة الاتجار بالأشخاص لتكون بدائل لقانون العمل، وبالتالي تبرئة ساحة الجهات الرسمية من مسؤولية المعاناة التي تتعرض لها فئة عمال المنازل، فلا بد من تعريف هذه الفئة بالقوانين، وإيجاد قنوات واضحة للوصول إلى حمايتها وضمان هذه الحماية، كونها الطرف الأضعف.

قاد تتبع معاناة المتعرضات للأضرار المختلفة من عاملات المنازل إلى تعريف عدد من الأطراف والإجراءات المسؤولة عن هذا الضرر، كما أوصلنا إلى بلورة عدد من الإجراءات السريعة الممكن اتخاذها لتقليل إمكانيات تعرض هذه الفئة للضرر. أخذاً في الاعتبار أهمية هذه الفئة التي تشكل ما يقارب 4.3% من عدد السكان، وتلعب دوراً مهمّاً في تسهيل حياة أسر كثيرة عند خروج المرأة للعمل، أو حتى بقاءها في المنزل، والقيام بالدور البديل لربات البيوت من أعمال منزلية وحتى تربية الأطفال.

يقول الباحث الحداد “ما تتعرض له فئة عمال المنازل من المشكلات المعقدة في دول الخليج يحتاج لدراسات جدية متعمقة، فهي تقابل طبقة  المنبوذين في الهند، مع فارق أن أولئك من صميم النسيج الاجتماعي وهؤلاء وافدون، غرباء يعيشون داخل أهم مؤسسة ومكوِّن في المجتمع، وهي الأسرة، ما يفترض – وبحكم صلتهم المباشرة بالعادات والتقاليد والتطور الثقافي اليومي – اندماجهم أكثر من غيرهم في النسيج الاجتماعي. لكن ذلك خلاف الواقع”.

دول المصدر، وسفارات الدول المصدِّرة لعمالة المنازل، اتخذت بدورها بعض الإجراءات لحماية مواطنيها، إلا أنها لم تستطع إحكام دائرة الحماية التي تأملها لأسباب متعددة.

فالسفارة الهندية فرضت راتباً للكفيل الموظف لا يقل عن 1000 دينار بحريني (2.65 ألف دولار أميركي)، وأن يتم إيداع وتجميد 1000 دينار أخرى في حساب مصرفي خاص تحسبا لأي سوء تفاهم بين الطرفين يستدعي تسفير العاملة، كما فرضت أن لا يقل المبلغ الموجود في حساب رجال الأعمال عن 10 آلاف دينار بحريني (26.52 ألف دولار). إلا أن السفارة لم تتمكن من محاصرة جلب العمالة الهندية إلى البحرين بهذه الإجراءات.

يقول مساعد الملحق العمالي بالسفارة، سانتوش بيلاي: “هذه معايير وضعناها لحماية العاملات، ولكنها ليست إلزامية. فلا زالت الكثيرات يأتين إلى أرباب عمل من دون المرور بإجراءات السفارة، خصوصا مع تعدد منافذ الخروج من الهند وهو أمر يجعل تتبع المسافرات لأغراض الخدمة في البيوت صعب جداً، فلم تسجل في السفارة سوى 110 اتفاقات، فيما نعرف أن عدد من دخلن البحرين لغرض الخدمة في المنازل يفوق هذا الرقم بكثير”.

كذلك أكدت السفارة الفلبينية أن الحكومة الفلبينية فرضت حديثاً قيوداً صارمة للخروج من الفلبين للعمل في المنازل. وتلزم الحكومة العاملات المقبلات على العمل في الخليج – بشكل عام – حضور ورش عمل تنظمها هيئة التعليم وتنمية المهارات، للتدرب على المهارات اللازمة للعمل في البيوت، وتعرفيهن بحقوقهن، وتزويدهن بأرقام الاتصال، وهذا يفسر ارتفاع عدد  الفلبينيات الشاكيات لدى السفارة من سوء معاملة أرباب الأعمال. إلا أنها – ومع ذلك – تشترك مع السفارة الهندية في عدم إحكام السيطرة على عدد ونوعية العاملات القادمات من طرق أخرى غير الوكلاء بين البلدين.

المتطوعة السيرلانكية في جمعية حماية العمالة الوافدة، ايفون هاسكران،  أكدت أن سيرلانكا بدأت أخيرا تطبيق برامج تدريبية وتوعوية بطبيعة العمل والمجتمع لمن يرغبن بالعمل في خدمة المنازل في الخارج، وقد انعكس ذلك بوضوح على تكلفة استقدام العاملات من سيرلانكا التي كانت الأقل في  السابق كما تم رفع رواتبهن الشهرية.

يفتح عدم توحيد معايير الاستقدام المجال أمام سماسرة البشر في بلدان العاملات – كما في البحرين أيضاً – للاستغلال، فكثيرٌ أصبح بإمكانهم استقدام الخدم بشكل غير رسمي، وهؤلاء ليس بالضرورة لديهن القدرة والطاقة والمعرفة والتهيؤ للعمل في خدمة المنازل، ولا حامي لهن سوى ضمير الأسرة التي سيعملن لديها.

ويبدو الحل في يد وزارة العمل التي تصدر تراخيص العمل، فبإمكانها أن تشترط – مع الوثائق المطلوبة – إثبات استقدام هؤلاء العاملات عن طريق مكاتب معتمدة، وتقديم شهادات صلاحية جسدية ونفسية للعمل قبل استصدار الترخيص.

حالياً، تطلب وزارة العمل أن يوفر لها طالب الترخيص أوراق الهوية، ومكان العمل، وقيمة الدخل الشهري، وعدد أفراد الأسرة فقط. ويشار إلى أن الحكومة الفلبينية بادرت إلى اشتراط استقدام العاملات الفلبينيات عن طريق مكاتب.

ولتفادي انعدام الأدلة في قضايا حجب الراتب، تسعى جمعية حماية الخدم لإقناع الجهات المسؤولة بفرض فتح حساب للعامل الأجنبي يُوْدع فيه الراتب، لتثبيت الدفع شهرياً لضمان حقوق طرفي العمل.

كما أن خصوصية أوضاع العاملات اللاتي يقمن مع كفلائهن، وبالتالي يصبحن بلا مأوى في حال شكوى العاملة من تضررها، وانقطاع الدخل في فترة التقاضي، يُقترح أهمية إنشاء مسار مستعجل للقضايا الخاصة بالخدم لاختصار مدة بقائهن في الانتظار، ويقلل العبء النفسي الواقع عليهن من جراء ذلك، وكذلك العبء المادي من على دُور الإيواء التي تعمل طوعاً ومن دون دخل سوى تبرعات الأعضاء.

وبرغم أهمية توعيه فئات الخدم بحقوقهن وواجباتهن، فإن التوعية المجتمعية الموازية بحقوق هذه الفئة التي تعيش في موقع قريب من الأسرة – بل في وسطها تماماً – لا يقل أهمية أيضاً، لإشاعة مبادئ احترام حقوق الإنسان، والاستقرار في الجو الأسري.

تقترح فليفل أمام لجنة مكافحة الاتجار بالبشر – المكونة من أطراف وزارية وأهلية – أن تزوَّد العاملات – لحظة وصولهن إلى المطار – بمنشورات تعرّفهن بحقوقهن وواجباتهن، وتزودهن بخطوط الاتصال الساخنة لضمان وصولهن إلى المساعدة عند الحاجة لذلك.

انتبهت الحكومة الفلبينية إلى هذه النقطة، فبحسب الملحق العمالي في السفارة الفلبينية لدى البحرين سانتوس اليخاندرو، فإن الحكومة الفلبينية تطبق الآن نظاماً صارماً يُلزم مكاتب العمالة هناك بتوعية العمالة المنزلية، وإخضاعها للتدريب والتعريف بالقوانين قبل المغادرة إلى البحرين.

في الوقت الذي يقول فيه وكيل الخارجية البحريني “تعمل اللجنة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص حالياً على وضع خطة إعلامية متكاملة من كافة الجوانب، للتوعية من ظاهرة الاتجار بالأشخاص، حيث تستهدف هذه الحملة العمالة الوافدة بمن فيهم عمال المنازل، ومن في حكمهم، وكذلك أصحاب العمل والمجتمع بشكل عام”.

ويبقى العقد المكتوب بين رب العمل والعاملة، من أهم الوثائق المنظمة للعلاقة بين الطرفين، فهو بحاجة لأن تعاد صياغته بدقة، وليكون موحَّداً وشاملاً لجميع جوانب العلاقة التي تضمن حقوق وواجبات الطرفين.

يؤكد هذا ما جاء في وثائق مؤتمر العمل الدولي الأخير “لم تترك هيئات الإشراف في منظمة العمل الدولية مجال لبس في أهمية العقد المكتوب، وأن إلزام أصحاب العمل باشتراط كتابي، هو ممارسة تشريعية يمكن أن تيسّر تحقيق هدف إضفاء طابع رسمي على علاقة العمل المنزلي، وأن تلقي بوضوح في الآن ذاته، بعبء المسؤولية على الطرف ذي السلطة التفاوضية الأكبر”[vii].

يبقى من المهم العلم أن جميع الحالات التي تضمها سجلات الشرطة ومراكز الإيواء هي حالات طفحت بما تعرضت له من أضرار، وهذا يدعو للتفكير في أهمية البحث عن آلية رقابة أو تفتيش على أوضاع العاملات في مواقع العمل، وتأخذ في اعتبارها خصوصية الأسر.

تعلق مطر هنا “من تجربتي، توجد لدى وزارة العمل في البحرين قدرات مميزة عند مفتشي العمل، وخصوصاً الشباب من الجنسين، لأن من بينهم الكثير من العناصر النسائية، وهذا يسهل مهمة دخول المنازل إذا ما استدعى الأمر ضمن قانون جديد ينظم مهنة الخدمة المنزلية”.

وترى أن أكثر صعوبة مرتبطة بالرقابة على عمال المنازل هي مسألة “حرمة المنزل”، إذ من الصعب تنفيذ دورات تفتيش ضمن المنزل نفسه “هنا بالإمكان استخدام العناصر النسائية ضمن جهاز تفتيش العمل للقيام بهذا الدور، لأنهن على كفاءة عالية، وبإمكان منظمة العمل الدولية توفير تدريب خاص لهن مرتبط بعمال المنازل”.

النوايا وحدها لا تكفي

عندما كان القانونيون يصوغون القانون رقم (1) لسنة 2008 بشأن مكافحة الاتجار بالأشخاص؛ تم الاطلاع على عدد من المراسيم والقوانين ومنها المرسوم رقم (7) لسنة 1990 بشأن الانضمام إلى الاتفاق الخاص بالرّق، المبرم في 1926، والمعدَّل بالبروتوكول المحرر في العام 1953، وعلى الاتفاق التكميلي لإبطال الرق وتجارة الرقيق، والأعراف والممارسات الشبيهة بالرِّق للعام 1956، وهذا يلفت إلى أن لدى البحرين نية قديمة وأصيلة لمغادرة عهد الرق. إلا أن تسارع عجلة التنمية وتدفق عمال المنازل كطرف أضعف، وجاهل في العلاقة مع أرباب عمل تجمعهما خصوصية مكان العمل الذي يصعب اختراقه؛ أضاعت حقوق هؤلاء العاملات اللاتي أصبحن يمثلن نحو 4,2% من عدد السكان.

من حسن حظ العاملات أن هناك مراتب عالمية وتصنيفات حقوقية تسعى البحرين – شأنها شأن دول كثيرة – لنيلها بتطبيق معايير حقوقية لا بد أنها ستطال العاملات عاجلا أم آجلا. وتبقى بعد ذلك سرعة التنفيذ، وتعديل الإجراءات، وفرض بنود حقوقية في عقود عمل حقيقية وموحدة، تنظم العلاقة، وتعرّف حقوق جميع الأطراف.

أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف من شبكة «أريج» – إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية www.arij.net.


تعليقاتكم

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *